فنانون مغاربة في عباءة السياسة
فنانون مغاربة في عباءة السياسة
عبد العزيز بنعبو
الرباط ـ قبل سنوات عديدة خلت، كانت بعض الصالونات الثقافية تعيش جدل أحقية المثقف في الانتماء الحزبي من عدمه، وإلى أي مدى يمكن لـ«الفكر الحزبي» السياسي أن يفسد المثقف، وما هي حدود العلاقة بينهما، وفي ذلك اجتهدت أقلام وازنة، منها من دافع عن الانتماء، والبعض الآخر فضل وضع بطاقة الحزب في خانة الخيانة للحرية الثقافية والفكرية والإبداعية.
الأكيد أنه في المغرب مسألة انتماء عدد كبير من المثقفين إلى أحزاب سياسية خاصة اليسارية تعد أمرا مثيرا للجدل دائما، بل وجهت اتهامات إلى أحزاب بذاتها، من كونها تسببت في الهيمنة على هيئات ثقافية كبيرة مثل اتحاد كتاب المغرب، وهنا تحضر ثنائية «الاتحاد الاشتراكي» و«الاستقلال» بحكم أن معظم رؤسائه كانوا إما من هذا الحزب أو ذاك، لكن لم يحدث أبدا أن حضر الانتماء بشكل جلي وواضح أو أثر على قرارات ذات طبيعة ثقافية وفكرية وإبداعية، فقط الاتهامات تتجدد كلما كان الرئيس «اتحاديا» (ينتمي للاتحاد الاشتراكي) أو «استقلاليا» (ينتمي لحزب الاستقلال) وفق التعبيرات المتعارف عليها محليا.
وظهرت إيجابيات تداخل وتماهي السياسي والمثقف في أبهى حلله حين تم تشكيل حكومة التناوب، فكان وزير الثقافة محمد الأشعري أحد قادة حزب «الاتحاد الاشتراكي» والحقيقة أن ولايته كانت فعلا ثورة في تدبير وزارة الثقافة وابتكار حلول لدعم المثقف والفنان، لا زالت سارية المفعول إلى يومنا هذا رغم تسجيل ملاحظات عديدة إلا انها شكلت في وقتها ثورة حقيقية.
هذا عن المثقف، ماذا عن الفنان؟ الجواب بسيط جدا إذ يكفي تأمل المشهد الفني ولو بعبور لنعرف أن الفنان المغربي لم يكن لديه أي علاقة بالسياسة، وتختلف الأسباب منها الذاتي ومنها الموضوعي، لكن كانت هناك حالات استثنائية لمسرحيين كبار كانوا يمارسون السياسة ونذكر منهم رائد المسرح الفردي في المغرب عبد الحق الزروالي وأسماء أخرى قليلة لكنها كانت حاضرة، لكن الغلبة لغير المنتمين حزبيا من فنانين يمشون «جنب الحيط» كما يقال، يكتفون بالفن مسرحا كان أو غناء، ولا يخوضون فيما هو سياسي أبدا، ويحضر هنا التصريح الذي أثار ضجة قبل اشهر للفنان عبد الله فركوس، الذي سئل عن موقفه من الحرب على غزة، فقال إنه لا علاقة له بالسياسة، ليتضح أن مفهوم السياسة لدى غالبية الفنانين خاصة جيل الرواد، هو مفهوم ملتبس جدا وغير واضح ويساوي المشاكل.
بالنسبة للجيل الجديد من الفنانين المغاربة، فإن الأمر مختلف تماما وكليا، جيل يعرف ما يريد وماذا يفعل، ويناضل من أجل حقوقه دون أن يخاف من ممارسة السياسة، تجده ينظم الوقفات الاحتجاجية ويشارك في المسيرات الاحتجاجية ولا يهمه أي حزب أو هيئة تنظمها، فقط يؤمن بفكرة المشاركة في صناعة وعي سياسي بالحقوق والواجبات أيضا.
بن كيران يقحم طوطو
ليست الصورة دائما ناصعة وناضجة لاقتحام الفنان للسياسة أو ممارستها، بل هناك تجاوزات قد يمارسها السياسي أيضا، وهنا تحضر واقعة مهاجمة الأمين العام لحزب «العدالة والتنمية» المعارض، عبد الإله بن كيران، للمغني «الرابور» طه فحصي الشهير بـ «طوطو غراندي» ووصفه بـ «الصلكوط» وهي عبارة دارجة تعني الفاسد أخلاقيا.
هذا الاقحام الذي تم عنوة لـ «طوطو» عبر بوابة «المزايدة السياسية» لبن كيران كما وصف، حرك المشهد السياسي ومعه الفني أيضا، واستنكره عدد من السياسيين والنجوم المغاربة وأعلنوا تضامنهم مع «الرابور» الشهير، وصنفوا تصريحات بن كيران في خانة «الرداءة» مؤكدين أن الإساءة التي تعرض «طوطو» كبيرة. من جهته، لم يتأخر رد مغني الراب «طوطو الغراندي» بل تحدث عبر لايف وهو يرتدي جلبابا ويضع طربوشا تقليديا وفي يوم عيد المولد النبوي الشريف، ليؤكد أنه لا ينتمي لأي حزب سياسي، عكس ما يتم تداوله، وباشر المغني المذكور حصة السخرية من بن كيران وهجومه، وتوج اللحظة بإشعال سيجارة أثارت الجدل مرة أخرى هل هي «حشيش» أم مجرد تبغ.
وحسب المتتبعين فإن هذا «الحضيض» الذي وصله السجال بين فنان وسياسي، يعكس الحاجة إلى التأطير والتوعية بأهمية التكامل وليس التضاد، والأهم من ذلك، هو عدم إطلاق أحكام القيمة الأخلاقية وغيرها من زاوية رؤية محدودة، والغمز هنا كان للأمين العام للحزب الإسلامي، الذي كان وصفه «للرابور» عبارة عن حكم أخلاقي مسبق.
غير أن علاقة الحزب الإسلامي بالفن قد تكون طارئة لكنها ليست جديدة، فقد سبق أن استعان بفنانة في عدد من ملتقياته، خاصة تلك التي يدافع فيها عن رؤيته للمستجدات التشريعية المتعلقة بالأسرة والمرأة وغيرها، وكانت أبرز تلك الوجوه الفنية هي الفنانة فاطمة وشاي، التي طرحت بشأن انتمائها إلى حزب «العدالة والتنمية» العديد من علامات الاستفهام، خاصة بعد تكريمها من طرف «حركة التوحيد والإصلاح» التي تعتبر الذراع الدعوي للحزب الإسلامي.
الفنان في البرلمان
شكل آخر من أشكال الحضور الفني لحزب «العدالة والتنمية» كان عبر وصول الفنان ياسين الحجام إلى البرلمان بجبة الحزب الإسلامي، وقد كانت تجربة أولى وفريدة، حيث لم يظهر من انتماء الفنان للحزب سوى اللافتة التي تلي كلمة نائب برلماني عن الحزب الفلاني، أما الحصاد، فقد أكد عدد كبير من الفنانين أنه كان جيدا وأثمر العديد من المكتسبات منها قانون الفنان.
في المشهد الثقافي والفني الأمور متشابكة، لا حدود بين كاتب مسرحي يصنف في خانة الفنان والمثقف أيضا، لكن بعض الممثلين لا علاقة لهم بالثقافة لا من قريب ولا من بعيد، وبعضهم بالكاد يجيد إلقاء خطبة أو الإدلاء بتصريح تلفزيوني مقنع، لذلك فإن بعض «المفوهين» منهم كانوا دائما في قيادة التنظيمات النقابية وفي مقدمة المفاوضين على بعض الملفات الحارقة.
ومنذ سنة 2021 دخل إلى ملعب الفن لاعبون جدد مثل حزب «التجمع الوطني للأحرار» بعد أن كان الميدان ثقافيا لأحزاب تقليدية يسارية مثل «الاتحاد الاشتراكي» و«التقدم والاشتراكية» ومحافظة مثل «الاستقلال» كما تدافعت أحزاب أخرى في محاولة لإيجاد مكان لها في هذا المشهد، الذي لم يصب مطلقا في صالح الفن والفنان في المغرب، كما أكد عدد من الممارسين لفنون العرض.
في انتخابات الثامن من أيلول/سبتمبر 2021 برز اهتمام غير عادي وغير مسبوق بالسياسة من طرف الفنانين المغاربة الذين حضروا في المشهد الانتخابي، سواء كمصوتين في صناديق الاقتراع، أو كمرشحين عبروا إلى قبة البرلمان، والحديث هنا عن كل من الفنانة فاطمة خير وزميلتها كليلة بونعيلات، وهما معا أكملا المسيرة التي بدأها الممثل ياسين أحجام والمطربة الأمازيغية فاطمة تباعمرانت.
الكاتب المسرحي والباحث والأستاذ في المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، محمد أمين بنيوب، يرى أن فوز فنانين مغاربة في الانتخابات ووصولهم إلى قبة البرلمان ليس بمستجد جديد، لأنه «دائماً كانت هناك وجوه ثقافية وفنية تشارك في الاستحقاقات الانتخابية السابقة، سواء في أحزاب يسارية أو ليبرالية. فقط، مع استحقاقات أيلول/سبتمبر 2021 سلطت الأضواء على مشاركة الفنانين، لأنهم يحظون بالشهرة وصورتهم الفنية في وسائل الإعلام ومواقع التواصل سبقت انتماءهم الحزبي».
مربط الفرس في هذه التصريحات أنه «ربما هناك وعي لدى بعض الفنانين، أن حل قضاياهم الفنية والمهنية يمر عبر الانخراط في العمل السياسي المباشر لا عبر وسائط أخرى» كما أكد أنه لا يهمه اللون السياسي للفنان وهيئته الحزبية، بقدر ما يهمه طرحه لقضايا معضلات الثقافة والفنون واستعداده للترافع عن جل قضايا المهن الفنية والثقافية وتقديم مشاريع وقوانين ومقترحات مراسيم تنظيمية لسياسية ثقافية وطنية جديدة وهو في معترك تدبير الشأن العام، محلياً، جهوياً ووطنياً.
فنانون في أحضان الحزب
مسألة الانتماء الحزبي الصريح والواضح لم تكن غائبة عن المشهد الثقافي والفني المغربي، قد تكون شكلت عبئا لبعض حامليها خاصة وهم يخوضون غمار استحقاقات مهنية أو نقابية، لكنها كانت أمرا واقعا وملموسا ومتعارفا عليه بخصوص قامات إبداعية وفكرية انتمت لأحزاب يسارية وأخرى محافظة، وظلت وفية للمسار الثقافي المغربي دون خلط بين بطاقة الحزب وبطاقة الانخراط في هيئة ثقافية أو فنية.
لكن بعد إعلان عدد من الفنانين المغاربة عن تأسيس «الفيدرالية المغربية للفنانين التجمعيين» تعالت أصوات غير مرحبة بهذه الخطوة التي وصفت بكونها تعمق فجوة التشرذم في الوسط الفني الذي يعاني من حالات انفصال بالجملة بين نقابات تتنازع الحيز فيما بينها.
كان تأسيس الفيدرالية المذكورة قبيل انتخابات أيلول/سبتمبر، والتقى عدد من الفنانين برئيس حزب «التجمع الوطني للأحرار» عزيز أخنوش، الذي كان ساعتها وزيرا للفلاحة، كما باشروا الترويج والدعاية لمشاريع اجتماعية لفائدة الفنانين اعلن عنها الحزب صاحب شعار «الحمامة» وتوالت الكبسولات المنشورة على موقع الحزب المذكور قبيل الانتخابات أو ابان الحملة، والتي تحدثت «عن بعض التزامات (التجمع الوطني للأحرار) المنصوص عليها في البرنامج الانتخابي، وتحديدا التي تخص القطاع الصحي، حيث إنه سيتم تخصيص منحة للولادة في حدود 2000 درهم (19596 دولارا) للمولود الأول و1000 درهم (9798 دولارا) للثاني، شريطة الالتزام بالفحوص الطبية الضرورية للنساء في فترة الحمل والمواليد الجدد، كما أنه سيتم إحداث بطاقة رعاية التي تحدث نظام التكفل المباشر بالاستشارات الطبية والعلاجات والأدوية».
اليوم وبعد نصف مرور نصف ولاية الحكومة التي يقودها حزب «التجمع الوطني للأحرار» ليس هناك أي رائحة لتلك المشاريع، وربما هي تطبخ على نار هادئة، كما علق أحد الظرفاء، مؤكدا، أن تلك الوعود هي من باب «حديث الصينية» (تعني كلام عابر).
بالنسبة لعموم المشهد الفني، وخاصة النقابات الفنية، التي اتفقت رغم اختلافاتها الكبيرة، على رفض أو استهجان هذه «التفرقة» الجديدة التي طالت الجسد الفني المغربي، فقد كانت بمثابة الصدمة أن يعلن مجموعة من نجوم الفن الانتماء والتكتل في شكل هيئة تنتمي صراحة لحزب ما، بعدما كان الانتماء فردي وذاتي وليس جماعي أو نقابي.
سخرية بعض أهل الفن من هذه الخطوة، بلغت مداها، حين وصفت بسبب تزامنها مع الإغلاق ابان أزمة وباء كورونا، بأن المسارح والقاعات السينمائية لم تفتح أبوابها، لكن أبواب بعض الأحزاب فتحت في وجه الفنانين استعداداً للانتخابات التشريعية والبلدية التي جرت في الثامن من أيلول/سبتمبر من سنة 2021.
الواضح، أن انتماء المثقف والفنان لحزب سياسي دائما ما يثير الجدل في المغرب، لحساسية العلاقة والتباسها وعدم الفهم الصحيح لأصول الممارسة السياسية، وطرح التساؤلات، هل هي بدافع «النضال» أم فقط من أجل «المكاسب الظرفية» وعموما يبقى حق الفنان في ممارسة حقه الدستوري بالانتماء الحزبي والعمل السياسي محفوظا، يقابله التشكيك والاستغراب والتساؤل حول أسباب نزول هذا الانتماء.
«القدس العربي»: