دراسات

الحركة الصهيونية ودورها في إعادة إنتاج الصور النمطية عن الشرق بقلم د. حياة المتدين -المغرب

بقلم د. حياة المتدين -المغرب

الحركة الصهيونية ودورها في إعادة إنتاج الصور النمطية عن الشرق

  بقلم د. حياة المتدين -المغرب

تحدثنا في مقال سابق عن الاستعمار الغربي ودوره في إنتاج صور نمطية عن الشرق، والحقيقة أنه لا يمكن الحديث عن الإمبريالية الغربية دون التطرق للحركة الصهيونية وزرع إسرائيل في قلب العالم الإسلامي، فقد لعب قيام الدولة الصهيونية في فلسطين دورًا أساسيًّا في إعادة إنتاج هذه الصور النمطية عن الشرق، وتثبيتها وإيجاد صورًا جديدة، لخدمة مصالحها ووجودها.

وليس الهدف من هذه الفقرة دراسة الصهيونية بوصفها فكرة وحركة يهودية، إنما نبحث في علاقتها بالفكر المسيحي الغربي، وجذورها في التاريخ الأوروبي، وبعده التاريخ الأمريكي، ومعرفة إلى أي مدى ترتبط بالإمبريالية؟ وكيف تتلاءم مع طروحات الاستشراق؟

يُعد موسى هس الألماني اليهودي Moses Hess (1812م ـ 1875م) أول من نظر للصهيونية ودعا إليها في كتابه “روما والقدس” الذي صدر سنة 1962 م بدأ هس

 أول الأمر بالدعوة إلى اندماج اليهود بالحياة في المجتمعات التي يعيشون فيها، وإلى أن الدين اليهودي قد مات، وأن المسيحية هي دين العصر، ثم اعتنق الشيوعية وصاحب ماركس وانجلز، ثم تركها واتجه نحو فكرة الصهيونية. وقد ردد في كتابه حكمًا عنصريًّا ضد المشرق مماثلاً لما راج في القرن التاسع عشر من أفكار، يقوم على افتراض التفوق العنصري، وعلى وضع قوالب ذهنية سالبة عن الشعوب الأخرى، يقول في هذا الصدد:” إن تاريخ الإنسانية أصبح مقدسًا من خلال اليهودية التي هي أساس الحضارات والأديان، واليهود وحدهم بين الشعوب قادرون على السمو، لأنهم يمتلكون، بوحي من روح الله، موهبة مميزة في الرؤى الاجتماعية”1.

ويمضي هس بتبنيه مفاهيم القرن التاسع عشر العنصرية، وقبوله لحجة

“رسالة التحضر” في قوله: “ثمة مهمة كبرى محجوزة لكم أيها اليهود، أن تكونوا صلة وصل حية بين قارات ثلاث، عليكم أن تكونوا حملة الحضارة لشعب آسيا البدائي، عليكم أن تكونوا الوسطاء بين أوروبا وآسيا البعيدة، وأن تفتحوا الطريق إلى الهند والصين، تلك الأصقاع المجهولة التي يجب أن تفتح على مصاريعها نهاية المطاف للحضارة”2.

وهو لا يخفي أهدافه الاستعمارية، ولا حتى أفكاره العنصرية، فيضيف: “إن أهالي هذه الأصقاع الأصليين، هؤلاء القطعان البهيمية من الأعراب والأفارقة،  ـ على حد تعبيره ـ الذين يعيشون في أرض يجب ألا يرثها إلا اليهود، سوف لن يستشاروا، وينبغي أن يفرض المستوطنون عليهم فرضا”3.

كما أصدر هس كتابًا باللغة الألمانية  أسماه “بعث إسرائيل”، دعا فيه إلى قومية يهودية لتحرير القدس، وعودة اليهود إلى وطنهم القديم، حيث يقول: “إن الأمم المسيحية لن تعارض إطلاقًا إنشاء وطن لليهود في فلسطين، طالما أن ذلك يضمن لها التخلص من شعب غريب، شاذ يسبب لها المشكلات الكثيرة، إن من مصلحة فرنسا أن يستوطن الطريق التجاري المؤدي إلى الهند والصين شعب موال تمامًا لمصالحها الاقتصادية والحضارية، وستكون فرنسا صديقتنا المخلصة التي ستعيد لشعبنا مكانته في تاريخ العالم”4. فقد كان يعتقد أن فرنسا هي من ستدعم توطينهم، في حين، كانت بريطانيا هي التي وطنتهم ،وأمريكا رعت مصالحهم -وما زالت-وقد مهد “هس” بأفكاره هذه لقيام الحركة الصهيونية، فقد جاء تلميذه ثيودور هرتزل (1860م ـ 1904م) الصحفي النمساوي اليهودي، ليؤسس الحركة الصهيونية الحديثة، فهو الذي وضع الأسس العقائدية  للصهيونية السياسية في كتابه “الدولة اليهودية”، الذي أصدره سنة 1896م. وقد أثار نشر هذا الكتاب مناقشات حادة استمرت مدة طويلة، وكان معارضوه من اليهود يفوقون مؤيديه، فقد وجد اليهود الذين نجحوا في الاندماج في مجتمعاتهم في أوروبا وأمريكا في كتاب هرتزل تشكيكًا في ولائهم لأوطانهم، أما رجال الدين اليهودي فرأوا في أفكار هرتزل خروجًا عن اليهودية، فحسب العقيدة اليهودية، المسيح المنتظر هو من سيعيد يهود العالم إلى أرض الميعاد. في حين عارض اليهود الاشتراكيون فكرة الدولة اليهودية، بوصفها “ردة حضارية” أن يتم تأسيس دولة على أساس الدين، كما كان الحال  في العصور القديمة.

ويؤكد روجيه جارودي في كتابه: “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية”، أن الصهيونية حركة سياسية وعقيدة قومية، لم تولد من اليهودية، بل من القومية الأوروبية في القرن التاسع عشر، فهرتزل نفسه صرح أنه لا ينقاد لأي دافع ديني5. كما أنه لم يهتم بالأرض المقدسة بوجه خاص، فقد كان مستعدًّا ليقبل بأي أرض لتحقيق أهدافه القومية، حيث يقول في كتابه “الدولة اليهودية”: “وهناك الآن منطقتان موضوعتان في الاعتبار: فلسطين والأرجنتين”6. لكن أمام معارضة أصدقائه اليهود، فإنه يعي أهمية أسطورة أرض الميعاد، فيستغلها لجمع الشتات:

“هل نختار فلسطين أم الأرجنتين! إننا سنأخذ ما يعطى لنا، وما يختاره الرأي العام اليهودي، وسوف تقرر الجمعية كلا الأمرين. إن الأرجنتين من أكثر بلاد العالم خصوبة ، وهي تمتد على مساحات شاسعة، وفيها عدد قليل من السكان، ومناخها معتدل، وجمهورية الأرجنتين سوف تحصل على مكاسب كبيرة إذا تنازلت لنا عن قطعة من أراضيها ولعل التسلسل الحالي لليهود قد أثمر بعض الاستياء، ومن الضروري أن نوضح للجمهورية أن الحركة الجديدة تختلف اختلافًا جوهريًّا. أما  فلسطين فإنها وطننا التاريخي  الذي  لا تمحى ذكراه،  إن اسم  فلسطين، في حد ذاته سيجتذب شعبنا بقوة ذات فعالية رائعة، فإذا منحنا جلالة السلطان فلسطين سنأخذ على عاتقنا بالمقابل تنظيم مالية تركيا، ومن هنا سنشكل جزءًا من استحكامات أوروبا في مواجهة آسيا بوصفها موقعًا أماميًّا للحضارة في مواجهة البربرية وعلينا كدولة طبيعية أن نبقى على اتصال بكل أوروبا، التي سيكون من واجبها أن تضمن وجودنا”7.

وبعد أن فشل هرتزل في إغراء السلطان العثماني والقيصر الألماني بتأييده فكرته ودعمه، توجه إلى إنكلترا فقد أعلن أمام المؤتمر الصهيوني الرابع الذي انعقد بلندن سنة 1900 قائلاً: “إن الصهيونية ستمضي من هذا المكان صعدًا إلى أعلى فأعلى.. وإنجلترا، إنجلترا الجبارة، إنجلترا الحرة، بمنظورها الذي يحتضن العالم وقوتها العسكرية، ومصالحها الاقتصادية التي تحتضن العالم، هي التي ستفهمنا وتفهم مطامحنا، وإننا لعلى ثقة أن الفكرة الصهيونية، وإنجلترا نقطة انطلاق لها سترتفع شاهقًا إلى أعلى مما بلغته في الماضي على الإطلاق”8.

وكانت الظروف السياسية والثقافية قد مهدت الطريق لهرتزل لإطلاق مشروعه القومي الصهيوني، فقد ظهرت العديد من الكتابات التي كانت نتاجًا طبيعيًّا للثقافة والمناخ الديني السائدين في ذلك الوقت، مثل البحث الذي وضعه السير “هنري فنش” Henry Finch المستشار القانوني لملك إنجلترا، ونشره عام 1621م بعنوان “الاستعادة العظمى العالمية، «The words Great Restoration»، واعتبر أول المشروعات الإنجليزية لاستعادة فلسطين لليهود، حيث طالب الأمراء المسيحيون بجمع قواهم لاستعادة إمبراطورية الأمة اليهودية9 .

وقد قويت في القرن الثامن عشر الاتجاهات الصهيونية، وكانت وراء التعاطف مع اليهود في أوروبا البروتستانتية، “وقد طرحت فرنسا لأول مرة خطة لإقامة كومونولث يهودي في فلسطين، مقابل القروض اليهودية للحكومة الفرنسية، ومساهمة اليهود في تمويل حملة نابليون بونابرت لاحتلال المشرق العربي بما فيه فلسطين”10.

وظهرت في القرن التاسع عشر دعوات سياسية ودينية جديدة، ساهمت في تهيئة الظروف المناسبة لولادة الصهيونية السياسية “ويعد اللورد بالمر ستون   (1784 – 1865) Palmerston وزير خارجية إنجلترا، ورئيس وزرائها فيما بعد، من أشد المتحمسين لتوطين اليهود في فلسطين، وكان يعتقد أن بعث الأمة اليهودية سيعطي القوة للسياسة الإنجليزية “11.

وكان لورنس أوليفانت (Lawrence oliphont) رجل دين، وعضو البرلمان الإنجليزي والصحفي، من أبرز الدعاة لتوطين اليهود في فلسطين، وقد أصدر كتابًا عام 1880م سماه أرض جلعاد (The land of Gilead) ضمنه آراءه وأفكاره بخصوص توطين اليهود في فلسطين، وفي الضفة الشرقية في الأردن، ودعا إلى طرد العرب مثلما حدث للهنود الحمر في الولايات المتحدة الأمريكية، لأنهم على حد قوله غير جديرين بأي معاملة إنسانية 12.

وأيضًا القس ويليام هشلر (1845 – 1931) William Hishler الذي أيد المشروع الاستيطاني اليهودي في فلسطين، وجمع الأموال لمساعدة اليهود على الاستيطان، “أصدر في عام 1894م دراسة سماها “استعادة اليهود لفلسطين (the Restoration of the jews to palestine) تحدث فيها عن الحاجة إلى إعادة اليهود إلى فلسطين وفقًا لنبوءات العهد القديم”13.

وقد نشأت بين هشلر وهرتزل صلات عميقة جدًّا، كما كان هشلر أول من قدم إلى هرتزل خريطة فلسطين بحدودها من الفرات إلى النيل، كما جاء إلى مؤتمر بازل عام 1897م بصحبة هرتزل، معتبرًا نفسه سكرتيرًا للمسيح المنتظر14.

وخلاصة القول: إن التأثير الثقافي والفكري والديني على الفكر الأوروبي، خاصة الإنجليزي، وأيضًا انتشار معتقدات البروتستانت المؤمنة بعودة المسيح الثانية، وبناء مملكة الألف عام السعيد، وأيضًا الرغبة في التخلص من اليهود بعدما فشل مارتن لوثر في تنصيرهم، إضافة إلى ظهور الأطماع الإمبريالية الغربية في المشرق العربي، واتخاذ من فكرة توطين اليهود وسيلة للتدخل في المنطقة، كل ذلك لعب دورًا أساسيًّا في تحضير إنجلترا خصوصًا، لقبول الصهيونية اليهودية السياسية، ودعمها. وقد جاءت دعوة هرتزل لعقد أول مؤتمر صهيوني على مستوى يهود العالم في بازل سويسرا سنة 1897م، واستطاع أن يقول، وعن حق، في نهاية هذا المؤتمر: لقد أسست الدولة اليهودية15.

وفي وقت انعقاد مؤتمر بازل نفسه، انعقد مؤتمر مونتريال في أمريكا، وتم التصويت على قرار يشجب تمامًا أي مبادرة تهدف إلى إنشاء دولة يهودية، وأن أي محاولة من هذا القبيل، تكشف عن مفهوم خاطئ لرسالة إسرائيل16. و توالت ردود الأفعال للمنظمات اليهودية المعارضة للصهيونية السياسية، وإقامة وطن قومي لليهود.

فقد اعترض الباب بيوس العاشر سنة 1904 م على الحركة الصهيونية وهجرة اليهود إلى فلسطين، ثم اعترضت الكنيسة الكاثوليكية على وعد بلفور عام 1917م، وزيادة هجرة اليهود إلى فلسطين. “ونجد كلا من صايغ والأب جوناثان شتيرمان، يؤكدان على أنه حسب النبوءات الرسولية، تحققت عودة اليهود إلى فلسطين عندما تم تدمير إسرائيل ويهوذا عام 586 قبل الميلاد، وعليه فليس هناك عودة في انتظار التحقيق”17.

من ناحية أخرى يقول الحاخام “المر بيرغر”: إن النبوءات القديمة لا تؤيد دعاوى الصهيونية السياسية في كل فلسطين أو في جانب منها، ويؤكد “بيرغر” أن المقولة التوراتية التي يطرحها الصهاينة بالنسبة للأرض المقدسة، إنما تستخدم من باب الدهاء والذرائع السياسية، إذ إن احتلال فلسطين عام 1948م، فضلاً عن الطرق التي تم بها، وإيجاد دولة إسرائيل، إنما تتعارض مع وصايا التوراة18.

كما أن دولة إسرائيل ـ على حد قول الأب جان ماري لامير ـ “هي أبعد ما تكون عن أنها وعد الله أو شعب الله المختار، الذي يعود إلى أرضه بعد ألفي عام، وإنما هي ثمرة الصراعات السلطوية بين فرنسا وبريطانيا العظمى في المنطقة، ثم إنها رأس الحربة التي يوجهها الغرب في قلب الشرق الأوسط بالمساندة الكاملة من الولايات المتحدة والاتفاق الكامل المؤكد مع الأحزاب الحاكمة في إسرائيل”19.

لقد تزاوجت المعتقدات الدينية بضرورة عودة اليهود إلى فلسطين، بالأهداف السياسية والإستراتيجية للدول الاستعمارية في تلك الحقبة مما أوجد المناخ المناسب لولادة الحركة الصهيونية السياسية لليهود الهادفة إلى تحقيق المشروع الصهيوني بتجميع يهود العالم في وطن قومي لهم في فلسطين واكتساب الاعتراف والدعم الدوليين لهذا المشروع.

لقد تم دائمًا استغلال الأديان لإضفاء صفات القداسة على عمليات النهب والقتل والاستعمار، وكما استغل الصليبيون فكرة حماية قبر المسيح استغل الصهاينة فكرة العودة للأرض المقدسة، يقول المسيري في موسوعته: “فتاريخ الحركة الصهيونية ليس جزءًا من تاريخ يهودي عالمي وهمي، ولا هو جزء من التوراة والتلمود (رغم استخدام الديباجات التوراتية والتلمودية) وإنما هو جزء من تاريخ الإمبريالية الغربية، ولذا فالصهيونية لم تظهر في العصور الوسطى  على سبيل المثال إنما في أواخر القرن السابع عشر مع ظهور التشكيل الاستعماري الغربي وبدايات استيطان الإنسان الغربي في العالم الجديد وفي بعض المدن الساحلية في إفريقيا وآسيا”20.

فالصهيونية إذن هي وليدة الفكر الاستعماري الغربي وأداته في المنطقة وللتدليل على ذلك يذكر المسيري أن “المؤسس الحقيقي للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة (بالمعنى العام غير الشائع الذي نطرح) هو وليام بلاكستون (1891م ـ 1935م) الصهيوني غير اليهودي، الذي أرسل عام 1891م التماسًا إلى الرئيس الأمريكي هاريسون يحثه فيه على إعادة فلسطين لليهود، وقد وقع على هذا الالتماس عدد من الشخصيات المسيحية واليهودية. لكن كان هناك معارضة يهودية قوية لمثل هذه الاتجاهات الصهيونية”21.

وقد كان على يقين أن الدول التي عادت السامية سوف تسانده كتكفير عن عنصريتها، ولم يكن يعلم أن ألمانيا بإبادتها لبعض اليهود، سوف تقدم لهم واقعة أكثر من عنصرية، استطاعوا استغلالها أحسن استغلال لدفع الغرب لمساندتهم ودعمهم يقول في كتابه: “إن الحكومات في جميع البلاد التي انتقدت بسبب العداء للسامية سوف تكون حريصة على مساعدتنا للحصول على السيادة التي نريدها”22.

وقد وظف الصهاينة واقعة الإبادة في خدمة أهدافهم وفي ابتزاز الحكومات وتبرير الغزو والاستيطان والإرهاب. وفي هذا الإطار يرى المسيري أن الإبادة النازية لليهود لم تكن نمطًا خاصًّا بالألمان، بل كانت تعبيرًا عن نمط إبادي عام بدأ منذ عصر النهضة في الغرب وفي أمريكا الشمالية، وحدث أيضًا في الفيتنام والشيشان، ولعل أكبر دليل على أن النازية جزء أصيل من الحضارة الغربية هو أن الرد الغربي على معسكرات الاعتقال والإبادة لليهود، لم يكن مغايرًا في بنائه وفي سماته الجوهرية للجريمة النازية، فالغرب يحاول حل المسألة اليهودية بإنشاء الدولة الصهيونية على جثث الفلسطينيين “والغرب الذي أفرز هتلر وغزواته هو نفسه الذي نظر بإعجاب إلى الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان وبيروت وأنحاء أخرى من العالم العربي… إن الحضارة الغربية قد أفرزت الإمبريالية والنازية والصهيونية”23. إنها العقلية الإمبريالية البشعة للاستعمار الغربي، والتي لا يمكن فهم الإيديولوجية الصهيونية  كما يقول مكسيم ردنسون، إلا كجزء لا يتجزأ منها و”بالضرورة فالحركة التي تطورت من هذه الإيديولوجية لابد أن ترتبط بالإمبريالية، وأنها لكي تحقق أغراضها لابد لها أن تخرج عرب فلسطين من ديارهم”24.

لقد تحولت مفاهيم العنصرية والاستعلاء في الفكر الصهيوني إلى مشروع سياسي استعماري أنتجته الدول الأوروبية ودعمته أمريكا فأصبحت إسرائيل أداة استعمارية غاصبة، “إن إسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة كنز إستراتيجي أو دولة وظيفية في مصطلحنا”25. ومن هذا المنطلق فإن الدعم الأمريكي لإسرائيل هو دعم مطلق، ويستنكر جون اسبوزيتو على أمريكا تغاضيها عن الجرائم البشعة التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني ويرى أنه “بدلاً من العقوبات الاقتصادية تتلقى إسرائيل أربعة بلايين دولار سنويًّا من الولايات المتحدة، ويذهب مبلغ 400 مليون دولار من المساعدات للإسهام في توطين اليهود القادمين من الاتحاد السوفييتي في الأراضي التي تحتلها إسرائيل.. وبالإضافة إلى ذلك فقد صوتت الولايات المتحدة باستمرار بالفيتو ضد كل محاولات مجلس الأمن لإدانة إسرائيل”26.

كل هذا يزيد من عمق الشرخ في العلاقة بين الشرق والغرب” لاسيما أن قيم العدالة والإنصاف التي يدعي الغرب تبنيها تسقط كلما تعلق الأمر بدولة إسرائيل، وتفقد العلمانية أي مصداقية في الخطاب الغربي”27.

وإنه لمن الجلي تلك العلاقة العضوية التكافلية بين القومية الأوروبية والإمبريالية والمطامح الصهيونية، والتي تطورت ثم تركزت تدريجيًّا في الأهمية الرمزية والسياسية، لتأسيس دولة صهيونية في فلسطين، وبعد احتلال الصهاينة لإسرائيل، لم يتوقفوا عن تقديم أنفسهم بصفتهم أذكياء ومتفوقين على أهالي البلاد الأصليين الذين هم بنظرهم برابرة ومتخلفون.

ففي كتابه ” اغتصاب فلسطين” قام اليهودي الصهيوني وليام زف بتركيب قوالب ذهنية عنصرية لوصف العرب، أما الإسلام فقد وصفه بأنه “مليء بالمستويات الخلقية الحقيرة والخرافات والجهل المتعصب”.  وعلى الضد من “القطعان البربرية” العربية على حد تعبيره، نجده يصور اليهود أذكياء، متفوقين، وخير من خلق للاستعمار على وجه الأرض”28.

ففي افتتاحية لمجلة تايم لسنة 1970م تصف إسرائيل فتقول: “إن إسرائيل قوة ديمقراطية، عصرية، ومدعاة استقرار في هذه الزاوية الفوضوية والمتخلفة تخلفًا قاسيًّا من زوايا العالم، لقد أوجد الإسرائيليون أمة وأزهروا الصحراء، فلهذا كسبوا الحق بوجود قومي وزيادة، وإسرائيل تحتاج إلى مساعدة الولايات المتحدة لتبقى، فإذا كان لإسرائيل يوم أن تسقط فسيلحق هذا ضرر بمصالح الولايات المتحدة”29.

وقد ساهم تشويه الصهاينة لصورة العرب على هذا النحو في استمرار وتثبيت الصور الاستشراقية القديمة، وقد وجدت جانيس تيري في دراستها للاتجاهات الصهيونية حيال العرب، كما تعكسها نشراتهم الموجهة إلى الجماهير الغربية، أن الصهاينة قد جردوا الفلسطينيين من إنسانيتهم بشكل يحط من قدرهم، وثبتوا الصور القديمة التي روجها المستشرقون، مثلاً نجد في المجلة الشهرية “كومنتري” وهي مجلة ذات نفوذ تصدر في الولايات المتحدة الأمريكية، أن مجمل الصور التي يضعها الصهاينة عن العرب هي صور قوالبية منمطة، يظهر فيها العرب جبناء، متخلفين، عنيفين، غرباء، وأساليب حياتهم مشابهة إلى حد كبير لتلك التي تنشر في مجلات السفر عن الأماكن المستطرفة الغرابة، كما أن تاريخهم يوصف بأنه سجل للغزو والحرب المتواصلة30.

لقد أثبت الصهاينة أنهم يتقنون فن الاتصالات، ويبرعون في عرض وجهة نظرهم، في حين لم يكن العرب كذلك، لقد استطاع الصهاينة القيام بحملات مستمرة في وسائل الإعلام تبني صورًا إيجابية عن إسرائيل الصهيونية في مقابل دس قوالب ذهنية سلبية عن العرب المسلمين، وهو ما يؤكده ميخائيل سليمان، في قوله: “إن ظهور الحركة الصهيونية والنزاع على فلسطين وتفاقم المصالح الإمبريالية والاستعمارية فضلاً عن سذاجة العرب في العلاقات العامة والسياسة الدولية معًا، قد ساهمت في هذا المنظور السقيم.. يضاف إلى ذلك أن بوسع الصهيونية أن تقول: إن وجود دولة يهودية سيكون بمثابة الحامي الأفضل للمصالح الإمبريالية، عندئذ يمكن النظر إلى العرب على أنهم بدو يمكن الاستغناء عنهم”31.

فليس من المستغرب إذن أن تتبنى وسائل الإعلام الغربية مثل هذه الصور بالنظر للصلة الحميمية التي تربط الأهداف الأمريكية الأوروبية بأهداف الصهيونية خلال القرن الماضي وما بعده.

تعودت في نهاية كل بحث يرصد علاقة تاريخية بين الإسلام والغرب أن أبحث عن جوانب مضيئة في تلك التجربة، نستطيع من خلالها أن نفتح صفحة جديدة للتعايش، وأن نبحث عن سبل للقاء بدل التركيز على أسباب النزاع والصراع، وأخشى أنني في تجربة الاستعمار والحركة الصهيونية ألا أجد جانبًا مضيئًا. فالاستعمار على كل المستويات وبكل المعايير هو تجربة مقيتة بشعة ضد الإنسانية،  والصهيونية أيضًا حركة عنصرية غاصبة ومحتلة ومع أن مالك بن نبي اعتبر أن “الاستعمار يعد من الوجهة التاريخية نكسة في التاريخ الإنساني”32. فقد استطاع أن يجد فيه نقطًا إيجابية قد تنفع العالم العربي، فيقول: “ولكن ذلك لا يدفعنا إلى أن نحسبه شرًّا كله.. فيجب أن نعترف بأنه أيقظ الشعب الذي استسلم لنوم عميق.. والتاريخ قد عودنا أن كل شعب يستسلم للنوم، فإن الله يبعث عليه سوطًا يوقظه”33. وقد اعتمد في تحليله هذا على تجربة ألمانيا. فقد كتب في خاتمة فصل الاستعمار والشعوب المستعمرة (وكان ذلك سنة 1957م):

“ولابد لنا في خاتمة هذا الفصل أن نورد تجربة قريبة منا وواقعة تحت أنظارنا، وهي أيضًا في متناول المقاييس العملية، هذه التجربة هي ما حدث في ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية، تلك الحرب التي خلفت وراءها ألمانيا عام 1945م قاعًا صفصفًا حطمت فيها كل جهاز للإنتاج، ولم تبق لها من شيء تقيم على أساسه بناء نهضتها، وفوق ذلك فقد تركتها لتصرف شؤونها تحت احتلال أربع دول. فلما بدأ النشاط يسري في نفس الشعب الألماني في مستهل سنة 1948م، كان ساعتئذ في نقطة الصفر من حيث المقومات الاقتصادية الموجودة لديه. واليوم، وبعد عشر سنوات تقريبًا نرى معرض ألمانيا يفتح أبوابه بالقاهرة، في شهر آذار (مارس) 1957م، فتذهلنا المعجزة، إذ ينبعث شعب من الموت والدمار، وينشئ الصناعات الضخمة التي شهدناها”34.

ويبدو أنه كان متفائلاً جدًّا، وربما كان يتوقع أنه بعد عشر سنوات أخرى قد تكون التجربة العربية قريبة من التجربة الألمانية، ولم يتوقع أنه بعد مرور نصف قرن، أن يبقى العالم العربي والإسلامي في مكانه لا يفارقه، وأن يظل ساخطًا على الاستعمار يعلق عليه إخفاقاته.

لا شك أن الاستعمار أنهك الشعوب العربية واستنزف ثرواتها، “إلا أن ذلك ينبغي ألا يجعلنا ننسى أنه لا يمكن استعمار ما هو غير قابل للاستعمار”35.

وهذا لا يعني إسقاطًا لتبعة الاستعمار أو نفي لما ألحق بالشعوب، التي ابتليت به لكن يعني وضع هذا العامل في موضعه من سلم السقوط، فقد حل الاستعمار بكثير من البلدان غير العربية وغطى أغلب أجزاء الأرض في آسيا وأمريكا وكندا وأستراليا، ثم تحررت البلاد المستعمرة، ومع ذلك لم تجعل منه مشجبًا تعلق عليه ضعفها وتخلفها، بل انصرفت إلى بناء صرحها من جديد.

ولم يعد القول بالاستعمار أو التبعية يحظى اليوم بكثير من المصداقية، ذلك أن الحقبة الزمنية التي يتعين أن يتخذ فيها من الاستعمار تفسيرًا للتخلف قد انتهت. و”مهما يكن من أمر التآمر الخارجي واتساعه ووتيرته، فإن الأسباب الداخلية مسؤولة في معظم الأحيان”36.

الهوامش:

(1) انظر : حلمي خضر ساري، صورة العرب في الصحافة البريطانية، مركز دراسات الوحدة العربية.1999م.ص 138..

(2) المرجع السابق 138.

(3) نفس المرجع.

(4) نفس المرجع، ص 139.

(5 ) رجاء جارودي، الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية ، ترجمة قسم الترجمة بدار الغد العربي، ط 7، 1996 م.

 ص 18.

(6)  تيودور هرتسل، الدولة اليهودية، ترجمة مؤسسة الأبحاث العربية ،ص 22.

(7) المرجع السابق ،ص 23.

(8 ) عن حلمي خضر ساري، صور العرب الصحافة البريطانية ، مرجع سابق، ص 145.

(9) يوسف الحسن، البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني، دراسة في الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية، مركز دراسات الوحدة العربية ، ص 24.

(10) المرجع السابق، ص 26.

(11) أمين عبدالله محمود، مشاريع الاستيطان اليهودي منذ قيام الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، عالم المعرفة، عدد 74،ص 19.

( 12) انظر : يوسف الحسن، البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني، دراسة في الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية. مركز دراسات الوحدة العربية. ص 29.

(13) المرجع السابق، ص 30.

(14) المرجع السابق.

(15) رجاء جارودي، الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، مرجع سابق، ص 20.

(16) المرجع السابق، ص 20.

(17) عبدالله عبد المحسن السلطان، البحر الأحمر والصراع العربي الإسرائيلي، مركز دراسات الوحدة العربية، 1988م. ص 63.

(18) نفس المرجع.

(19) زينب عبدالعزيز، محاصرة وإبادة موقف الغرب من الإسلام، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، لبنان، ط1، 1993م،ص 198.

(20) عبدالوهاب المسيري، الموسوعة الموجزة. ص 324.

(21) المرجع السابق.

(22) ثيودور هرتسل، الدولة اليهودية، ترجمة مؤسسة الأبحاث العربية. ص 21.

(23) عبدالوهاب المسيري ، الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ، رؤية حضارية جديدة، دار الشروق، ص 15.

(24) عن حلمي خضر ساري، صورة العرب في الصحافة البريطانية ، مرجع سابق، ص 131.

(25) عبدالوهاب المسيري، الموسوعة الموجزة، مرجع سابق، ص 324.

(26) جون اسبوزيتو، التهديد الإسلامي خرافة أم حقيقة ، ترجمة قاسم عبده. دار الشروق. القاهرة.2001م، ص 348.

(27) جورج قرم، شرق وغرب، الشرخ الأسطوري، دار الساقي. ط 2003م، ص 125

( 28) حلمي خضر ساري، صورة العرب في الصحافة البريطانية، مرجع سابق، ص 162.

(29 ) المرجع السابق ،ص 103.

(30) المرجع السابق ،ص 163.

(31 ) ميخائيل سليمان، صورة العرب في عيون الأمريكيين، ترجمة عطا عبدالوهاب، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت 1987، ص 26.

( 32) مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبدالصبور شاهين، دار الفكر ، سورية، ط 4، 1987م، ص 152.

(33) المرجع السابق، ص 153 ـ 154.

(34) المرجع السابق، ص 147 ـ 148.

(35) فريدون هويدا، الإسلام المعطل، ترجمة ونشر الملتقى، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط1، 2004م، ص 10.

(36) المرجع السابق، ص 12.


مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب