مَدِيحُ الأم
عبد السلام دخان
سيرة الضوء، وانعكاسه على الحياة، لا ترتبط بمجال العلوم الحقة ورمزية الضوء وأبعاده المتعددة والمختلفة، مند «إقليدس Eukleídēs» و»بطليموس Ptolémée» مرورا باجتهادات صاحب كتاب «المناظر» ابن الهيثم، وعلماء الغرب مثل الألماني فيرنر هايزنبيرغ Werner Heisenberg، وإسحاق نيوتن Isaac Newton، لأن الضوء ينعكس على طريقة التفكير، وأسلوب العيش، بيد أن الأثر العاطفي لهذا الضوء يؤثر على التسلسل الزمني للحياة. الضوء الأبهى استعارة بصرية لمكارم الأم وهي تجعل الحياة ممكنة، وأكثر رحابة في هذه الأرض التي لا نملك مسكنا آخر غيرها.
لا أحدا من الشعراء والأدباء والفلاسفة وعامة الناس، استطاع أن يَبرع في وصف الأم، لأنه يصعب تحويل أثر الضوء إلى سيرة بحجم حب الأم، بوصفها تجسيدا للقمر في اكتماله، وتمثيلا لبحر العطاء، وهوية الوطن الراسخة في الوجدان.
من سمات الأم الشبيهة بالفجر، والإشراقة المنيرة، الإرادة الصلبة لهذه المرأة الصامتة في جل الأوقات، المرأة المختلفة وهي تواجه أياما مشبعة بالتوتر والصبر والعاطفة، وتواصل نضالها من أجل طفلها، الذي لا يكبر أبدا. الحديث ـ هنا- يتساوق وسردية الحاجة حورية، أم محمود درويش وحملها لتراب قريتها المحتلة «الجديدة» لتضعه فوق قبر ابنها، الذي عاد إليها ليختفي في شوارع موسكو، وعواصم غربية أخرى، ليلج بعد ذلك غيلة دروب العدم، لكن والدة محمود درويش، استطاعت أن تعيد نسج محكيات ابنها انطلاقا من ذاكرتها التي هزمت شيخوختها.
في كل مرحلة من الحياة نكتشف عظمة الأم وطاقتها وقدرتها على مواجهة غير المتوقع، وإعادة التوازن إلى معهود حياة الأسرة. يمكن الإشارة في هذا الصدد إلى كتاب «موت عذب جداً Une mort très douce « للكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار Simone De Beauvoir(ترجمة كامل العامري، الكتاب صادر عن مؤسسة المدى العراقية للثقافة والفنون، الطبعة الأولى 2020). تسرد سيمون دي بوفوار في كتاب «موت عذب جداً» علاقتها المخصوصة بوالدتها، لذلك وصف جان بول سارتر الكتاب بكونه أفضل ما كتبته صاحبة «المرأة المحطمة» على الإطلاق.
الموت مرعب بتعبير سيمون دي بوفوار، ومجرد التفكير فيه يجعل الذات تصاب بذعر كبير، والخوف من فقدان الأحبة، وسرد محكية الأم لم يكن مجرد نسيج لغوي، أو تركيبا للأحداث وترميما للقصص لتشكل الحبكة، بل كان انقلابا وجوديا في حياة سيمون دي بوفوار، ورصدا لمواقف وعلاقة فريدة، وقصة مؤثرة للأيام الأخيرة من حياة والدتها، وكانت سيمون دي بوفوار شاهدة على دخول طيف العدم إلى جسد أمها، لذلك حاولت جاهدة تقويض الغياب والاهتمام بمحكي الأم.
ثنائية العدم والوجود رئيسية في تأويل علاقة سيمون دي بوفوار بأمها، تحيل إلى أهمية المعرفة في تشكيل هذا الإبدال عملا برؤية إيمانويل كانط Emmanuel Kant في «نقد العقل المحض»: «كل معرفة لا تنشغل بوجه عام بالموضوعات، بل بطريقة معرفتنا للموضوعات، بقدر ما يشترط في هذه المعرفة أن تكون ممكنة قبليا» لكن هل كان بارمنيدس Parmenides في محاولته لفهم الكون (الكوسموس) حكيما حين استنبط بالعقل استحالة العدم، واستحالة الوجود منه، وأن كل ما هو حقيقي لا بد أن يكون خالدا وغير متغير، ولا بد له من وحدة خافية تنتظمه، عبر ما سماه بـ»الكل واحد»؟ تسرد سيمون دي بوفوار في عملها السردي «موت عذب جداً» علاقتها بوالدتها وطبيعة الحب الممزوج بالألم، من خلال مرافقة سيمون بمعية أختها لأمها في المستشفى لمدة ثلاثة أشهر، الأم المصابة بالورم الخبيث، تقاوم من أجل الحياة، وسيمون تستحضر سيرة والدتها وكفاحها الطويل وما قدمته لأسرتها، وقد سمح هذا الحدث لسيمون بتأمل ردود أفعال والدتها، الأم المؤمنة والقوية، رغم الإرهاق العلاجي، وسمح لها هذا المنعطف الوجودي بمراقبة ظروف عمل الممرضات، وأحوال المرضى الصحية ومعاناتهم النفسية. وليس من المبالغة القول إن الأم هي محور كتاب سيمون دي بوفوار، والكتابة عنها تجسد إخلاص الكاتبة الوجودية للأم، ورغبة علنية في استنطاق العدم من خلال استعادة من نحب عبر السرد، بالالتزام بميثاق «السيرة الذاتية autobiographique» والابتعاد عن التخييل في الكتابة عن الآخر، وهو ما يفسر ارتفاع منسوب الصدق المحفز لتعاطف المتلقي ما دمنا بصدد سرد يستعيد اللحظات الرهيبة لمعاناة الأم.
منظور أفلاطون Platon للتربية من خلال كتابه «الجمهورية» دقيق، لأنه يجسد رحلة النفس وهي تعبر من ظلمة الكهف إلى نور العالم. لكن هذا العبور يستغرق زهاء خمسين عاما، بشكل منظم وبطريقة هرمية. ليصبح الطفل من حراس المدينة اليونانية، وجديرا بالانتساب إليها. لكن الأم تستطيع أن تجعل طفلها يتعلم فنون الحياة في وقت وجيز، وتجعله مؤهلا ليكون مواطنا صالحا، تستطيع الأم في الأيام الأولى لولادة الطفل أن تخترع لغة جديدة خاصة بها وبطفلها، وتجعله قادرا على التواصل مع العالم الجديد، وتجعله – في الآن نفسه – يشعر بالحركة وبهجة الحياة.
هذا الرجل الشبيه بهرقل في قوته البدنية، أو النابغة الشبيه بالخوارزمي، أو الموسيقي الشبيه ببيتهوفن، هو إنسان يوصف بالكبير، لكنه كان في البداية رضيعا ضعيفا ومريضا بين يدي أمه. وأقصى ما يطمح إليه هذا الرجل هو ما ورد في محكم التنزيل على لسان عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ «وَبَرّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارا شَقِيّا».
مريم والدة يسوع في التصورات المسيحية، وفي «الكتاب المقدس» هي مرادف لمكانة الأم وواجبها في التربية والتوجيه والرعاية والتضحية، وهذا ما يجعل محبة الأم واجبا روحيا، ورغم الطابع الناعم لهذا التأويل فإن جاذبيته لا تكمن في احتمالاته التفسيرية فحسب، بل في المشاعر الإنسانية بوصفها مشتركا كونيا لا مثيلا. الأم لا تقلد أحدا، لأنها اختارت أن تعيش وفق أنساق أسرتها اجتماعيا واقتصاديا وأخلاقيا، وربما هذا التفرد هو ما جعل منها أنموذجا رفيعا في الكفاح وصناعة الأجيال، وترسيخ القيم الإنسانية النبيلة (يمكن رصد هذا الملمح في كثير من الأبحاث المؤطرة بمرجعيات علم الاجتماع). وعلى نحو فريد تجمع الأم بين الصرامة والعاطفة، بين التمسك القوي بالقرار والتسامح، وهي في كل الأيام لا تخيب توقعات الأبناء والمجتمع. وربما لهذه الأسباب يمكن القول: حدثني عن أمك، أدرك من أنت.
كاتب مغربي