التناحر بين الزعماء الليبيين يمهد الطريق لمزيد من التدخلات الأجنبية

التناحر بين الزعماء الليبيين يمهد الطريق لمزيد من التدخلات الأجنبية
رشيد خشانة
بينما ينشغل الرأي العام بتداعيات ملف الكانيات، تتحرك الجماعات المسلحة في جميع المناطق لتصفية حسابات بين بعضها البعض، أو للحلول محل الدولة ورموزها.
بات التطاحن بين الزعماء الليبيين حول المواقع السياسية والاقتصادية، صراعا مفتوحا أمام الرأي العام المحلي والدولي. وفي ظل توالي الإعفاءات من مناصب حساسة، تم استبدال شخصيات وازنة ببعض المقربين من ذوي الخبرة المتواضعة. ومن أبرز المسؤولين المعزولين محمد عون، وزير النفط والغاز في حكومة عبد الحميد الدبيبة. وبعد قرار العزل كلف الأخير في 27 حزيران/يونيو الماضي خليفة عبد الصادق بتسيير مهام وزارة النفط، ما فجر أزمة سياسية لم يستطع الدبيبة تطويقها، فهي تتعلق بمصير المؤسسة الوطنية للنفط، أحد أهم أركان الدولة إن لم تكن أهمها وأكبرها.
غير أن عون لم يتخذ موقفا صداميا، وإنما حض الحكومة على اتخاذ «موقف فوري وحاسم» لمنع ما أسماه «الانهيار الرهيب وغير المسبوق» لسمعة المؤسسة منذ تأسيسها عام 1970. وشكا عون رئيس الحكومة إلى القضاء مُطالبا بتنفيذ قرار محكمة استئناف طرابلس القاضي بوقف تكليف عبد الصادق، خاصة بعدما أثارت تلك التسمية جدلًا واسعًا في الأوساط السياسية والقانونية.
وفي 28 آب/اغسطس 2024 أصدرت محكمة استئناف طرابلس حكمًا بقبول الطعن المقدم من محمد عون بتعيين عبد الصادق على رأس الوزارة الاستراتيجية. ولم يقتصر قرار المحكمة على قبول الطعن شكلاً، بل أوقفت تنفيذ القرار بالكامل، ما اعتُبر انتصارًا قانونيًا لعون، الذي أكد مرار وتكرارا في تصريحات مختلفة، أن ذلك التكليف يشكل، برأيه «انتهاكًا صارخًا للقانون والدستور الليبيين».
وخيب الدبيبة أمل المراقبين برفضه الامتثال لقرار القضاء. أكثر من ذلك، أصدر النائب العام أمرًا بحبس عبد الصادق على خلفية تورطه في إجراءات غير قانونية. ومع ذلك لم يتخذ الدبيبة أي خطوة لإلغاء التكليف الصادر عنه. وسرعان ما استثمر عون الفرصة لتسليط الضوء على ما وصفه بتجاهل الحكومة لأحكام القضاء، واستهانة الدبيبة بحكم القانون. وأتت تقارير الجهات القضائية والمحاسبية مؤكدة ما ذهب إليه حكم المحكمة، مشيرة إلى أن التعيين باطل، وينبغي إلغاؤه فورا. ودلت هذه المعركة القانونية بين الدبيبة وعون، على تدهور المناخ السياسي العام بما يجعل إمكان التوافق على حلول لأزمة البلاد، بعيد المنال.
وامتد الصراع على المواقع، إلى مؤسسة مفتاحية للاقتصاد، هي مصرف ليبيا المركزي، ما اعتبر مؤشرا على ضراوة التطاحن للاستحواذ على ما يمكن أن تصل له الأيادي من ثروات البلد. واندلعت المعركة من أجل السيطرة على البنك المركزي من قرار اتخذه المجلس الرئاسي، بإقالة المحافظ الصديق الكبير، بعدما أمضى في ذلك المنصب سبع سنوات، وهو رقم قياسي وسط الاضطرابات المختلفة والحروب الداخلية التي أبصرتها ليبيا في السنوات الماضية. وسرعان ما أتى الرد من القوى المسيطرة على المنطقة الشرقية والجنوب بزعامة اللواء المتقاعد خليفة حفتر، إذ بادر هؤلاء بإغلاق بعض الحقول والموانئ النفطية. غير أن حفتر استمر بالضغط على الحكومة في الوقت نفسه، من خلال بيع النفط بأسعار أدنى من أسعار السوق.
ومن مظاهر التطاحن بين الزعماء ما حصل مؤخرا في مجلس الدولة من مواجهة بين الرئيس الحالي للمجلس محمد تكالة وسلفه خالد المشري، اللذين يؤكد كل منهما انه الفائز الأول في انتخاب رئيس جديد للمجلس. والأرجح في ظل التجاذب بين الرجلين، وصعوبة التوصل إلى حل وسط، أن تبقى الأوضاع عالقة والمجلس الأعلى للدولة مشلولا.
هذا التجاذب فتح الباب أمام مزيد من التدخل الخارجي في الصراعات الليبية ـ الليبية، إذ واكب المبعوث الأمريكي الخاص إلى ليبيا السفير ريتشارد نورلاند أطوار المعركة حول رئاسة البنك المركزي، وأعلن بصريح العبارة رفضه قرار المجلس الرئاسي القاضي بتنحية الكبير، وأبلغ هذا الموقف رسميا إلى عبد الحميد الدبيبة، داعيا «جميع أصحاب المصالح السياسية الليبيين» الذين لم يُسمهم، إلى حوار جديد وواسع، يهدف للتوصل إلى حلول وسطية تخدم مصلحة ليبيا. ويمكن القول إن العواصم الغربية عموما متفقة على الضرورة الملحة لعودة النفط إلى التدفق بالوتيرة المعتادة، أيا كان حاكم البنك المركزي لارتباطه الشديد بتحديد أسعار النفط العالمية، واستطرادا بالمصالح الاقتصادية لجميع الأطراف.
حاكم جديد
حسب الاتفاق الذي نشرت نسخة منه قناة «ليبيا الأحرار» والموقع من ممثل مجلس النواب الهادي الصغير، وممثل المجلس الأعلى للدولة عبدالجليل الشاوش، تم ترشيح ناجي عيسى لتولي منصب محافظ مصرف ليبيا المركزي، ومرعي البرعصي لتولي منصب نائب المحافظ، ما يعني إبعادا نهائيا للكبير والفريق العامل معه، من المصرف المركزي.
وأعلن المجلس الرئاسي دعمه اتفاق المجلسين (النواب والأعلى للدولة) على تعيين محافظ جديد للمركزي، لكنه تمسك بحقه في تعيين مجلس إدارة للمصرف بناء على الاتفاق السياسي. وهذا التفصيل مهم لأنه قد يكون سببا في تفجير خلاف جديد بناء على تباين مفاهيم «الحق» لدى هؤلاء وأولئك.
هذا المناخ المسموم جعل الأمريكيين يُحذرون من انتشار عمليات التصفية الجسدية والاختفاء القسري، بسبب اختلاف وجهات النظر، على نحو قال نورلاند إنه يُثير القلق لدى الأمريكيين من تنامي ثقافة الإفلات من العقاب. ومن مظاهر هذا الاهتمام الغربي الواضح بالملف الليبي، البيان الذي أصدره أعضاء مجموعة الدول الصناعية السبع الذي تطرق إلى الوضع في ليبيا، من الزاويتين السياسية والأمنية، بما في ذلك أزمة المركزي.
مقابر جماعية
وفي العام الماضي توصلت «البعثة الدولية المستقلة حول الأحداث في ليبيا» إلى نتيجة مفادها أن هناك أسبابا وجيهة للاعتقاد بأن عناصر من ميليشيا «الكانيات» ارتكبت جرائم ضد الإنسانية في مدينة ترهونة. ويمكن مساءلة سلسلة المسؤولين عنهم، والذين يجوز اعتبارهم مشاركين في المسؤولية الجنائية عن المقابر الجماعية، ومن ضمنهم اللواء حفتر، الذي يحظى بدعم من قوى خارجية، من بينها فرنسا.
وأوضح المحققون أن تحديد المسؤولية عن تلك المقابر الجماعية اليوم سيكون صعبا. مع ذلك أعدت لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة قائمة بالمنفذين المُفترضين وأصدر القضاء الليبي بطاقات توقيف في حق بعضهم. إلا أن تلك الجهود ذهبت سدى بسبب الولاءات السياسية والأحلاف القبلية العميقة، بالإضافة إلى أن عددا غير معروف من المتورطين في المجازر لجأ إلى بلدان الجوار.
ولوحظت في الفترة الأخيرة محاولات من أسرة الكانيات للعودة إلى مدينة ترهونة، وسرعان ما أصدرت «رابطة ضحايا ترهونة» بيانا أدانت فيه عودتهم، واصفة ذلك بأنه «تعد خطر واستفزاز لأهالي الضحايا، واستخفاف بالدماء الزكية من أطفال ونساء وشيوخ». وأكدت رابطة الضحايا رفضها «كل محاولة يائسة لإفلاتهم من العقاب تحت أي ذريعة كانت» مطالبة النائب العام والمدعي العسكري بفتح تحقيق عاجل وإحالة كل من ساهم في «عودة المجموعة الإرهابية أو قدم لها الضمانات للعودة، وتقديمهم للعدالة».
وأشارت الرابطة إلى أن عودة أفراد من عائلة الكانيات يوم الاثنين 23 ايلول/سبتمبر، أثارت مخاوف كبيرة لدى أهالي الضحايا والمفقودين، من ضحايا المقابر الجماعية في ترهونة والمدن المجاورة.
وبينما ينشغل الرأي العام بتداعيات ملف الكانيات، تتحرك الجماعات المسلحة في جميع المناطق فارضة منطق القوة والعنف، إما لتصفية حسابات بين بعضها البعض، أو للحلول محل الدولة ورموزها. وآخر مظاهر هذا الوضع غير الطبيعي اندلاع اشتباكات مؤخرا في محيط معسكر الـ27 قرب العاصمة، ما أدى إلى غلق الطريق الساحلي، من دون أن تقدر الحكومة على السيطرة على الأوضاع، مع أنها هي التي تمنح الرواتب لأمراء الحرب الذين انتدبتهم لحمايتها.
وتضاربت المعلومات حول أسباب تلك الاشتباكات. بيد أن بوابة «الوسط» الاخبارية أفادت أن دخول قوات من المنطقة العسكرية الساحل الغربي إلى معسكر الـ27 لتسلُمه، تم وفق ترتيبات اللجنة الأمنية، المشكلة من وزارة الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية، إلا أن مجموعة مسلحة رفضت التسليم وهاجمت القوات. وفي أثناء ذلك أغلق الطريق الساحلي، لكن في الوقت نفسه، أعلنت وزارة الداخلية أن اللجنة العليا للترتيبات الأمنية تسلمت 64 مقرا من المقرات الأمنية، فكم تبقى من مقر خارج سلطة الدولة، إن وُجدت.
وتفيد تقارير إعلامية عدة بوجود مناخ من الترهيب والرعب في المنطقة الشرقية، بسبب عمليات القمع التي تمارسها أجهزة «الأمن الداخلي» التابعة لخليفة حفتر. وبدأت تنكشف أخيرا معلومات عن وجود انتهاكات خطرة للحريات وللحرمة الجسدية للمعتقلين، أدت إلى وفيات لم يتسن حصر عددها. وكان من بين الذين فارقوا الحياة في مقرات أمنية ببنغازي الكاتب والسياسي سراج الدين دغمان. كما كان لافتا اعتقال أجهزة الأمن في بنغازي، يوم السبت 21 أيلول/سبتمبر الجاري، الإعلامية الليبية إكرام رجب، التي تعمل بقناة «المستقبل» التابعة لمجلس النواب. ولم يوضح بيان مقتضب بثه «الأمن الداخلي» أسباب الاعتقال ولا الظروف التي تم فيها، ما اعتبر اختطافا للمذيعة، التي لم يُعرف لها نشاط عمومي. وحضت «العفو الدولية» على التحقيق في الانتهاكات وتحميل المسؤولية لمرتكبي تلك الجرائم. وأفادت في تقرير بثته الجمعة أنها أحصت 353 جثة في مقابر جماعية بمدينة ترهونة، وانتقدت إفلات المسؤولين عنها من العقاب، وهم من ميليشيا الكانيات التي سيطرت على مدينة ترهونة إبان الانتفاضة الشعبية على نظام معمر القذافي، وارتكبت مجازر مروعة يجري الكشف حاليا عن تفاصيلها.
وفي غياب العدالة والانصاف يخشى الخبراء والمُحققون الأمميون من استمرار عجلة العنف في ليبيا. أما أفراد أسر الضحايا فأصبحوا يُحذرون من أن أحدا لا يستمع إليهم، بمن في ذلك «جمعية أسر ضحايا ترهونة» التي لوح أفرادها بالانخراط في قوات حفتر، إذا لم يجدوا آذانا صاغية لدى مؤسسات الدولة، فهل من مُنصت إليهم؟