الكتابة النسوية المعاصرة: نحو ميثاق للإبداع الحر والاختلافي
عبداللطيف الوراري
يسمح لنا تأمل المشهد الأدبي العربي المعاصر، أن نُقر بوجود كتابة نسوية ممتدة تتكلم صيغة المؤنث وفتنة خياله، ومفعمة بالنفَس الأنثوي الذي سرى في جسد اللغة وفتت آلياتها، وأعاد تسمية كثيرٍ من مفرداتها المادية والرمزية، التي أتاحتها ذات المرأة الكاتبة، وهي تضع إصبعها على الجرح، وتُسميه بنفسها، متمردة ومحتجةَ، ونابضة بالعاطفة، ووجدانها الخصب الذي يتكلم عهودا من التاريخ الشخصي الموجع والتجربة الوجدانية المشعة. لقد توجهت هذه الذات بما هي مغامرة تاريخية وجمالية، إلى تأنيث عالمها الإبداعي، منذ أن رفضت أن تكتب نصا تحت أطر القولبة، أو أن تطمئن إلى التنميط الذي يستنزف شفافيتها الخاصة وهشاشتها وتفاصيل حياتها الصغيرة، فبدا نصها السردي والشعري معا، يتماوج بإيقاع خطابها الروحي وشروخ ذاكرتها وجسدها، على نحو صار يُكرس ـ تدريجيا ـ ميثاقا تخييليا من أجل كتابة اختلافية تشتغل وفق توقيتها الخاص وخارج أطر الجندر ذي المنحى التمييزي.
هذا الإقرار الذي نسوقه ليس مُجرد أحكام قيمة مسبقة عن المنجز في نصوص المتن النسائي وخصوصياته، بل هو استقراء يدمغه واقع الكتابة اليوم.
فأنت عندما تُصغي إلى أهم تجارب هذا المنجز، يمكن أن ترصد جغرافيا مديدة وهائلة بالصور والانعطافات التي تُشكل «مورفولوجيا» الأنا الأنثوي، وما يترتب على متخيلاته من فهم خاص ونوعي للذات والجسد والأشياء والعالم، يختلف من ذات إلى ذات.
طرحت «القدس العربي» هذه الأسئلة على كاتبات عربيات يمارسن فعل الكتابة في سياقات وتحت ظروف مختلفة، ولكن يُوجه سياسات هذا الفعل حرصهُن المشترك على الإفضاء بصوتهن الأنثوي خارج طابع الجندر التمييزي، وفي صميم الدفاع عن رؤيتهن الأنثوية للذات والأشياء والعالم: ماذا تعني لك المرأة وهي تكتب؟ هل ثمة في نظرك ما يميز كتابة المرأة لغة وموضوعا وتخييلا؟ هل تمارسين رقابة ما على سردك الذي يتصل بماضيك وحياتك الماضية، تحت تأثير قيم المجتمع الذكوري؟
زكية خيرهم: إعادة تشكيل الواقع
الكتابة هي نافذة مفتوحة على عالمٍ داخلي غني بالتجارب والمشاعر، والمرأة حين تكتب، فإنها تتجاوز كل القيود المفروضة عليها اجتماعيا وثقافيا. الكتابة بالنسبة لي ولكثير من النساء هي أداة للتحرر، تجعلنا نعبّر عن كل ما نخفيه في حياتنا اليومية.
إنها تمكين ذاتي، حيث تمنحنا الكتابة القدرة على خلق عوالمنا الخاصة وإيصال أصواتنا التي قد تكون مُكممة في الواقع. عبر الكتابة، تستطيع المرأة أن تواجه المعيقات التي تقف في طريقها، وتخلق مساحة تُمكنها من إعادة تشكيل واقعها وفقا لرؤاها الخاصة. أعتقد أن كتابة المرأة تتميز بلغة خاصة ورؤية فريدة تتعلق بالتجربة الإنسانية من زاوية مختلفة. المرأة، بحكم تجربتها الخاصة، غالبا ما تتناول موضوعات متعلقة بالعلاقات الإنسانية والعواطف والهوية الذاتية. كما أن لغتها غالبا ما تميل إلى الرهافة والتفاصيل، ما يتيح للقراء فهم الأعماق النفسية للشخصيات. المرأة تكتب بعينٍ حساسة للتفاصيل اليومية، ولها قدرة مميزة على الغوص في تفاصيل التجربة الإنسانية التي قد يغفل عنها الأدب الذكوري في بعض الأحيان. التخييل أيضا يلعب دورا مهما في كتابة المرأة؛ فهو ليس مجرد وسيلة إبداعية، بل هو أداة للهروب والتحرر، حيث تخلق من خلاله عوالم بديلة تعبر فيها عن نفسها بحرية أكبر.
قد تكون الرقابة الذاتية حاضرة عند الكتابة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمواضيع الحساسة التي ترتبط بالماضي أو الحياة الشخصية. في المجتمعات الذكورية، قد تواجه المرأة ضغوطا تتعلق بحدود ما يمكنها الإفصاح عنه، وهذا بالطبع يؤثر على السرد. ولكن في الوقت نفسه، الكتابة تمثل عندي أداة مقاومة ضد تلك القيود. أحرص على أن أكون صادقة في التعبير عن تجربتي الذاتية، رغم أن بعض المواضيع قد تتطلب استخدام الرموز أو الاستعارات لتفادي الصدام المباشر مع تلك القيم. في النهاية، أرى أن الكتابة هي فعل تحرر، تمنحني فرصة للتعبير عن ذاتي بأقصى قدر من الصدق الممكن، دون أن أسمح لتلك الرقابة بأن تعيق حرية الإبداع.
رجاء بكرية: رغبة الانتهاك
حين تكتب المرأة ستكون في أجمل حالاتها وأعلى تجلياتها. وسوف نفترض أن خيارات المرأة حين تكتب تتبع هواجسها ومخيلة الصور التي ترتسم في عينيها، رأسها وقلبها معا، لأن أدواتها تشتغل على جبهات عدة ومتفرقة، تفترض تشابكها داخل المفردة التي تهاجِمُها. وهي حتما غير هواجس الرجل وغير مسارات مخيلته، والتالي أفترض أن الطرح الذي يعرض اختلاف مسار الكتابة بين الرجل والمرأة مُحق تماما: مساحات التأمل تختلف، ولغة التعبير تأخذ منحى آخر له علاقة بالتركيبة الروحية والسيكولوجية لطبيعتها. ولو أنك قارنت بين ما يكتبه الرجل عن الحب وما تكتبهُ المرأة مثلا، لوقعتَ على عوامل دهشة بعيدة؛ فالمرأة تتنفس العشق حين تكتبُهُ، والرجل يرصد أثره الجسدي غالبا على فكره وتجربته، حتى وهو يستعيض عن حالة الفقد بصور شعرية روحية، إذ ستلاحظ أن إسقاطاتها الجسدية أو الشكلانية واضحة أحيانا، وشاكية أحايين أخرى. إن ما يثير الاستغراب في علاقة الكتابة بالمفردة المؤنثة المُشْبعة، أنها رغبة صافية محتدمة حين تحب، وهو ما يخالف المفردة المباشرة لدى الرجل حين يحب ولو تزيت بعناصر الرخاء الحسي عالي التأثر. حين نستحضر نزار قباني في قصائده، فستلاحظ أن مفرداته الحسية قذائف مُلونة موضعية تستحضر صورة جسدية حية تُفككها المخيلة، بينما تتفتح صور القلب على غابة من مشاعر ماطرة لدى سعاد الصباح وأحلام مستغانمي في بعض نثرياتهما.
بطبيعة الحال، طقس الكتابة في المجمل ترافقه رقابة ذاتية تلقائية، وسلطة تعيش بالفطرة في بدن كل امرأة. لا تفحصها، ولكنها حريصة على التأكد من حصانة حضورها في كل ما تكتب، وهذا بالمناسبة لا يعني ألا تتجاسر على قضايا حساسة فيما تكتب. بعيني لا توجد ممنوعات عدا الإباحية، ولا أحتاج أن أفكر برأي رجل أي كان، وأنا أحدد الشارات الحمر للمضامين التي أختارها وأنا أتجاوزها. أنا ممن يعشقون مناورة الممنوعات، لكن وفق حدود المساحة التي يخضر فيها حرفي، ورواياتي تُعرف بتعديها على ما لا يعجب الذكورة والرجولة على حد سواء، لكني لا أعير اهتماما لما يقال. الإبداع حضارة، إما أن ترتفع إليها أو تخسرها، والحضارة مفردة خصبة الإسقاطات وغنية في تداعياتها. كما أنه ثقافة لو خُيل إليك غزارة تلقائيتها على الأقل.
هذا ما أستشفهُ في الكتابة النفيسة عند المرأة. لن تكتب عن حالة شغف مثلا، وهي تستحضر الندى، والمواسمية في لغة المرأة بعض أسرار فِتْنتها، حين تنشرها على ورق اتساعها.
ما لم تمتلك المرأة حُرية داخلية تكفي مفرداتها وتشرئب كي تتسلق جدرانها بممنوعاتها، فلن تكون امرأة ولن نفترض اشتباكها بعلاقة فنية مع المساحة البيضاء. ولا بأس من تذييل ورقتي بالتحديات التي عبرتْ منها كتابتي حين كان التعبير بمخيلة الجسد ممنوعا، والرغبة في انتهاك التقاليد. يومها كتبتُ «فراشة صَفراء»؛ القصة التي أثارت حِراكا ثقافيا واسعا لدى النقاد، بسبب جرأتها البالغة. كتبتُها دون أن أفكر للحظةٍ في التراجع. الكتابة قناعة في المعتقد، قبل أن تكون ميزة فكرية مُلِحة، وعليكَ تقع مسؤولية توصيلها للمتلقي في أشرس حالاتها.
فاطمة بن محمود: خارج الجندر
المرأة وهي تكتب اختارت أن لا يجرفها اليومي، ولا ينهشها الروتين، ولا يصهرها التشريط الثقافي ولا يُنمطها المجتمع. إنها تكتب لتعبر عن وعي بذاتها يجعلها ترغب بشدة في ألا تكون عابرة في الحياة. ولذلك تواجه صعوبات عديدة، وتعيش وضعيات شائكة. المرأة وهي تكتب مسكونة بأكثر من امرأة، ومضطرة لأن تقوم بعدة أدوار اجتماعية في آن واحد، وهذا ما يجعل حياة المرأة الكاتبة صعبة، كما يؤكد أن الكتابة ـ بالنسبة إليها ـ مهمة شاقة تستحق من أجلها أن ترفع لها القبعة.
لا أحب أن أميز كتابة المرأة من منطلق جندري. ما يميز كتابة المرأة هو نفسه ما يميز كتابة الرجل، وهو الموهبة الحقيقية والذكاء الأدبي، الذي يجب أن يصاحب فعل الكتابة، ويحتاج إلى أن يتغذى من تجارب حياتية متعددة ومن مصادر معرفية وابداعية متنوعة، ثم إن النص الأدبي يحتاج إلى قدر من الصدق يجعل منه نصا يشبه صاحبه. وتتمثل الجرأة هنا في القدرة على التفكير بصوت مرتفع، والانحياز للحياة بشكل واضح بمنأى عن كل العوائق الممكنة. كما يميز كتابة المرأة ويحول نصوصها إلى إبداع، أنها تعيش تجارب حياتية خاصة بها تجعلها تختار لغة تمثلها، وتميل الى مواضيع تعبر عنها بعمق؛ وهو نفسه ما يميز ـ مثلا ـ كتابة صياد يمتهن الكتابة ويحدث أن يتحدث عن عوالم البحر، أو مهاجر ويحدث أن يكتب رواية عن الغربة. بمعنى أن المرأة بحكم أنها عادة تعيش في ثقافة قهرية، قد يجعلها ذلك تتمثل خصوصية هذه الثقافة، وربما تكون الأقدر على التعبير عنها لغة وتخيلا. أعتقد أن هذا التميز يُمنح لها بفعل الخصوصية الثقافية، وليست بفعل الخصوصية الجندرية. لا أمارس رقابة على ما أكتبه. تحدثت في كتابي «صديقتي قاتلة» (وهو في أدب اليوميات) عن تفاصيل شخصية كانت مؤثرة بشكل ما على إيقاع حياتي، وأعتقد أني كنت أكثر جرأة عندما تحدثت في روايتين لي هما «الملائكة لا تطير» و«زمن الغبار» عن موقفي من الإسلام السياسي، ورفضي التام له، وهو ما يزال على سدة الحكم في تونس. المشكلة ليست في امتلاك الجرأة، ﻷن الجرأة ليست بطولة من المرأة الكاتبة (ولا من الرجل الكاتب). الجرأة شرط الكتابة، بمعنى أن كل مبدع يجب أن يكون جريئا في التعبير عن آرائه وانفعالاته ومواقفه.
الإشكال بالنسبة لي، هو كيف تكون الكتابة وفق شروط إبداعية، بمعنى أن لا نسقط في المباشراتية، أو في التعبير الفج أو الابتذال، بحيث يمكن أن نعبر عن مواقفنا وأن نحتال على الرقابة فنكتب بحرية، دون أن يكون ذلك على حساب القيمة الإبداعية للنص الأدبي. الكتابة كما أفهمها هي احتجاج وليست استفزازا.
ليلى مهيدرة: الصوت الخالد فينا
لم أسأل نفسي يوما لِمَ أكتب؟ أعرف فقط أنني أحتاج أن أفعل. عندما بدأت فعل الكتابة كنت فقط أعارض ما كانت تجود به الكتب المدرسية من محفوظات وعمري لم يتجاوز حينها التاسعة. لم يكن لديّ تعريف لماهية الكتابة، كانت القراءة فقط، وكان ترجيع الصدى بطريقتي الطفولية الخاصة. باعتقادي ليس هناك فيصل بين فعل الكتابة وكل ما قد تقوم به المرأة طيلة ساعات يومها: قد تغزل الصوف، تجهز الطعام، ترضع صغيرها، وقد تكتب، وقد تفعل أمورا أخرى.
أمر عادي لي على الأقل. المرأة ديدنها الدقة والتفاصيل، والكتابة لديها لا تخرج عن هذا السياق، فهي ترسم تفاصيل شخصياتها بدقة خارقة. بالترتيب والتنسيق نفسه الذي قد ترسمه في داخلها.
المرأة متعطشة للتعبير أكثر وبطرق كثيرة عن ذاتها المتعددة: عبرت بالوشم على جسدها وتحملت ألمه، واجتهدت في ابتكار رموز دقيقة ومتنوعة تطرزها على الأقمشة، وأبدعت باختياراتها للألبسة ولوسائل التزيين. بالنسبة إلى المرأة، لغة واحدة لا تكفي.
هل يحق لنا أن نسأل: لماذا يكتب الرجل؟ وهو الذي يمتلك الحق في التعبير عن ذاته بصوت عال وفي كل الأمكنة تقريبا. يكتب لأنه إنسان بكل بساطة، والكتابة تفتح الآفاق نحو عوالم متعددة. الكتابة هي الصوت الخالد فينا، ما دامت صادقة.
المشكل ليس في ما تكتبه المرأة، ولا الأسلوب الذي تختاره، بقدر ما هو في عين الآخر الذي يأبى إلا أن تسقط ما تكتبه المرأة على ذاتها، ليس كل النقاد طبعا ولا كل القراء، وتجربتي الخاصة لا تخرج عن هذا السياق، ولهذا ربما اخترت في روايتي الأخيرة أن تعتمد شخصية ذكورية، خاصة بعد أن تم توجيه ما جاء في روايتي الأولى على أنه كبت داخلي. ربما كنت أحتاج أن أقول لذلك الآخر إنني أستطيع أن أكونك إن أحببت. هو نوع من التحدي، لم أمارسه وحدي، وإنما هناك كاتبات أخريات حاولن ونجحن وتفوقن، لكننا أحيانا نحتاج أن نكون نحن، أن نعبر عن ذواتنا كما نحن، خاصة بعد انهيار الحواجز بحكم التجربة.
وأكاد أجزم أن عملي الجديد الذي أشتغل عليه الآن لا يخرج عن هذا السياق، بل قد يتجاوز الأمر إلى كونه نوعا من السيرة التي قد تنفتح على عوالم خاصة، لعلها جرأة ولعلها تهور أيضا، لكن أعتقد أننا لن نكون في مستوى القلم الذي قررنا حمله، إن لم نكن صادقات مع أنفسنا أولا، ربما…!
كاتب مغربي