«النصوص الجزيرية» للفنانة التونسية ماجدة محفوظ: توظيف النسيج لسبر أغوار الحياة في أرخبيل قرقنة
«النصوص الجزيرية» للفنانة التونسية ماجدة محفوظ: توظيف النسيج لسبر أغوار الحياة في أرخبيل قرقنة
روعة قاسم
تونس يستضيف فضاء «ميل فوي» أو «الألف ورقة» بضاحية المرسى شمال مدينة تونس العاصمة معرضًا فنيا مخصصًا للحرفيين والفنانين من أبناء أرخبيل جزر قرقنة التونسية الواقع قبالة سواحل وسط البلاد. ومن بين الفنانين العارضين خلال شهر تشرين الأول/اكتوبر الجاري الفنانة ماجدة محفوظ التي استوحت فنها من تقاليد النسيج لهذا الأرخبيل الغنية جزره بموروث ثقافي وحضاري شديد الثراء وضارب في القدم.
تكريم للأرخبيل
ولتقديم معروضاتها من لوحات النسيج القرقني الأصيل، تستخدم ماجدة محفوظ نصًا جميلاً لـ«آن سيلفستر» يبدو أنه صيغ لها وعلى مقاس فنها ومقاس الحياة اليومية لأهالي جزر قرقنة الذين يمتهنون بالأساس أنشطة الصيد البحري والحرف اليدوية التقليدية والزراعة. تقول آن سيلفستر في نصها الذي تقدم به ماجدة محفوظ معروضاتها «في أيام الإبحار الطويلة، التي يبحث فيها البحارة عن الريح وأماكن الصيد، تعرف المنسوجات البسيطة المطرزة بغرز صغيرة كيف تجعل أيديهم الكبيرة التي تضربها الشباك، ناعمة نعومة الزهور التي تتضمنها والأشرعة وحوريات البحر».
إن هذا المعرض هو تكريم حقيقي لأهالي جزر قرقنة المبدعين في مختلف المجالات وهم الذين أنجبوا شخصيات هامة ومؤثرة في كافة الميادين ويأتي في مقدمتهم الشهيد الرمز، المناضل النقابي فرحات حشاد مؤسس الاتحاد العام التونسي للشغل أهم المنظمات الوطنية على الإطلاق. فالمعرض يصور حياتهم اليومية وأنشطتهم المختلفة والمشهد العام للجزر الذي تمتزج فيه زرقة البحر والسماء باخضرار أشجار النخيل والزياتين وبألوان الأزهار الزاهية وبمشاهد الفلاحين ودوابهم وحيواناتهم وهم يكدون لتحصيل لقمة العيش، ناهيك عن الحرفيين والبحارة وغيرهم.
لقد مارست ماجدة محفوظ لعبة الكلمات في اختيار عنوان المعرض باللغة الفرنسية فسمته «نصوص الجزيرة» وتعني الكلمتان مجتمعتان إذا ما تمت ترجمتهما إلى الفرنسية «تاكست- إيل» النسيج بلغة فولتير باعتبار اللوحات المعروضة هي منسوجات. إنه نسيج الجزر الذي يمثل نصا بحد ذاته أو وثيقة تاريخية شبيهة بلوحات الفسيفساء القرطاجية التي اقتبسها الرومان عن القرطاجيين في تونس وبرعوا فيها ونشروها في كافة أنحاء إمبراطوريتهم وصوروا من خلالها الحياة اليومية في تلك العهود الغابرة فمثلت نصوصا مصورة ووثائق هامة اعتمدها المؤرخون في عملية تأريخهم لتلك العهود السحيقة.
عودة إلى الأصول
إن أعمال ماجدة محفوظ في هذا المعرض القرقني الذي ينتظم بعاصمة البلاد وتحديدا بضاحيتها المرساوية الهادئة الجميلة، هو عملية عودة إلى الأصول حيث توجد مصادر عديدة للإبداع في أرخبيل يعج بالأصالة والتنوع الكبير فيما يتعلق بالتراث المادي واللامادي. ففي قرقنة يمكن للفنان أن يبدع وينوع في أعماله من منسوجات وغيرها من خلال ما هو متوفر أمامه من آثار وتراث وألوان ومشاهد اختزنت في الذاكرة ونضجت وباتت جاهزة لتتحول إلى إبداع فني، كما تؤكد محفوظ في حديث لـ«القدس العربي».
إن هناك أربع كلمات مفاتيح هي ركائز هذا المعرض من اللوحات المنسوجة والمطرزة، أولها كلمة «نسيج» وتشير إلى اعتماد الفنانة على الأقمشة التقليدية في قرقنة، ولا سيما «الطارف» الذي يستخدم كغطاء للرأس للنساء في جزر قرقنة. أما ثاني وثالث هذه الكلمات المفاتيح هما كلمتا «آثار» و«الذاكرة» وتجلت الكلمتان من خلال اعتماد الفنانة على التراث القرقني الثري في منسوجاتها في عملية بحث عن الجذور مصطبغة بالحنين. أما الكلمة الرابعة والأخيرة فهي كلمة «صبغ» باعتبار توظيف ماجدة محفوظ في منسوجاتها لألوان قرقنية بامتياز وأصباغ اعتمدها الحرفيون المحليون في صناعاتهم التقليدية التي اشتهر بها الأرخبيل.
كما يمكن إضافة كلمة خامسة إلى الكلمات المفاتيح التي يمكن من خلالها فك شفرة معروضات ماجدة محفوظ وهي كلمة التطريز، فالفنانة التونسية وهي تنجز لوحاتها كانت في الحقيقة تطرز على طريقة أبناء الجزر القرقنية على أقمشتهم الأصيلة. وهكذا تمكنت ماجدة محفوظ، ومن خلال الخيط والإبرة، من استعادة الصور القرقنية من خلال عرض فلاحين وصيادين منغمسين في حياتهم اليومية في هذا الأرخبيل الذي يقع جغرافيا قبالة سواحل ولايتي صفاقس والمهدية التونسيتين والذي يتبع إداريا ولاية صفاقس.
يبين هذا المعرض الهام مرة أخرى أن تفاعل الإنسان مع جغرافيته معين فني لا ينضب بتاتا، وهو مصدر هام للخلق والإبداع، ويبين أن لكل منطقة في تونس خصوصياتها وتراثها، وأن الإنسان هو إبن بيئته مثلما أكدت على ذلك تيارات فلسفية وفكرية عديدة. فلا أحد ينكر تأثير الجغرافيا على الفرد والجماعة على حد سواء، ولا أن هذه الجغرافيا هي مصدر إلهام خاصة إذا كان الأمر يتعلق بفنان مبدع وبأرخبيل تتناثر فيه الجزر الجميلة وسط البحر كاللؤلؤ المكنون.
إن «نصوص» ماجدة محفوظ باختصار تكرس النهج الذي يبني الجسور بين الذاكرة الحية والممارسات الفنية، هذه الذاكرة النسيجية لجزر قرقنة المطرزة والمنقوشة على ألواح تتنوع فيها الألوان المبهجة والمريحة للبصر. إنها لوحات تدفع المرء إلى التمعن فيها واكتشافها من خلال هذا المعرض الذي وصفه البعض بأنه «لود» قرقنة بامتياز، واللود هو العبارة البحرية الشهيرة التي تنقل زائري قرقنة وأهلها إلى أرخبيلهم انطلاقا من موانئ مدينة صفاقس التونسية في مشهد بحري جميل قل نظيره على وجه البسيطة.
تفاعل المراسي
ترى الصحافية التونسية المتخصصة في الشأن الثقافي سامية حرار في حديثها لـ«القدس العربي» أن ماجدة محفوظ ومن خلال العرض في فضاء «ميل فوي» أو الألف ورقة الساحلي الواقع بضاحية المرسى على سواحل المتوسط أن سواحل تونس واحدة تتفاعل فيما بينها إبداعيا. فلا ضير، حسب الإعلامية، في أن تقلع سفن قرقنة من مراسيها في قواعدها بالجزر المتناثرة قبالة سواحل ولاية صفاقس إلى مرسى العاصمة الذي تغنى بغزلانه وغزلان ضاحية حلق الوادي الفنان فريد الأطرش في أحدى أغانيه الخالدة.
وتضيف محدثتنا قائلة: «إن منسوجات ماجدة محفوظ أو نصوصها المصورة أو المطرزة هي عملية توثيق للحياة اليومية لأهالي قرقنة لكن بأسلوب مختلف عن التوثيق المعتاد والمألوف والذي يكون عادة من خلال الكتابات أو الأفلام أو غيرها. لقد حولت الفنانة التطريز من صناعة حرفية تقليدية إلى فن تشكيلي معاصر وهنا يكمن التجديد الإبداعي لماجدة محفوظ والذي ميز هذا المعرض الذي وجبت زيارته والتمعن بدقة في لوحاته القرقنية المنسوجة.
لقد نقل هذا المعرض الجزر القرقنية بكل تراثها وأصالتها وحياة سكانها اليومية إلى المرسى ومكن سكان العاصمة من الإطلاع على إبداعات القراقنة وعلى حياتهم اليومية وأهم مميزات أنشطتهم. لكن ذلك لا يغني عن زيارة قرقنة والإطلاع عن كثب على هذا التراث والتنعم بجمال الطبيعة وتناول أطباق بحرية قرقنية مثل الكسكسي بأخطبوط البحر والكسكسي بالسمك القرقني، والعصيدة بأخطبوط البحر وثمار البحر المشوية وغيرها».
ـ «القدس العربي»: