ثقافة وفنون

نحو هوية سردية عراقية: مقاربات وشهادات من مؤتمر السرد الخامس

نحو هوية سردية عراقية: مقاربات وشهادات من مؤتمر السرد الخامس

مروان ياسين الدليمي

مدونة السرد الروائي في العراق لم تعد نبته هشة ويتيمة إذا ما قورنت بغابة الشعر الكثيفة في بلاد ما بين النهرين، فقد بدأت تتسع وتنمو بشكل لافت خلال العقدين الماضيين، وأخذت رفوف المكتبة تستقبل عناوين جديدة تستوعب ما تخطه مخيلة الروائيين من رؤى وأفكار وصور تباينت في عمقها وارتحالاتها بين عوالم السرد المفتوحة على تعالقات الذات الساردة، مع سطور وتشابكات الحياة والتاريخ والزمن، ونحن هنا لسنا مخدوعين أو متورطين بوهم الكم الكبير من النتاج الروائي الذي تراكم بعد عام 2003، بقدر ما نشير إلى ما قد يتمخض عن هذا الكم من علامات فارقة يمكن ملاحظتها والمراهنة عليها في أنها الثروة التي ستساهم في تشكيل ملامح الهوية السردية العراقية، التي ما زالت حتى هذه اللحظة لم تتشكل بعد إذا ما قورنت بتجارب شعوب أخرى، مثلما هو عليه الحال في أمريكا اللاتينية، أو اليابان أو فرنسا أو الهند، فالمهم من وجهة نظرنا، أن حاجز الشعر الذي كان يحول دون الدخول في مغامرة السرد، تم اجتيازه، وانفتح المشهد الإبداعي من منفى الشعر إلى حرية الحيز السردي، وهذا ما لا يمكن أن يتخطاه الراصد إذا ما أراد أن يكون موضوعيا، فقد اتسعت النافذة لتستوعب بين يوم وآخر أصواتا جديدة أخذت تدون أسماءها في سجل الذاكرة السردية، وقد اجتازت التجربة العراقية تلك الكوة الضيقة التي كان قد فتحها الرواد الأوائل، الذين ظلوا لعقود طويلة يعدون على أصابع اليد الواحدة منذ رواية «جلال خالد» التي تعد نقطة الشروع في تاريخ السرد الروائي، والتي أطلقها عام 1928 محمود أحمد السيد (1903 ـ 1937) فأخذت التجارب في النتاج السردي العراقي المعاصر تتموضع في مخطوطات تكشف عن تمرد الكتاب والروائيين على ما ورثوه في مغامرة السرد، من تقنيات وأساليب انحازت إليها الأجيال التي سبقتهم زمنيا في ميدان الكتابة السردية.

صيغ مؤسساتية

إزاء ذلك كان لا بد من الدخول إلى رحاب تنظيمية تتفاعل مع هذا المتغير في أطر الكتابة، بإيجاد صيغ مؤسساتية تتولى مهمة رصد الطاقة الإنتاجية لماكنة السرد، وما ينتظم في داخلها من تحولات فنية وتقنية، بهدف رسم تفاصيل ما تطرحه من نتاج روائي، اعتمادا على قراءات نقدية وتنظيرية تأخذ بنظر الاعتبار الاستناد إلى المناهج الأكاديمية في مقدمة اهتماماتها، إضافة إلى ما يتطلبه هذا الجهد التنظيمي من إيلاء أهمية كبيرة لشهادات كتاب الرواية، باعتبارهم الذات المنتجة الفاعلة في تشكيل الواقع الثقافي الجديد، من هنا وجد اتحاد الأدباء والكتاب في العراق ضرورة إقامة مؤتمر يعزز المكانة التي أخذ السرد يشغلها في العراق، وهذا ما تم التعبير عنه في المؤتمر الأول، الذي أقيمت دورته الأولى في العاصمة العراقية بغداد منتصف شهر كانون الثاني/يناير 2016 والتي أطلق عليها دورة الروائي غائب طعمة فرمان (1927 ـ 1990) شارك فيها عدد كبير من النقاد والباحثين والأكاديميين، من العراقيين والعرب المعنيين بالرواية.
وكانت أعمال المؤتمر قد انتظمت في أربعة محاور: الرواية والهوية، الرواية والإرهاب، الراوية العراقية: التشكيل والتأصيل، الرواية والسينما.
وشارك فيها ستة عشر باحثاً مع تسع شهادات لروائيين عراقيين من أجيال وتجارب مختلفة.

وفي حوار أجري من قبل موقع «إيلاف» في حينه مع الرئيس الأسبق لاتحاد الأدباء والكتاب في العراق فاضل ثامر قال: «إن الرواية العراقية تقدمت كثيرا، والمؤتمر يمثل اعترافا بالنضج الملموس للرواية العراقية، بوصفها جنسا استطاع أن يؤكد حضوره خلال السنوات الأخيرة، وبصفتي ناقدا لاحقتُ الكثير من محطات التحول المهمة في البنية الداخلية للرواية فوجدتها قد فارقت الأشكال التقليدية وانفتحت على اتجاهات حداثية وما بعد الحداثية في أكثر من مستوى، فهناك انهماك في مشاكل التجريب واللغة والبنية وبناء الشخصية. وللتأكيد على اهتمامنا بالرواية قررنا في اتحاد الأدباء إقامة هذا المؤتمر».

دورة السَّارد باسم عبد الحميد

وانطلاقا من حرص الاتحاد على السير بهذه الخطوة والاستمرار بها وإنضاجها، تواصلت دورات المؤتمر لتشهد بغداد انطلاق الدورة الخامسة التي أقيمت للفترة بين 26 ـ 28 أيلول/سبتمبر 2024 بعد أن تعنونت باسم القاص الراحل باسم عبد الحميد حمودي، وقد توزعت جلسات المؤتمر على مفصلين، الأول جاء تحت عنوان «شهادات» قدمها روائيون عن تجاربهم في الكتابة.
والثاني شمل دراسات ساهم فيها نقاد وأساتذة أكاديميون، وقد انتظمت في محورين، الأول بعنوان «التعددية الثقافية في السرديات العراقية» والمحور الثاني بعنوان «سرديات السيرة/ الفن والتقنية « وكل محور تضمن ستة بحوث تعاقبت على تقديمها مجموعة من الدراسين والنقاد المعروفين في اشتغالاتهم النقدية على فنون الكتابة السردية.

السرد حياة شاخصة

ما يحسب لإدارة المؤتمر أنها كانت قد استكتبت جميع المشاركين في المؤتمر منذ وقت مبكر على انعقاده، ومع بدء أعماله في اليوم الأول تم توزيع كتاب من 274 صفحة، تضمن جميع الشهادات والدراسات التي ستطرح ضمن جلسات المؤتمر، مع مقدمة بعنوان «خدوش على وجه الكتابة «تولى كتابتها مسؤول نادي السرد في اتحاد الأدباء والكتاب في العراق، الروائي خضير فليح الزيدي جاء فيها: «هذه الشهادات المدونة لم تكن رعافا عابرا، بل هي نزف دائم لنخبة فاعلة من كتاب القصص والروايات في العراق، محاولة جادة في استباحة رؤاهم المجتمعة». ويضيف «لم تكن شهادات عن تجاربهم الأدبية والسردية فحسب، بل كُنتُ أقرأ ما بين كلماتهم كمية الألم العظيم الذي واكب عملية العيش والكتابة، والألم تحت قيد موجبات العزلة، فالكتابة تأكل غالبا من متطلبات العائلة، وإلحاح الزوجات في توفير الحياة الرغيدة، أي رغيدة والكاتب معزول بين هوس وشغف الكتابة واستحقاقات المجتمع تتشظى لحظة الكتابة المقدسة» ثم يختتم كلمته فيقول «جاءت الشهاداتُ كشاهدةِ قبرٍ لحياة شاخصة تبقى لأجيال لاحقة ستدقق وتمعن في سطورها كثيرا في ما قاله الكبار عما يعتمل في أنواتهم، التي عانت شظف العيش والفاقة والعوز والحروب، مثلما عانوا من الصمت إزاء ما يحصل قرب نوافذ بيوتهم، عانوا من زق الرصاص الطائش خلف النوافذ وكذَّبوا أكذوبة الحياة البريئة».

مخزون الذاكرة الذاتية

الملاحظ على شهادات الروائيين أنها اتسعت لتشتمل على زوايا وانشغالات وعوالم مختلفة من مخزون الذاكرة الذاتية، ذهب فيها أصحابها إلى مناطق متنوعة من مغامراتهم التي كانت شاهدا على شغفهم بالكتابة، وعلى تجاربهم الحياتية التي انعكست في نتاجهم، ولا شك في أن هذه الشهادات في غاية الأهمية للدارسين، لأنها ستوفر لهم فرصة الوصول إلى حافات الطرق والمسالك الشائكة التي قطعها الروائيون أثناء عزلتهم الكتابية وهم «يسرحون مع قطيع الكائنات الخيالية المتدفق نحو المرعى» مثلما عبر عن ذلك أحمد سعداوي في شهادته.
والشهادات كشفت عن أن قسما من الكتاب وجد في الفضاء الرحب الذي يوفره السرد أفضل وسيلة لمعانقة الواقع بدلا من التعالي القائم في كتابة الشعر، وفي هذا السياق تساءل البعض في شهادته «هل ما سنرويه يمثل الحقيقة؟» بينما أكد البعض الآخر «ليس مهمة القاص أن يجيب عن أسئلة الواقع، لأنه ليس مؤرخا بقدر ما هو فنان إشكالوي يثير الأسئلة الحرجة الشائكة عبر توغله في عمق الأشياء، وخلقه لعوالم وحيوات مفترضة، تناظر عالمنا وحياتنا وتتقاطع معهما».
تمركز المحور الأول من الدراسات حول موضوعة التعددية الثقافية في السرديات العراقية، ولعل هذه الموضوعة تشكل الأفق السجالي الذي ينهض عليه الفكر الجمعي المتسيد في الواقع، والذي يعكس مزاج الثقافة في المجتمع العراقي على وجه خاص والعربي بشكل عام، والمقدمة لهذا الجزء كتبها الروائي حسين محمد شريف وكانت تحت عنوان «فوق خط القول» يقول فيها: «كان بالإمكان وصف البحوث المقدمة بما فوق خط القول، كونها اشتغلت على تحديد المراد بنحو دقيق لم تعرف التشظي إلى غير وجهتها، فضلا عن الفهم المعمق الذي ركن إلى جانب إجرائي، فهي لم تكتف بالتنظير فحسب، بل ولجت النصوص معرفيا بوصفها موضوعا للدرس».

ويضيف محمد شريف «في الوقت الذي يؤمن فيه المؤتمر بأن النقد ليس تراصفا للكلمات، ولا ألعابا لغوية مجانية، ولا مهارات في استعراض البلاغة الزائفة، ولا محاولات لتلميع الغث، فهو يشدد على أهمية أن يأخذ النقد مجراه اللائق بما يقدم من أدب مسكون بالسؤال، وبالبحث عن الهوية في عالم هش، عالم بالكاد يحاول أن يبقى متماسكا في ظل فراغ الذات جراء التحولات الكبرى التي يعيشها الإنسان راهنا».

البنيوية وسرديات السيرة

في كتاب»معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب» يذكر مجدي وهبة وكامل المهندس بأن «السيرة سواء أكانت سيرة ذاتية شخصية، أو سيرة غيرية هي جنس أدبي، فهي سرد قصصي لتجارب وأحداث وذكريات، لذلك نرى أن كاتب السيرة الذاتية باستخدام التقنيات الفنية ذاتها التي تستخدم في الرواية، أن السيرة الذاتية تعد نصا سرديا، فهي جنس أدبي تقترب في الكثير من أوجهها من الرواية، وهذا التقارب بين السيرة والرواية أحدث تداخلا كبيرا بين الجنسين السرديين».
ومنذ منتصف القرن العشرين بدأ الاهتمام بفن السيرة في إطار الدراسات الأكاديمية، باعتباره من الفنون السردية، وتجلى ذلك في اشتغالات علم السرد المعاصر خاصة لدى البنيويين.
وفي العراق ازداد الاهتمام بكتابة السيرة بعد عام 2003 بعد أن أزيحت عن كاهل الكُتَّاب أشكال الرقابة والمراقبة التي كانت تفرضها السلطة قبل هذا التاريخ، فأصبح المناخ ملائما لكي يتبدى هذا النوع من السرد، ونتيجة لما تم إنجازه من إصدارات في هذا السياق، أصبح من اللازم أن يحظى بالمتابعة والدراسة النقدية، وبناء على ذلك فقد استأثر بمساحة من القراءات والبحوث والدراسات في مؤتمر السرد الخامس، حيث تضمنت مقاربات تطبيقية لعدد من النصوص، فالذخيرة المهمة لهذا المؤتمر ليس في ما تم تقديمه من شهادات ودراسات فقط، بل في النقاشات التي عقّبّت على ما جاء فيها من أفكار، وهذا ما يضع المشهد الثقافي على المسار السليم.

كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب