ثقافة وفنون

ثقب المفتاح لا يرى!

ثقب المفتاح لا يرى!

هاشم شفيق

كتاب «ثقب المفتاح لا يرى» هو عنوان المختارات الشعرية لعشرين شاعرة أمريكية، بعضهنّ نلن جوائز شهيرة ومرموقة كنوبل وبوليتزر وغيرهما من الجوائز الشعرية والأدبية الرفيعة.
اختارت الشاعرات، وقدّمت للمختارات المترجمة المصرية سارة حامد حواس، متبوعة بمقدمة ضافية للشاعر أحمد الشهاوي، الذي حرر أيضاً الكتاب، ما أضفى عليه طابع الشمولية والدقّة والمسؤولية الجمالية.
حين أوغلت في قراءة الكتاب وجدتني أمام ترجمة شيّقة، سلسة وتحمل طابع الرقة الأنثوي لدى المترجمة والشاعرات معاً، فنحن حين نقرأ نجوس في عالم الجمال والفتنة والسحر، وكذلك البراعة الفنية التي تتمتع بها الشاعرات، وهن شاعرات عالميات وشهرتهنّ واسعة، تتخطى بلدان المنشأ إلى العالمية. بالطبع الشاعرات في المنحى الفني، هنّ على اختلاف وتباين وتمايز بين بعضهنّ، والبوح الشعري لديهنّ يتداخل في أنسقة وسياقات تعبيرية مغايرة، بين واحدة وأخرى، فالألم مثلاً له درجات وألوان وحكايات، وإن كان واحداً، وأيضاً الشعور بالضياع والغربة الوجودية، أو السعادة والاحتفاء بالحياة، فهو يتخذ هيئات وسبلاً وأشكالاً بين شاعرة وأخرى. طبعاً علينا ألا ننسى الحب والعشق والهيام بالآخر، إلى حيث التولّه والهيمان والتدلّه العاطفي، فهي عوالم راسخة لدى المرأة، مثلما هي لدى الرجل، وأيضاً هناك آفاق ثانية تطل بين الصفحات وأنت تقرأ هذا المزيج الملوّن من العوالم المتشابكة، كأفق الطفولة والعائلة وسنوات المراهقة والدراسة وفترات الأمومة وغيرها، مما يعلق في الأحاسيس والمشاعر وفي الطبقات السحيقة من الأعماق الداخلية للمرأة الشاعرة، حيثما كانت وأنّى وجِدت على الأرض، منذ سافو والخنساء ونازك، ومنذ إيميلي دكنسون وسلفيا بلاث وريتا دوف ونينا كيسيان وفروغ فرخ زاد، حتى أحدث شاعرة في هذه اللحظة الزمنية من القرن الحادي والعشرين.
فعبر دراستها واطلاعها الواضح على خبايا الشعر العالمي، لاسيّما شعر النساء في العالم، أدركت المترجمة سارة حامد حواس مدى صعوبة هذه المهمة، وهي نقل الروح في النص المترجَم، بما يعني صب جزء من كيانك في نص الكيان الآخر، وجعل النص المترجَم من لغة أخرى نصّك، فأنت تكون هنا قد وضعت مشاعرك وحواسّك ومجسّاتك كلها في قلب شِعر الآخر، لكيما تتماهى معه في الأخير، وتتماثل روحياً مع بواطنه، وعمقه النفسي وتشعباته الداخلية، وحسب المُترجمة: «فترجمة الشعر أعمق بكثير من مجرد قواعد أو التزام بوزن، أو قافية، أو نقل معنى، أو كلمة أو جملة من لغة إلى لغة أخرى، فأنت أمام نص مكثف شكلاً ومضموناً، فالشاعرة تعبّر عمّا يدور داخلها من آلام روحية ونفسية في قصيدة شعرية تخضع إلى تحكّمات في البناء والشكل، ولكل لغة خلفيتها الثقافية الخاصة، التي يجب على المترجم أن يكون على وعي بها.. ففي كل كلمة من النص الشعري، رحلة جديدة في البحث عن معناها ومغزاها ورسالتها، فالكلمة الواحدة في النص الشعري بوزن الذهب».
من هنا التزمت المترجمة بالنص الروحي الداخلي للمبنى الشعري، وأحاطت بالشكل والبنية العامة للقصيدة، لكي تكون القصيدة جامعة لبنائها التكاملي، الشكل والمحتوى، مع الإحاطة بعلم الدال والمدلول، وما يشكله علم الدلالة من إضمار جواني، يمنع النص الشعري من الانزلاق في هاوية المباشرة، والتسطيح الفج للمعنى وللبعد الرمزي الذي تحمله القصيدة.
في ضوء هذا السياق استغرقت رحلتي مع الشعر المترجم، عدة عقود، منذ مطلع شبابي الأول، وحتى هذه اللحظات ما زلت أتابع كل ما يترجم في عالم القصيدة الأجنبية الحديثة، وهي تخرج من مرحلة فنية لتدخل أخرى، عالم من الأحلام واليوتوبيات وكذلك من الوتريّات والصوتيات والنداءات الملوّنة بلغات العالم ومن كل مكان. ولذا لفتني الكثير من الأعمال المشغولة بعناية من لدنّ هذا وذاك، وحتى الترجمات الضعيفة كنت أتوقّف عندها وأقرأها كلها، لا أرميها أو أهملها، بل أتمسّك بها، لأتفحّص وأقارن بينها وبين ترجمة أخرى، بين سياق ما وتعبير آخر لدى المترجم المختلف للذي ترجم للشاعرة أو للشاعر نفسه، أمحّص وأدقق لأكتشف الهنات والفجوات والخسوفات في باطن القصيدة، وهي قد تكون في الأصل في غاية الجودة، ولكنها على يد أحد المترجمين، قد تكون الأعمال المترجمة قد هوت في شِباك اللا معنى، ويكون حظها قد أودى بها الى الهوّة، بيد هذ المترجم، الذي لم يتمكّن من استكناه جمال ورموز ومعاني القصيدة التي بين يديه. لهذا وجدتُ المترجمة سارة حواس قد اجتازت مطبّات الوقوع في أسر القصيدة الشِّباك، وتخلصت من قصيدة اللا معنى، الى قصيدة المعنى المتكامل والواضح والمدروس بعناية، وهذا ربما ما أكده في موضع آخر الشاعر أحمد الشهاوي، في معرض تقديمه الدقيق وإسهامه المثابر عبر الملاحظات، في سبر خفايا القصيدة مع عمل المترجمة، وهي تشتغل على النص الشعري الأجنبي، ليراقبه بعين الشاعر المتبحّر لكي يبدي في ما بعد ملاحظاته الوازنة وإعجابه بما قرأ أيضاً كونها، حسب تعبيره، «كانت تصل إلى المعنى من دون تفسيره، مع الاحتفاظ بشعرية اللغة، وإيقاع الحرف، وكانت ذكية في إنشاء العلاقات المتغايرة داخل النص، فلم تعتمد الترجمة الحرفية للمفردات، وحافظت على التدفق العفوي الذي جاء في القصيدة.. إن ترجمتها ليست توصيلية، بل فيها من النحت والخلق والابتكار الكثير». وهذا ما تعكسه النماذج التالية من الكتاب.
الشاعرة إليزابيث بيشوب:
*أحتاج إلى موسيقى
أحتاجُ إلى موسيقى تنسابُ
فوق أطراف أصابعي المرتعدة
وشفتيَّ المرتجفتين الموصومتين بالمرارة
مع لحن عميق واضح بطيء كسائل،
أو من المذنّبات المُداوية، البطيئة الخافتة،
لأغانٍ تغنّت لإراحة الموتى المتعبين،
أغنية تسقط كالماء فوق رأسي،
فوق أطرافي المرتعشة».
الشاعرة ليسيل مولر:
الحب كالملح
نحتضنه في أيدينا كالكريستال،
معقّد يصعب فك شيفرته،
يندفعُ نحو المِقلاة
من دون أدنى تفكير،
يتناثر على الطرقات بنعومة،
ندوسُ عليه من دون هوادة.
الشاعرة آن سيكستون:
*كلمات
كن حذراً من الكلمات
حتى الإعجازيّ منها
فلأجل الإعجاز نبذلُ وسعنا،
أحياناً تحتشد كالحشرات
ولا تترك لدغة
بل قبلة…
إنها حمامات تهبط من السقف،
إنها ست حبات برتقال مقدّسات
ظلت في حضني.
الشاعرة سلفيا بلاث:
*اللطف
اللطفُ يحوم حول منزلي،
سيدة اللطف جذابة جداً
جواهر خواتمها الزرقاء والحمراء
تضوّي في النوافذ،
تمتلئ المرايا بالابتسامات.
الشاعرة ماري أوليفر:
*هدية
اهدئي يا روحي اثبتي
ما زالت الأرضُ والسماءُ تراقبان
وعلى الرغم من نفاد الوقت من ساعتكِ
ومشيتك البطيئة التي كانت سريعة وواثقة من قبل
تمهلي إذا كان لا بدّ من ذلك
اتركي القلب يظهر بوجهه الحقيقي
لا يزال الحب يستمرُّ كما كنت تحبين
ذات مرة وبعمق ومن دون صبر.
الشاعرة لويز غلوك:
*الحديقة
الحديقة معجبة بك،
فمن أجلك لوّنتْ نفسها بالأخضر
والورد الأحمر المبهج
التي ستأتين إليها مع عشّاقك،
انظري كيف شكلت أشجار الصفصاف
خيام الصمت الخضراء.
إصدار مجموعة «بيت الحكمة للثقافة» ـ القاهرة.

شاعر وكاتب عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب