الحملة الإسرائيلية على جباليا خلفها أهداف عسكرية وأمنية ومآرب أيديولوجية
الحملة الإسرائيلية على جباليا خلفها أهداف عسكرية وأمنية ومآرب أيديولوجية
الناصره / وديع عواودة
يواصل الاحتلال، منذ أسبوع، عمليات تطهير عرقي في شمال القطاع مستوحى من “خطة الجنرالات” ويشمل استهداف المدنيين، للضغط على المقاومة بعدما فشل في تحقيق أهداف الحرب المعلنة؛ إخضاع “حماس”، واستعادة المحتجزين.
للمرة الرابعة، وبعد توقّف العمل العسكري لشهر ونصف، يعود جيش الاحتلال لشمال القطاع، لكنه الآن يعمل على طرد المدنيين بالتجويع، والحرمان من الماء والدواء، ليس فقط لتحقيق غايات عسكرية وأمنية (مواصلة ضرب قوات “حماس”، والحفاظ على أمن مستوطنات “غلاف غزة”، وفق مزاعم الرواية الإسرائيلية الرسمية)، إنما هي محاولة استكمال إيقاع نكبة تشمل ضمّاً للأرض، بناء حزام أمني على الأقل، إن لم يكن الاستيطان أيضاً، ومن جملة المآرب صدع وعي الفلسطينيين، وترميم الوعي النازف لدى الإسرائيليين، في ظل شكوك متزايدة لديهم بفشل الحرب في الجبهات المختلفة، وتورطهم في حرب استنزاف طويلة، رغم النجاحات في الاغتيالات وعمليات الهدم.
حكومة الاحتلال تبحث عن انتصار مطلق مفقود، وعن حسم لم يتحقق حتى في لبنان ومع إيران، وتدمير وتهجير، وربما الاستيطان بدوافع أيديولوجية
وهناك من يعتقد أن إسرائيل تقوم بهذا الهجوم العنيف على جباليا الآن بوحشية كبيرة لأنها تسابق الزمن قبل الانتخابات الأمريكية في الخامس من نوفمبر، كي تدمر وتهجّر بحرية. مثل هذه القراءة مغلوطة، لأن دولة الاحتلال بقيادة نتنياهو تواصل عملية التدمير والتهجير لتحقيق أهداف معلنة أو غير معلنة دون أي اكتراث بالإدارة الأمريكية، المؤيدة للاحتلال في الأمس واليوم وغداً.
نتنياهو، المسكون بهاجس التاريخ، ويرى نفسه تشرتشل الإسرائيلي، يستمد تشجيعاً في إقدامه على تدمير وتهجير شمال القطاع بالكامل من أوساط عسكرية في الاحتياط، يقودها مستشار الأمن القومي الأسبق غيورا آيلاند، المحرّك لـ “خطة الجنرالات”، القائمة على استهداف المدنيين بالتجويع والخنق والحصار والضرب من أجل اصطياد عدة عصافير في جريمة واحدة: إيلام أشدّ لـ “حماس” والفلسطينيين يتمثّل بالسيطرة على الأرض، إنتاج ضغط شعبي على “حماس” ودفعها للقبول بشروط الاحتلال في الصفقة، ووقف مقاومتها ونزع سلاحها.
ويدفع آيلاند وشركاؤه في الخطة الدموية من خلال الزعم أن القانون الدولي يتيح الحصار طالما تعطى فرصة للمدنيين بمغادرة مناطق القتال الخطيرة، زاعماً أيضاً أن هناك تفسيرات واجتهادات معتمدة في العالم تسمح باستهداف المدنيين كونهم حاضنة لـ “الإرهاب”، وسبق أن دعا، في عشرات التصريحات والمقالات، منذ شهور، إلى ضرب النساء والأطفال داخل القطاع كونهم زوجات وأمهات وأولاد “الإرهابيين”، وكانت “المحكمة الدولية” في لاهاي قد تطرّقت لمثل هذه الدعوات التي تنزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين تبريراً لقتلهم وتدمير ديارهم.
الانتصار المفقود
حكومة الاحتلال برئاسة نتنياهو تبحث عن انتصار مطلق مفقود وعن حسم لم يتحقق حتى في لبنان ومع إيران، وعن كيّ وعي الفلسطينيين بالتدمير والتهجير والسيطرة على شمال غزة، وربما الاستيطان بدوافع أيديولوجية (مسنودة بخطاب ديني تاريخي)، وسياسية (حسابات البقاء في الحكم في ظل ضغوط سموتريتش وبن غفير وغيرهما)، وليس طمعاً بأهداف عسكرية وأمنية فحسب.
وهذا يتكاتب مع أطماع، غرور وعنجهية نتنياهو ابن المؤرخ الصهيوني المتطرّف، المسكون بهاجس التاريخ، والمصاب بجنون العظمة. طيلة سنوات حكمه، منذ عاد للسلطة في 2009، كان هو وأبواقه معه يرى بنفسه تشرتشل الإسرائيلي، ودأب على استذكاره، واقتباسه، كما فعل في خطابه في الكونغرس الأمريكي، قبل شهرين ونيّف، حينما تحدث عن تباطؤ أمريكي في تزويد السلاح والذخائر، فقال: “أعطونا الوسائل ونحن نستكمل المهمة”.
فشله، حتى الآن، في تحقيق أهداف الحرب رغم التدمير والتهجير والإبادة يكرّس ذكرى “طوفان الأقصى” في مركز وعي الإسرائيليين، وهذا ما يريد استبداله بما يعوّض الإخفاق الكبير في السابع من أكتوبر، وفي وقف النزيف بعد تحقيق أهداف الحرب. هذا يدفع نتنياهو لتبني “خطة الجنرالات”، الداعية لزيادة الضغط والجرائم، وينسجم مع مآربه الموجودة لديه أصلاً، فهو لا يختلف أيديولوجياً عن سموتريتش وبن غفير وسائر المتطرفين الغيبيين الراغبين بالتدمير وبالاستيطان من البحر للنهر، لكنه أكثر براغماتية منهم، يستنكف عن القيام بخطوات تبدو غير منطقية بخلافهم.
تشرتشل الإسرائيلي
ويمضي نتنياهو في ذلك في عدة جبهات، ولذا فإن توجهاته “التشرتشلية” تدفع نحو حريق أكبر في المنطقة؛ ضرب إيران، ومحاولة استدراج الولايات المتحدة لـ “الصدام العظيم” معها، وهذا ما حاول إقناع الأمريكيين به، خلال خطابه الشعبوي الديني في الكونغرس، حيث زعم أن إيران عدوهم الأول، وأن إسرائيل تدافع عنهم وعن الغرب، فذكرها في كلمته 27 مرة.
ويستمد نتنياهو التشجيع في الإمعان في غيّه، وفي إشعال الحرائق وتوسيعها من ضعف الضغوط الداخلية والخارجية عليه، وسط ابتزاز للإدارة الأمريكية والحزب الديموقراطي قبيل انتخابات الرئاسة.
ويرى محرّر الشؤون اليهودية في صحيفة “هآرتس” اينشيل بابر أن نتنياهو يأمل اليوم أن ينجح بترجيح كفّة التاريخ لصالحه هذه المرة أيضاً، كما “قلب الطاولة” ونجح في الانتخابات العامة في 1996، غداة اغتيال رابين.
ويؤكد بابر أن إسرائيل تُقاد من قبل شخص أسير تمثّل أو تصوّر ذاتي كاذب.
ويتبعه زميله المعلق السياسي جدعون ليفي، الذي يغرّد بعيداً عن السرب الإسرائيلي، ويقول اليوم، ضمن تحذير جديد، إن “إسرائيل في سكرة قوة ولا يوجد من يوقفها في طريقها للتحطّم، وهذه الغطرسة ستنتهي بالدم والدمع”.
يشير ليفي إلى أن إسرائيل، بعد عام، عادت لتصاب مجدداً بالغرور، ويقول ساخراً: “بعدما حسمنا “حماس”، وخرّبنا غزة، والآن نحسم “حزب الله” ونهدم لبنان، وجهتنا الآن إلى إيران. في الخطاب الإسرائيلي نسمع دعوات لاستبدال النظام في إيران أيضاً، واغتيال خامنئي، ويتردّدون هل نضرب منشآت نووية أو نفطية”.
ويؤكد ليفي أن إسرائيل “تنتقل من أسفل الحضيض والانكسار في السابع من أكتوبر إلى قمة العجرفة المتمثّلة بالرغبة باستبدال أنظمة حكم وتحريك شعوب من مكانها في كل الشرق الأوسط، وكل ذلك في سنة واحدة. هذا سينتهي إلى الدم والدمع، فطبيعة الغطرسة، حسب تعريفها في علم النفس، تنتهي بكارثة. طبيعة تحولات متطرفة كهذه (من محرقة جديدة متخيلة، لانتصار متخيّل) تنتهي بالتحطّم”.
نتنياهو لا يختلف أيديولوجياً عن سموتريتش وبن غفير وسائر المتطرفين الغيبيين الراغبين بالتدمير وبالاستيطان من البحر للنهر، لكنه أكثر براغماتية
لكن جدعون ليفي لا يعكس أي تيار في إسرائيل، ويبدو صوتاً في البرية. فنتنياهو يجد دعماً لتوجهاته حتى داخل المؤسسة الأمنية الراغبة بالبحث عن مخارج سياسية للمأزق متعدّد الجبهات.
رئيس “الشاباك” رونين بار، ورغم تسريبات سابقة عن تأييده لوقف الحرب على غزة، وإبرام صفقة مع “حماس”، قال، عشية يوم “الغفران” اليهودي، يوم الخميس الماضي، إنه “لا بدّ من ضمّ مناطق من أجل الدفاع عن المستوطنات الحدودية”، لأن إسرائيل لا تستطيع حماية مواطنيها بدون ذلك: “في السلام يكون الدفاع في جهة واحدة من الحدود، وفي الحرب تكون الحماية من جهتي الحدود”.
وبذلك ينضم بار لأوساط إسرائيلية تدعو لـ “ضفننة” جنوب لبنان وقطاع غزة، أي القيام بالسيطرة على مناطق محتلة، وبغزوات متتالية عليها، ضمن عقيدة “جزّ العشب” لمنع تنامي المقاومة، وتعني أقوال بار وأفعال نتنياهو أن الحرب ستطول شهوراً كثيرة، أكثر.
ضمّ تدريجي
في المقابل؛ ما زالت المؤسسة الأمنية معنية بوقف الزيف وعدم التورّط بحرب استنزاف أطول وأوسع. وتنقل صحيفة “يديعوت أحرونوت”، اليوم، عمن وصفتهم “قادة كباراً في المؤسسّة الأمنية” ترجيحاتهم أن الحكومة تركت المفاوضات، وأن احتمالات الصفقة ضئيلة، معللة ذلك بالقول إنه “منذ وقف الاتصالات لم تتم محادثات مع جهات دولية، علاوة على عدم مناقشة المستوى السياسي مع المؤسسة الأمنية أحوال المخطوفين”.
هذه المصادر الأمنية ترى أن المستوى السياسي يدفع نحو ضمّ متدرج في غزة، بدلاً من إنهاء الحرب واستعادة المخطوفين: “القرار بدخول شمال القطاع اتخذ دون بحث معمّق، وهذه الخطوة معدّة للضغط على المدنيين في المنطقة، رغم أن هذه الخطوة تهدد حياة مخطوفين”.
“القدس العربي”: