ثقافة وفنون

كيرتش والهولوكوست: متفرّج أم شاهد؟

كيرتش والهولوكوست: متفرّج أم شاهد؟

صبحي حديدي

كيف أمكن لأديب روائي، يهودي ناجٍ من المعتقل النازي (أوشفيتز ثم بوخنفالد)، وفائز لاحقاً بجائزة نوبل للأدب سنة 2002 لأنّ «كتاباته تُعلي شأن تجربة الفرد الهشة في مواجهة عشوائية التاريخ البربرية» كما قالت الأكاديمية السويدية؛ كيف له أن يُصدر مجموعة مقالات في السياسة والأدب والوجدان والعشق… تحت عنوان «متفرّج»، كتاب إيمري كيرتش (1929 – 2016)، الذي صدرت ترجمته إلى الفرنسية مؤخراً؟
صحيح، كما تتوجب الإشارة، أنّ اقتياده إلى المعتقل النازي لم يستغرق سوى سنة واحدة، 1944 – 1945، إلا أنّ كيرتيش دأب على الالتصاق الأقصى بموضوعة الهولوكوست، في سائر أعماله وبلا استثناء يُذكر. وظلّت تمثيلاته لتجربة تلك السنة اليتيمة وكأنها نتاج معاناة طويلة، راشدة تماماً؛ كما لاح جلياً أنّ الأكاديمية السويدية اعتبرت شهور الاعتقال تلك تجربةً مديدة عميقة وحافلة، خصوصاً في التقاط جوانب الألم الإنساني، واستكشاف «إمكانية استمرار العيش والتفكير كفرد في حقبة يزداد فيها اكتمال إخضاع البشر لقوى اجتماعية»؛ وكذلك لأنّ «أوشفيتز بالنسبة إليه ليست واقعة استثنائية توجد، مثل كائن غريب، خارج التاريخ الطبيعي لأوروبا الغربية. إنها الحقيقة القصوى للانحطاط الإنساني في الوجود الحديث».
وعلى أكثر من نحو، ضمن روحية المفارقة التي تتعمد مزج المأساة بالسخرية، تعكس هوامش «المتفرّج» قسطاً غير قليل من تأملات كيرتش حول سنة الاعتقال تلك؛ وكانت نظرته إليها لافتة وأثارت الاستغراب مراراً، والاستنكار في مناسبة واحدة على الأقلّ من جانب أسبوعية «نيوزويك» الأمريكية، حين أعلن حامل نوبل التالي: «لقد عشتُ في معسكر الاعتقال أكثر لحظاتي الجذرية سعادةً. لا تستطيع أن تتخيل مقدار السعادة في السماح لك بأن تستلقي في مستشفى المعسكر، أو أن تأخذ استراحة 10 دقائق من العمل الذي لا يوصف. وأن تكون قريباً من الموت هو نوع من السعادة أيضاً. النجاة وحدها تصبح الحرّية الأعظم على الإطلاق».
والحال أنّ كيرتش انتهج طرازاً من التفلسف المأساوي حول ما كانت روايته الأهمّ، «كائن بلا قدر»، 1975، قد سعت إلى صياغته ضمن خلائط تراجيكوميدية، بارعة وشديدة التأثير في العديد من المواقف. فالرواية تقول لنا، مراراً وتكراراً في الواقع، إنّ بطلها سعيد تماماً بقدره: سعيد لأنه -عند إنزاله من الباص واقتياده من بودابست إلى معسكر الاعتقال في ألمانيا- لن يضطرّ إلى العودة مساء إلى البيت، ومشاهدة زوجة أبيه؛ وسعيد لأنّ ذهابه إلى معسكر عمل ألماني، كما كان يتصوّر المعتقل، سوف يمنحه بطاقة شخصية تخوّله التجوّل في مناطق أوسع من تلك المسموح بها لليهود؛ بل هو سعيد، وهذه ذروة المفارقة، بأنّ البشر يُحرقون تفادياً لانتشار الأوبئة في المعسكر!
ويحدث على امتداد أمثلة عديدة أن يحار القارئ في تشخيص ضمائر كيرتش الناطقة في هوامش الكتاب الأحدث ويومياته: أهو ضحية معذّبة، خاصة حين يسرد آلامه مع الماضي والتاريخ، ثمّ مع الحاضر ومرض الباركنسون، ويسوق لنفسه عزاءات مريحة من حقيقة أنّ الموسيقار الألماني بيتهوفن كان أصمّ والشاعر الإنكليزي ملتون كان أعمى؛ أم هو محض متفرّج، يضحك أو يتسلى أو يتأمل في أفضل الأحوال؟ وهذه حال لا تخلو من «نكشة» هنا أو هناك، قد يُراد بها الباطل وهي حقّ تماماً أو نسبياً؛ وقد تكشف، ربما تحت وطأة الشيخوخة والإعياء والمرض، عن سريرة قلقة أو صحوة مصارحة أو حتى نفحة اعتراف.
ففي فصل بعنوان «الهرب إلى الذات: من المتفرّج إلى الشاهد»، يتوقف كيرتش عند العداء للسامية، فيكتب: «أنظر إلى الوجه النزيه للمحاسب إيخمان يؤكد بيقين أنّ الأمر لا علاقة له بالعداء للسامية ــ وهذه اختراع من اليهود، أيديولوجية تستهدف غزو العالم ــ وكيف تمّ تطبيق الإجراءات وفقاً للمبادئ الإنسانية والاحترام التامّ للقواعد الصحية».
وفي عداد خلاصات المتفرّج، الأبعد أخلاقاً عن الشاهد في الواقع، يساجل كيرتش ضدّ حقّ المقارنة بين الهولوكوست وأي عذاب بشري؛ وتعريفاته لمسألة «الانتماء» إلى هوية يهودية – هولوكوستية، ولغة يهودية – هولوكوستية، وأدب يهودي – هولوكوستي، تضيق وتنكمش، فلا تقتصر في نهاية الأمر إلا على جماعة واحدة من البشر. هذا عدا عن تصريحات جلفة رحّبت بدخول الدبابات الإسرائيلية إلى رام الله، حين أعرب الناجي من الهولوكوست عن غبطة طافحة لأنّ نجمة داود الصفراء تلمع على دبابات الـ «تساحال»، وليس على صدور اليهود. ثمّ المحاضرة التي ألقاها في القدس المحتلة أواسط نيسان (أبريل) 2002، بدعوة من مؤسسة «ياد فاشيم» وجاءت تحت عنوان «حرية التماهي الذاتي»؛ وخلاصتها الأبرز تقول: «العداء للسامية بعد أوشفيتز لم يعد عداء للسامية فقط، يريدونني أن أكون يهودياً في المقام الأول، ثمّ بعدها ليس في وسعي أبداً أن أكون إنساناً».
وهذه سطور لا تتوقف عند كتاب كيرتش الأخير تماهياً مع موسم نوبل الآداب، التي ذهبت باستحقاق إلى الروائية الكورية الجنوبية هان كانغ، فحسب؛ بل أيضاً وأساساً، لأنّ حروب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة وجنوب لبنان تستدعي فظائع الهولوكوست، بما هو أدهى وأشدّ همجية وتوحشاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب