عام من الحرب: تغير كل شيء ولم يتغير أي شيء

عام من الحرب: تغير كل شيء ولم يتغير أي شيء
توفيق رباحي
من المفروض أن الحروب التي تخوضها إسرائيل منذ عام في غزة ولبنان، وبالنظر إلى كلفتها البشرية والمادية الرهيبة على إسرائيل قبل غيرها، كفيلة بتغيير كل شيء وبإخراج المنطقة، وليس غزة ولبنان فقط، إلى وضع سياسي واستراتيجي وإنساني، مختلف تماما.
لكن هل تغير شيء؟ ظاهريا، تغيرت أشياء كثيرة أبرزها المزاج الشعبي وحتى السياسي في الغرب حيال إسرائيل. لكن في الواقع لا يبدو الأمر كذلك. الحرب نفسها والأحقاد نفسها والمآسي الإنسانية نفسها والآلام نفسها. والأخطر أن قابلية المنطقة للحروب وتعطشها للصراعات هي نفسها وربما أصبحت أكبر.
تخطئ إسرائيل ومن يؤمن مثلها بأن القوة العسكرية ستُمكنها من “تأديب” المنطقة والسيطرة على أهلها. الحقيقة أن المآسي التي تقع اليوم بسبب الإرهاب الإسرائيلي المدفوع بهذا الاعتقاد ليست علاجا لجراح المنطقة، وإنما وصفة للمزيد من الأحقاد والضغينة والقتال للمئة عام المقبلة. ما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين واللبنانيين لن يؤدي إلى ترويضهم بقدر ما سيسهم في شحذ أجيال من مقاتلي المستقبل الذين لن يحق لأحد لومهم على ما يستبد بهم من غضب ورغبة في الانتقام.
لا شيء تغير لأن لا أحد يريد التغيير، ولأن القوة لا تحقق التغيير الحقيقي والدائم.
المدافعون عن أرضهم يرفضون التغيير طالما أنهم تحت سقف سُنن الحياة التي تشرعن الدفاع عن النفس وفي انسجام مع الغريزة البشرية التي ترفض الظلم وتأبى الاستسلام.
إسرائيل ترفض أن تتغير وتأبى التراجع عن عقيدتها العنصرية ورغبتها الجامحة في القتل والإذلال. ما تفعله منذ عام مستنبط من هذه العقيدة. أحد تجليات هذه العقيدة مواظبتها على قتل القيادات والرموز، لكنها تتعامى عن حقيقة أن التصفيات الجسدية لن تفيد، وأنها لو كانت تفيد لما وصل بها الحال إلى السابع من أكتوبر.
الغرب الرسمي بملاحقه من نخب ووسائل إعلام يرفض أن يتغير. يرى الحقائق، ولكنه يدير لها ظهره. كل تلك الهبة الإنسانية الهائلة التي شهدتها الجامعات والفعاليات الثقافية والفنية في أوروبا والولايات المتحدة لم تغير شيئا في مسار الأحداث ولم توقف الحرب لأن صناع القرار كان لهم رأي آخر: لا يكتفون برفض التغيير، ولكنهم يضطهدون مَن تفتحت عيونهم على الحقائق ويحاولون التمرد على الخط المرسوم سلفا والمشهد الجاهز.
يتطلب الأمر مراجعة سياسات ومواقف الدول العربية التي أصبحت تضم في صفوفها الخانع والمتسلم والفاشل واللئيم
يكابر الغرب الرسمي ويرفض أن يتعلم من عام من حرب همجية لم تحقق حسما لإسرائيل. ما زالت نظرته إلى المشهد تنبع من ذهنية قاصرة ثابتة في كسلها، هذه بعض أسسها: لا غضاضة في استعباد العرب والملونين واستباحة دمائهم. التاريخ بدأ صباح يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. القتل الذي يمارسه جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة والضفة، والآن في لبنان، عادٍ ومقبول ما لم يتجاوز سقفا معينا (ساعتئذ تكفي دعوة حشومة لإسرائيل، تكاد تكون مرفوقة باعتذار عن الإزعاج، للكف عن استهداف المدنيين). حياة الإسرائيلي اليهودي مقدسة وأثمن من حياة العربي والفلسطيني (أنظر للبكاء المستمر عبر العالم على الرهائن الإسرائيليين في غزة مقابل الصمت المطبق عن مصير آلاف السجناء الفلسطينيين لدى إسرائيل، بينهم محكومون بمئات السنين وكثيرون مسجونون إداريا منذ أعوام بلا تهمة وبلا أمل في محاكمة قريبة).
العرب الرسميون يرفضون التغيير. رغبة بعض الأنظمة العربية في التطبيع مع إسرائيل ثابتة لم تتزحزح. مصر والأردن صامدتان في هذا الاتجاه صمودا سيحفظه التاريخ. السعودية تنتظر نهاية الحرب على غزة لتستأنف المحادثات تحت الطاولة وربما فوقها. الأنظمة التي اختارت التطبيع تحت مظلة “الاتفاقيات الإبراهيمية” تنتظر قليلا من التهدئة لتُعمق “مكاسبها” مع إسرائيل. القادة العرب السائرون في هذا النهج مدفوعون بالاعتقاد أن إسرائيل تخوض حروبا مع فصائل وتنظيمات مارقة ستريحهم منها. بعد أسبوعين من بدء الحرب الإسرائيلية على غزة كتب المبعوث الأمريكي السابق للشرق الأوسط دينس روس في صحيفة “نيويورك تايمز” عن هذا الأمر. قال روس إن قادة دول في المنطقة أسرّوا له بأنهم سيكونون سعداء بالقضاء على حماس، لكنهم ترجوه ألا يكشف كلامهم.
هذا الجمود والقبول بدور المتفرج يجعل كل الناس شركاء في الإجرام، كل في موقعه ووفق وزنه. الدول الأقوى اقتصاديا والمتحكمة في مصير العالم مسؤولة أكثر من الدول الهامشية.
الولايات المتحدة شريكة نشطة في الإرهاب الإسرائيلي… المال أمريكي، والسلاح أمريكي، والمشورة أمريكية، والغطاء السياسي والدبلوماسي والقانوني أمريكي، والرغبة في قتل العرب أمريكية.
الاتحاد الأوروبي ليس بريئا هو الآخر. بعض الدول الأوروبية شريكة فاعلة، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا، والأخرى شريكة بصمتها وبامتناعها عن الضغط على إسرائيل، وهي تستطيع لو أرادت.
بات واضحا أن العالم هو الذي يحتاج إلى أن يتغير وليس الشرق الأوسط. هذه المنطقة ضحية فخ نصبه لها العالم. عندما تتغير مقاربة العالم وينتفض على استسلامه لإسرائيل ستُحل الكثير من مشاكل هذه المنطقة.
البداية تكون بتوفر رغبة صادقة في لجم إسرائيل وكف يدها عن ممارسة إرهاب الدولة بحق الشعوب والدول، ثم إجبار الفلسطينيين على العمل معا، وإقناعهم بأهمية التضحية في سبيل شعبهم. التضحية تعني التنازل والزهد في بعض أسباب الخلاف في اتجاه يجعل التعايش ممكنا. لا حركة فتح تستطيع الاستفراد بالحكم ولا حركة حماس قادرة على تلبية متطلبات الفلسطينيين التي تكبر وتتعقد يوما بعد يوم.
يلي ذلك تأهيل لبنان ليصبح دولة غير فاشلة تضطر، كما هو حالها اليوم، إلى انتظار موافقة 5 أو 6 عواصم لتعيين قاضي محكمة عليا، أو فتح تحقيق مع مدير مطار بيروت أو حاكم المصرف المركزي.
يتطلب الأمر مراجعة سياسات ومواقف الدول العربية التي أصبحت تضم في صفوفها الخانع والمتسلم والفاشل واللئيم. ولم تصل إلى هذه المرحلة إلا لأنها غيرت أولوياتها وقدمت تنازلات كبرى حتى نزعت عنها ستار الكرامة.
كاتب وإعلامي من الجزائر