ثقافة وفنون

الحقيقة الضائعة بين الحقوق والحريات عند رورتي وأُورْوِيل

الحقيقة الضائعة بين الحقوق والحريات عند رورتي وأُورْوِيل

نعيمة عبد الجواد

تقبع الحقيقة في منطقة معتمة من الصعب الوصول لها في ظل ظروف تعجّ بالتناقضات وتعدد الرّوايات، لأحداث قد تبدو بديهية، لكنها في حقيقة الأمر عرضة لتأويلات لا نهائية قد تفرغها من محتواها، وتجعل منها أحداث باهتة لا تستحق أن يلتفت إليها أحد. ومن أبرز الأمثلة على ذلك هو «التاريخ» في حد ذاته و»عملية التأريخ» له. فقراءة مخطوطة تتناول تأريخا لأحداث أو حضارة أمم تتطلب أن يتمتع قارئ أي واقعة مسطورة في تلك المخطوطات باتجاه فكري ومخزون معرفي، يماثل لوح أردواز، لم يسبق أن استخدمه أحد على الإطلاق حتى لا تشوبه ولو خربشات لمعلومات تم تدوينها من قبل على ذلك اللوح عينه، ما يدفع عقل المتلقِّي لأن يشرع في عمليات من المقارنة والتحليل، التي من شأنها تحويله من دور المتلقِّي إلى ناقد وباحث عن الحقيقة.
وعند الحديث عن الحقيقة، يلاحظ أن الفلاسفة والمفكرين منذ الأزمان الغابرة راغبون في التوصُّل إلى تعريف دقيق قد يساعد على تمييز الحقيقة من الزيف. فبالنظر مثلا إلى قضية التأريخ والمخطوطات التاريخية، يتكشَّف لنا أنها في بعض الأحيان قد تتناقض مع بعضها بعضا، أو تتناول موضوع ذاته من زوايا تعبِّر عن وجهة نظر الكاتب وليس الحدث مجرَّدا، وذلك في حال إن كان الكاتب منصفا، أو قد تخدم وجهات نظر جهات مستفيدة أخرى، في حال إن كان الكاتب متحيِّزا أو مستفيدا. وفي حال المخطوطات العتيقة التي لا يمكن التحقق من صدق رواية قائلها، لا يجد القارئ أو المفكِّر سوى اللجوء للتأويل والتفسير، وللأسف يحدث ذلك أيضا عبر اتجاه فكري وبراغماتي معيَّن.
ومن أشهر المفكِّرين وفلاسفة العصر الحديث الذين حاولوا سبر أغوار تلك المعضلة، المفكِّر البراغماتي ريتشارد رورتي Richard Rorty (1931-2007) الذي انصب اهتمامه على نقد المجتمع والبحث عن حقوق وحرِّيات الأفراد، في ظل عالم تضيع فيه الحقيقة. ويؤمن رورتي بأن المعرفة هي أمر مؤكَّد؛ لأنها افتراضية وقابلة للتصحيح. ولهذا، كان دوما يؤكِّد بقوله: «الحقيقة هي ما سمح لك المعاصرون أن تفلت به»، أي أن الحقيقة رهينة للظروف المحيطة بها. ومن ذاك المُنطلق، رفض رورتي فكر سابقيه، الذي يُملي بأن الشرط الأساسي للمعرفة يكمن في التمثيل الداخلي الصحيح لأمور في العالم الخارجي، لكن رورتي خالفهم الرأي بإصراره على أن المعرفة ما هي إلَّا شأن لغوي وداخلي، أي تنبع من قائلها؛ فبالنسبة له المعرفة أمر يتعلَّق بالتمثيل اللغوي لها. وأبرز الأمثلة على ذلك هي استغلال بعض الساسة لما هو مسطور في بعض المعاهدات التاريخية بين دول وبعضها وتأويلها حسب أهواء تخدم مصالح بعينها.
ويعتقد رورتي أن اللغة تتألف من مفردات مؤقَّتة وتاريخية، ويؤكِّد أنه بالقياس على ذلك فإنه يجادل «بما أن المفردات يصنعها البشر، فإن الحقائق تسير وفق هذا النحو»، وهذا أمر يدعو للسخرية من طبيعة الأشياء، وتلك «السخرية» ما هي إلَّا حالة حالة ذهنية تدرك فيها الجموع أن المعرفة التي يختزنونها تعتمد على زمانهم ومكانهم في التاريخ، وبالتالي، يصبح الأفراد منفصلون إلى حد ما عن معتقداتهم الخاصة. لم يكن رورتي يخشى الدفاع عن معتقداته الناجمة من نقده للمجتمع وما يسوده من تغييرات، وعلى هذا كان يكرر أن الوسيلة الوحيدة لتغيير ثقافة المجتمعات هي مهارة الحديث بطريقة مختلفة، وليس القدرة على المجادلة. ولتلك الأسباب وصلت مفاهيم رورتي لأفراد المجتمع كافة، وأصبحت مصدر إلهام للدفاع عن الحقوق والحرِّيات، وذلك يتطلَّب معرفة أن كل ذلك «أمر طارئ»، أي «متغِّر»، كما يؤكِّد رورتي.
وفي إطار ذاك الإطار الساخر، يجادل رورتي بأن البحث عن الحقيقة ينبغي أن يخْلُص إلى الاعتقاد بأن الحقيقة أمر نسبي، فلا توجد حقيقة ثابتة، بل عدَّة حقائق تتغيَّر مع تغيير المواقف وظروفها في ظل الزمان والمكان. فلو رأى الإنسان قطة على طاولة، قد يعد أمرا حقيقيا، لكن التعبير عنه قد يتغير عند طرحه لغويا. ومن الطريف أن رورتي كان يؤكِّد مرددا أنه كان ينبغي عليه عدم الاقتراب من التعبير باستخدام لغة النثر، والتحوُّل عوضا عن ذلك للتعبير شعرا؛ لأن الأشعار مكتوبة بلغة مجازية تحتمل تأويلات عديدة، وتضيع في حواشيها الحقائق الثابتة وكذلك الحديث عنها.
ولعلَّ الكثير من الكتَّاب العالميين قد ناقشوا تلك القضايا في إنتاجاتهم الأدبية. ويعد الكاتب الإنجليزي المبدع جورج أورويل (1903-1950) أحد أهم الكتَّاب الذين وضعوا أيديهم على مشكلة التلاعب اللغوي ومدى خطورته حتى قبل أطروحة رورتي. وتعد رائعته «مزرعة الحيوانات» The Animal Farm (1945) تجسيدا لفكرة أن الحقيقة نسبية؛ فطريقة عرض الرواية نفسها ملغزة وحقائقها نسبية كأي قصيدة شعر. فالرواية التي تُروَى على لسان الحيوانات تصلح لأن تكون «حدوتة» مسلية يستمتع بها الأطفال. لكنها في حقيقة الأمر نقد سياسي لاذع لتفشي الشيوعية في روسيا حينها. أمَّا الغريب، فإن الطريقة التي تم تناول الرواية بها جعل منها وسيلة لتأويل التغييرات السياسية في كل زمان، بل أيضا التنبؤ بما سوف يحدث إذا ظهرت ألوان الفساد التي تشير لها الرواية، علما بأنه حتى ألوان الفساد المذكورة تلك تتغيَّر طبيعتها بتغيير الأزمنة، ما يثبت أن الحقيقة هي أمر طارئ، كما يجادل رورتي. وأن الاعتقاد في مفهوم أو تيار ما ومناصرته هو أيضا في حد ذاته يقبع رهينة لظروف طارئة. ولهذا، يؤكِّد رورتي أن «الاعتقاد، أي مناصرة مفهوم أو وجهة نظر ما، لا يزال بإمكانه تنظيم الفعل، ولا يزال من الممكن الاعتقاد بأنه يستحق الموت من أجله، بين الأشخاص الذين يدركون تماما أن هذا الاعتقاد لا ينجم عن شيء أعمق من الظروف التاريخية الطارئة.» أي أن الظروف التاريخية هي التي تتحكَّم في القناعات والحقائق. وبالقياس على «رواية مزرعة الحيوانات» وما حدث لتيار الشيوعية من نفور عالمي، جعلها تنحصر في عدة دول عينها، هما دليل دامغ على نسبية القناعات التي تحتمل التأويل.
ومن أبرز المشاهد الصريحة في الرواية التي تعمِّق معنى نسبية الحقيقة ووجودها رهينة للظروف الطارئة، هو ذاك المشهد الذي تتغيَّر فيه المبادئ السبعة التي تقوم عليها يوتوبيا مزرعة الحيوانات. فلقد تم حذف حرف أو كلمة من كل مبدأ أو حتى إضافتهما، ما جعله يعبِّر عن عكس الحقيقة التي من أجلها صيغت تلك المبادئ. ومن ثمَّ، تحوَّلت اليوتوبيا، أو العالم المثالي، إلى ديستوبيا، أو واقع كارثي الخراب عنوانه. ويؤكَّد ذلك أيضا وجهة نظر رورتي أنه قد يضحي الفرد بحياته من أجل إيمانه بمبدأ ما، لكنه يجب أن يعي أن ذاك المبدأ نفسه ما هو إلَّا رهينة لظروف تاريخية طارئة.
يجب عدم إغفال أن العديد من الفلاسفة السابقين لريتشارد رورتي والروائي الفيلسوف جورج أورويل قد توصَّلوا إلى أنه لا يوجد ما يسمى بـ»الحقيقة الثَّابتة»، ومن ضمن هؤلاء الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، لكن رورتي قام بتفسير الأمر من منظور لغوي براغماتي، في حين أن «جورج أورويل» فسرها من منظور روائي رمزي.

 كاتبة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب