ثقافة وفنون

الفن والإبادة: من نيتشه إلى هوليوود!

الفن والإبادة: من نيتشه إلى هوليوود!

حسام الدين محمد

في «ما وراء الخير والشر» 1886، أمل الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه، أثناء نقده الجذري للأخلاق الدينية (المسيحية)، في أن يؤدي اندفاعنا كبشر إلى ما بعد قطبي الخير والشر، اللطف والقسوة، أن تنبثق طاقة تحررنا: في الفن كما في الحياة. تلك القوة التي يسميها نيتشه «إرادة القوة» ـ ستدفعنا للأمام، وسترقص، وتشعّ. وكرد على اعتبار المسيحية الغربية، أن العطب الإنساني نابع من «الخطيئة الأصلية» رأى نيتشه، أن هذا العطب نابع من الالتزام بـ»أخلاق العبيد المسيحية»، فيما رأى فلاسفة وكتاب لاحقون في الاغتراب عن العمل، والصدع المميت مع الطبيعة، وضياع البشر في غابة من التظاهر والزيف، وتشوههم بسبب نظم كالرأسمالية والبطريركية، يتطلب تدخلا عنيفا لتصحيحه.
في القرن اللاحق، مع اندلاع الحربين العالميتين، وأشكال الإبادة الجماعية، واستهلاك الموارد الفاحش، والكوارث الطبيعية، ونظم الاستعمار، اقترحت مدارس أوروبية عديدة، مثل المستقبلية، الدادائية، السريالية، حركيّو فيينا (Viennes Actionists)، حركة الفنون السوداء وغيرها، القيام بأشكال من التدخّل العنيف لإنهاء تلك المظالم، وكان جزء كبير من الإلهام مقبلا من مفكرين يؤمنون بدور ثوريّ للطليعة التي تقود الجماهير مثل نيتشه.
مع الانفجار الكبير لتقنيات الصورة والمرئيات، كالسينما، والتلفزيون، والإنترنت، والتصوير والكثير غيرها، تبلورت هذه المفارقة وأدخلت العالم في إشكالات أخلاقية خطيرة، فمن ناحية فإن هذه الفنون توسّعت في قراءة وتحليل وتصوير المظالم البشرية، واستخدام أسلوب «الصدمة والرعب»، كما تقول الكاتبة الأمريكية ماغي نيلسون، «لعلاجنا من تلك المظالم» (في إلماح واضح إلى الشعار الذي رفعته حملة جورج دبليو بوش لنشر الديمقراطية وإسقاط النظام العراقي السابق).
كان انطوان أرتو الكاتب والمسرحي الفرنسي، منظّرا لفكرة أن «القسوة تؤشر إلى الدقة، الاهتمام الحاد والقرار، والتصميم المطلق الذي لا يتراجع»، و»شهوة الحياة» وأن على «مسرح القسوة» «دفع فكرة الفعل إلى أقصاها، وخارج كل الحدود». لتطبيق هذه الفكرة اختار أرتو قصة تجمع بين الايروتيكية والعنف من المركيز دو ساد، واقتباس من كتاب «الزوهار: قصة الحاخام سيميون»، أما المخرج السينمائي النمساوي مايكل هانيك فوصف طريقته في تنوير الجمهور: «اغتصاب المشاهد لدفعه للاستقلال». في فيلمه «ألعاب مضحكة»، الذي صنعت منه نسخة للجمهور الأمريكي عام 2007، يقدم قصة لشخصين يعذبان ويرهبان ويمثّلان بعائلة بورجوازية طوال 108 دقائق التي هي طول الفيلم.
في بيان «الحركة المستقبلية» الصادر عام 1909، أعلن رئيسها مارينيتي، أن «الفن لا يمكن أن يكون غير العنف، والقسوة والظلم» واعدا بـ»تمجيد الحرب، باعتبارها الصحة الوحيدة للعالم»، وحسب نيلسون، فإن «علينا الاعتراف بأن مجمل القرن العشرين، في الفن أو السياسة، انبنى على صورة هذه الحركة»، وأحد أمثلة ذلك ما قاله أندريه بروتون، الذي يعتبر الأب الروحي للسريالية (والشيوعي الفرنسي بين 1927 و1933) بأن «الفعل السريالي الأبسط، هو أن تندفع إلى الشارع، ومسدس في يدك، لتطلق بشكل عشوائي، بأسرع ما يمكن، على الجموع» (وهو ما سنرى تجسيدا له في رواية «الغريب» لألبير كامو، الذي يطلق النار على جزائري لا يعرفه كتجسيد لفكرة العبث الوجودية).
تشير نيلسون، في كتابها «فن القسوة» إلى أن ساد، أو نيتشه، أو أرتو، ما كانوا مهتمين بأي عالم، أو بمدى العذاب، الذي ستؤدي إليه هذه المبادئ. كان هناك أولويات أعظم، وهو ما عبّر عنه الرسام البريطاني فرانسيس بيكون بالقول، إن ما يصنع «الفن العظيم» هو العذاب والفارق الذي يحدثه وليس المساواة.
يتتبع «فن القسوة» خيط العلاقة المعقدة بين الفن والتوتر الذي يخلقه على المشاهد، إلى أفلاطون الذي اعتقد أن أشكال التمثيل والمحاكاة تدفع البشر بعيدا عن الحقيقة، وهو ما دفعه إلى إلغاء الشعراء من جمهوريته الفاضلة، أما أرسطو فرأى في نظريته عن التطهير، أن مشاهدة بيان محرّض من مسافة مناسبة (كحضور مسرحية تراجيدية) يمكن أن يوفر ناتجا صحيا للاندفاعات والأفكار التي كان يمكن أن تكون معطلة للمجتمع. عدّل برتولد بريخت، الكاتب المسرحي الألماني، أفكار أرسطو بشكل مختلف عن أرتو، فرأى أن يخلق توتّرا يمنع التطهير والتمثّل ويستبدل الخداع بالمعرفة، فيما رأى أرتو أن المطلوب هو كسر الحدود بين المشاهدة والتمثيل تماما. أحد التطبيقات الخشنة لفكرة آرتو قام بها النمساوي هانيك في فيلمه «ألعاب مضحكة»، الذي صنعت منه نسخة للجمهور الأمريكي عام 2007، حيث يقدم قصة شخصين يعذبان ويرهبان ويمثّلان بعائلة برجوازية طوال 108 دقائق التي هي طول الفيلم!
ستشهد حالة اختراق الحدود بين الفن والمشاهد تطوّرا خطيرا لها في العقود الأخيرة، وهو ما توقعه مسلسل من تأليف ستيفن كنغ، عام 1982، بعنوان «الرجل الهارب» يصوّر لعبة على التلفزيون تصور شخصا وافق على الهرب طوال حياته في ما تقوم مجموعة بمطاردته لقتله، وهو ما قامت برامج تلفزيون الواقع التي تدور حول المراقبة وملاحقة الفارّين والتعذيب، كالبرنامجين البريطانيين، «مغلق»، 2004، حيث يُمنع المشاركون من النوم لأيام، و»الذي لا يمكن هزّه» 2008 حيث يخضع المشاركون لأنواع من التعذيب، بما في ذلك استخدام الإغراق الإيهامي بالماء والدفن أحياء وعبور الصحراء لابسين أقنعة غاز. في برنامج «القبض على وحش» الأمريكي تشترك قوات شرطية وصحافيون في نصب كمائن لأشخاص يتحرشون بالأطفال، وقد قام خلاله شخص لم يقع في الفخ حتى بالانتحار بعد مداهمة متلفزة له في بيته.
تطوّر الأمر في أمريكا إلى إشراك الناس بالمراقبة والعقاب، حيث أنشأت الشرطة منظومة يشارك فيها من يريد من منازلهم للمراقبة الافتراضية، لما يمكن الاشتباه به كجرائم مخدرات، أو تهريب بشر على حدود المكسيك، كما أنشئت منظومة مراقبة حقيقية يقوم فيها مواطنون عاديون بدوريات على الحدود، وقد اندفع أحد أفراد هذه المنظومة عام 2010 لقتل عائلة إسبانية في منزلهم، وكان أحد القتلى طفلة في التاسعة من العمر. تذكر نيلسون أنها عرضت بعض أفكارها حول «مسرح القسوة» فقرأت له بضع فقرات لآرتو تركز على «شخصيات شهيرة، جرائم وحشية، واعتقادات فوق بشرية، والاهتمام الخاص بقوى «القسوة والإرهاب» فقال لها: «كما لو أنك تحكين عن هوليوود»!
يعبّر دو ساد ونيتشه وأرتو وبيكون، والحركات الشعرية والأدبية والفكرية آنفة الذكر، عن مجال عامّ استبطن الفكر الغربي عبر مفارقتين كبريين:
تتمثّل الأولى بأطروحة أن التكلفة البشرية الهائلة غير مهمة أمام الأهداف الكبرى، يستوي في ذلك هدف تحقيق التفوّق للآريين، كما رأى النازيون، أو تحقيق هدف الشيوعية، كما رأى منظروها الكبار، من ماركس إلى لينين وماو. وتتمثّل الثانية بأطروحة كسر الحدود بين الفن والمشاهد، وهو ما نرى نتائجه الهائلة في تلفزيون الواقع، وفي تأثير وسائل التواصل، وفي اختراقات التفاعل الافتراضي، وفي التضليل العميق، والمراقبة الهائلة لكل سكنات وحركات البشر على مدار الأيام والساعات، وقد أظهرت الحرب الأخيرة في غزة ولبنان كيف انفتحت الحدود بين التكنولوجيات الحديثة والإبادة، وكيف يشارك المشاهدون، في كل مكان، بدورهم الكبير أو الضئيل في القتل.

 كاتب من أسرة «القدس العربي»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب