الفنانة الفلسطينية نهى بطشون: جمع الأعمال الفنية لتحصّين الذاكرة

الفنانة الفلسطينية نهى بطشون: جمع الأعمال الفنية لتحصّين الذاكرة
سعيد أبو معلا
رام الله ـ لا يمكن فهم صمود نحو 400 ألف فلسطيني في شمال قطاع غزة رغم كل محاولات القتل والتجويع التي تمارسها دولة الاحتلال منذ أكثر من عام بشكل متواصل من دون العودة إلى تجربة النكبة الأولى وما تركت في الفلسطينيين من أوجاع وآهات وتجارب وشتات قاسي حتى اللحظة.
فكل ما تلا فعل النكبة الفلسطينية 1948 بوعي ومن دون وعي، عمل على تكريس فكرة البقاء والتجذر بالأرض حتى في ظل الموت وسيفه المشرع، وإلا كيف نفهم هذا الصمود الأسطوري لأقل من نصف مليون غزي في شمال القطاع، وهم الآن يتعرضون لأكبر مقتلة في التاريخ الحديث، وذلك بعد عام من الإبادة الجماعية الوحشية؟
الجمعة 12 تشرين الأول/اكتوبر الجاري وفي المتحف الفلسطيني، الذي يلاصق جامعة بيرزيت شمال مدينة رام الله جاء عشرات الأطفال رفقة عائلاتهم من أجل المشاركة في «يوم عونة زيتون» حيث قطفوا الزيتون من حدائق المتحف، وتناولوا «عصرونة» (طعام خفيف من البيئة الفلسطينية) على شرفة المتحف المطل على البحر الفلسطيني المسروق، كما قاموا بعملية «كبيس الزيتون» واستمعوا إلى حكايا من مواسم الزيتون في فلسطين وعنها قدمها الحكواتي حمزة عقرباوي، وقاموا بتنفيذ ورشة فنيّة «كولاج من الطبيعة» وجل ذلك نشاط يربط الفلسطيني بالأرض ويزرعها في الوجدان والقلب والعقل.
لقد تقافز الأطفال في الفناء الواسع المحيط بالمتحف، وأسفل شجر الزيتون، لكنهم عندما دخلوا بهو المتحف طالعتهم سقالة ضخمة (حمالات يستخدمها البنائون) وقد وقفت عليها أثواب فلسطينية متنوعة الألوان والثيمات ومُطرزة تجمع كامل الجغرافيا الفلسطينية، وتعود لأجيال متعدّدة من نساء البلاد المُهجّرة والمنكوبة.
ينظر الأطفال إلى الأثواب المعلقة والتي تشبه نساء معلقات في لحظة صمت طويلة، قبل أن يذهبوا في جولة للعونة ويعودون إليها، يستمعون إلى الحكواتي عقرباوي وينظرون للأثواب المعلقة مرة ثانية وثالثة.
في مقدمة البهو هناك ما يمكن مطالعته حول قصص الأثواب الفلسطينية القديمة القادمة من عمان، فهي تعود إلى الفلسطينية التي قاربت على التسعين نهى بطشون، ابنة يافا، التي هجرت منها عام النكبة ولم تعد إليها حتى اليوم.
الأثواب العشرة المنتقاة تنتمي لمجموعة فنية من الأثواب التي يبلغ عددها 35 ثوبا وصلت المتحف عن طريق التهريب وهي من أصل 150 ثوبا، وهي جزء من مجموعة أكبر من المقتنيات الشخصية والفنية والقطع الزجاجية والفخارية التي تحمل نقوشاً جمعتها بطشون خلال مشوار طويل مع جمع الأعمال الفنية وتحديدا تلك التي تتعلق بفلسطين وعن فلسطين.
إننا هنا حول حكاية مختلفة، فقد بدأت بطشون الفنانة (المقلة في الرسم) في جمع الأعمال الفنية في الأردن بعد رحلتها إلى إنكلترا وزيارة المعارض الفنية العالمية في فترة السبعينات، حيث عادت إلى عمان وافتتحت أول غاليري في الأردن «غاليري 14» في فندق الأردن إنترناشونال. كان الغاليري عبارة عن صالة صغيرة تضم عددا كبيرا من اللوحات التشكيلية والرسومات والمنحوتات والقطع الفخارية لفنانين من فلسطين والأردن.
وبعد سنوات من الجمع الواعي، وحرصًا منها على حفظ الذاكرة الفلسطينيّة الجمعيّة، تبرّعت بطشون بجزء من مجموعتها الإثنوغرافيّة والفنيّة لصالح مجموعة المتحف الفلسطيني الدائمة، لتحصل على الرعاية المناسبة، وتُتاح للجمهور الأوسع.
تهريب الأثواب من عمان إلى رام الله
ينظر الأطفال بين فينة وأخرى إلى الأثواب المعلقة على «السقايل الخشبية» في محاولة لفهم سر تعليقها. وفي الأمام منها حقائب سفر كتب عليها حكاية تهريب الأثواب من عمان إلى رام الله، وكأنها ممنوعات حسب قوانين الاحتلال الإسرائيلي.
ليكون السؤال: ما السر الذي تحمله هذه المرأة الفلسطينية التي تنقلت من التربية إلى الإعلام وصولا إلى الحقل الفني من خلال حفظ المقتنيات وجمع الأعمال الفنية؟
وفي قصتها المثيرة، تبدو كغيرها من الفلسطينيّين الذين أُجبروا على مغادرة منازلهم، وهي بدورها هجرت من منزلها الجميل والفسيح في حيّ العجمي في مدينة يافا إبّان نكبة العام 1948 وانتقلت إلى عمّان، وكانت حينها في الثانية عشرة من عمرها.
وبعد اللجوء إلى عمان كان يسأل أصحاب بطشون عن ذكرياتها في يافا حيث تقول: «كانوا يسألوني، وانا كنت بعمر 11 سنة عن يافا. لم يكن بذهني أي ذكريات. كيف محيت؟ لا أعرف!». إلى أن جاء الحدث الذي فجر بداخلها كل شيء.
وحسب ما تبوح به من جوانب من قصتها في «بودكاست» حمل عنوان «ذاكرة البرتقال» فإن قسوة الصدمة أفقدتها ذاكرتها الأكثر حميميّة حول مدينتها وحياتها فيها، وصارت تسأل أصدقاءها عن يافا مُستعينة بذاكرتهم. لقد ظلّت على هذا الحال طوال 14 عامًا، إلى أن ذهبت في رحلة إلى سورينتو في إيطاليا، حيث المشاهد الطبيعيّة التي تشبه إلى حدّ كبير طبيعة فلسطين ومدنها الساحليّة، وبدأت ذاكرتها تنتعش شيئًا فشيئًا مع رائحة زهر البرتقال في إحدى البيّارات الإيطاليّة، لينهار السدّ الذي بنته داخلها، وتتدفّق ذاكرتها مثل شلّال، مُعيدة إليها صورًا حيّة من طفولتها في يافا المفقودة.
تقول في حديثها الحميمي مع المؤرشفة في المتحف الفلسطيني جنان سلوادي: «كنت في رحلة من روما لسورينتو.. جو شرقي بامتياز، رائحة البحر الأبيض المتوسط ويافا والبرتقال. فتحت الشباك شميت ريحة عبق زهر البرتقال والليمون وكل أنواع الحمضيات. ما بعرف شو صار لي. صرت أنشج. كإنه كل الرعب اللي مريت فيه بهداك الوقت (تجربة اللجوء) ولم أشعر به وقتها.. ولما شميت رائحة البرتقال والحمضيات لم أدرك أنه رجعت لي الذاكرة بهديك الثانية مع ألم ونشيج».
عودة الذاكرة ولد لديها خوفًا مضاعفا من ضياعها، إنها ذاكرة خاصة لكنها تتعلق بالذاكرة الفلسطينية جمعاء لما حدث قبل وبعد حدث النكبة، وكي ترمم ذاكرتها الخاصة بدأت بطشون بتدوينها على شكل قصص وحكايات عنها وعن عائلتها، كما بدأت بجمع الأثواب واللّوحات لتحميها من الضياع، وما الأثواب العشرة المعلقة في بهو المتحف إلا جانب من هذه الممارسة الفنية بامتياز.
في بيان المتحف نقرأ أن نهى بطشون هي: «صحافيّة وُلدت في مدينة يافا في ثلاثينيّات القرن العشرين، وشهدت النّكبة عام 1948 وهُجّرت مع عائلتها قسرًا إلى عمّان. عملت في مجال التعليم في الأردنّ والبحرين، ثمّ التحقت بهيئة الإذاعة البريطانيّة في أواخر الخمسينيّات، ثمّ عملت في هيئة الإذاعة والتلفزيون الأردنيّة، وكانت الصحافيّة المرأة الأولى في حينه. انتقلت لاحقًا للعمل في مجال التّحف والأعمال الفنيّة، وافتتحت غاليري تحت مسمّى (ذا غاليري) لعرض هذه الأعمال، ولها سيرة ذاتيّة بعنوان (راهبة بلا دير) صدرت في العام 2010».
«ذاكرة البرتقال»
المتحف وفي سبيل تعظيم معرض الأثواب عرض الحقائب التي جلبت بها الأثواب القديمة تهريبا، حيث وصل منها نحو 35 ثوبا لتكون جزءا من معرض حمل اسم «ذاكرة البرتقال» فيما يمكن للزائر أن يسمع حلقة البودكاست الخاصة والتي يطل من خلالها على ذاكرة بطشون الفتاة الصغيرة قبل النكبة وحدث التهجير، ومن خلالها تتعرف على جانب من حياتها وتاريخ يافا الاجتماعي وأنماط الحياة حيث تستعيد المنزل الذي تحول لكنيس يهودي، وقصص البرتقال والبطيخ.
في كتاب «راهبة بلا دير» الصادر عن دار «ورد» بعمان، تسرد الإعلامية بطشون سيرة ذاتية خصبة بالتفاصيل والأحاسيس الإنسانية التي عاشتها في العديد من ميادين الإقامة والعمل. تروي وقائع وأحداث جسام عاشتها طوال السبعة عقود الماضية المليئة بالتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وتطل من خلال الجزء الأول من كتابها على القراء بتقديم تجربة ثرية لامرأة عربية عملت في حقلي العمل والحياة بفهم إنساني عميق لأكثر من حقبة زمنية شهدت فيها المنطقة العربية والقضية الفلسطينية تحديدا الكثير من التطورات.
تتسم ذكريات المؤلفة حسب استهلال المؤرخ الدكتور محمد عدنان البخيت بالصدق والبساطة والصراحة حيث تقود القارئ بكل وداعة لتقلب صفحات حياتها منذ أن أطلت على هذه الدنيا عام 1936 في بيت عربي في حي العجمي في مدينة يافا قبل نكبة العام 1948. ويضيف البخيت أن بطشون تسجل في الكتاب بأسلوبها الجذاب تفاصيل دقيقة عن الروابط الأسرية بين عائلتها وعائلة أمها وأصدقائهما في اللد ويافا والقدس قبل إن يجيء العدوان الإسرائيلي ويشردهم في أصقاع العالم.
وتسلط المؤلفة الضوء على الكثير من الأمكنة، معرفة بقاطنيها من الأفراد والعائلات وسلوكياتهم في المناسبات والأعياد، مشيرة إلى تلك الطقوس التي تجري من خلالها عمليات صنع الطعام وتخزين الخضار والفواكه الموسمية مثلما ترسم ببراعة وفطنة ألوانا من لحظات الفرح والحنين الطفولي المستمدة من ذاكرتها في اللهو بألعاب بسيطة أو مشاهدة صندوق العجب.
يشكل الكتاب بما ينطوي عليه من صفحات مجهولة في تاريخ عائلة ضمن النسيج الاجتماعي بحيث يستفيد منه المؤرخون والدارسون والمهتمون بأدب السيرة والمذكرات المشرعة على قيم رفيعة تتأسس على الصور والمراسلات والشهادات البليغة.
وفيه تقول إنها وبعد أن نشرت الكتاب أخبرها فلسطيني هجر من يافا أنه عندما كان يقرأ الكتاب: «كان يركض بالشوارع لكوني كنت أوصف الشوارع بالكتاب.. أين ما كنت تركضين عبر وصف الشوارع كنت أركض خلفك. فذكرياتي هناك».
وتقول سُرى أبو الرب، وهي منسقة الإعلام في المتحف الفلسطيني، إن ترتيب الأثواب بهذه الشاكلة، أي على سُقالة خشبية كبيرة في مقابل البحر، لم يأتِ من فراغ، فالسُقالة ترمز إلى فعل البناء والترميم، و«في ذلك إشارة إلى إعادة ترميم الذاكرة، ومحاولة إعادة بناء ذاكرة فلسطين الجمعية، عبر حكاية نهى بطشون، التي فقدت ذاكرتها ثم استعادتها، وحكايات أثوابها ومُقتنياتها، التي جمعتها من الشتات».
وفي تصريحات صحافية لمدير المتحف عامر شوملي فإن الأعمال الخاصة ببطشون تعكس: «الحرص الفلسطيني على نقل الذاكرة وتوريث التاريخ من جيل إلى جيل. ذلك الجيل الذي قال عنه الإسرائيليون إنه سينسى، بعد أن يموت كباره».
قصة بطشون التي دونت جانب منها جنان سلوادي، سعت إلى الإجابة عن تساؤلات مثل: كيف يُمكن أن تُحيي روائح الأشياء الأماكن البعيدة داخلنا؟ أين تختبئ الذَّاكرة؟ وكيف تعود «حادّةً كسكّينٍ»؟ وهي بمجملها إجابات جاهزة على ما يصنعه الاحتلال في غزة اليوم، إنه يريد تدمير المكان وسحق أصحابه وتهجيره في ممارسة مكررة بعد عشرات السنين، لكن الصمود الفلسطيني هناك يعيد تكرار برقية لأفراد عائلة بطشون بعد عام على التهجير حيث بعثوا رسالة لأقاربهم المشتتين بعد أقل من عام على التهجير وكان مفادها: «من الخطأ أنكم تركتم يافا» وهو ما لا يريد تكراره سكان الشمال في قطاع غزة في هذه اللحظة الأصعب على الفلسطينيين الصامدين هناك.
«القدس العربي»: