ثقافة وفنون

واقعية تجريدية في عمّان

واقعية تجريدية في عمّان

صبحي حديدي

شاءت مصادفة سعيدة أن أتواجد في العاصمة الأردنية عمّان أثناء افتتاح معرض تشكيلي بعنوان «بين الواقعية والتجريد/ تكامل»، ضمّ مجموعة من الأعمال للفنانين القطري سلمان المالك، والمصري وليد عبيد، والفلسطيني الأردني محمد الجالوس؛ برعاية مشتركة من غاليري المرخية في قطر، وغاليري بنك القاهرة عمّان في الأردن.
ويحسن بي أن أشير أوّلاً إلى أنّ سعادتي بمشاهدة هذا المعرض كانت ثلاثية الأبعاد؛ تشمل في الابتداء فرصة ثمينة قد تكون نادرة أيضاً، لتأمّل مباشر ومطوّل لا يخلو من طموح التفحّص الجمالي في أعمال ثلاثة من أبرز الفنانين التشكيليين العرب؛ والتدقيق في الخصائص الفنية، العليا المركزية أو الجانبية التفصيلية، التي مكّنت الثلاثة من تكريس بصمة أسلوبية بالغة التميّز؛ كلٌّ على منواله وأدواته و… مغامراته التعبيرية، كما يصحّ الافتراض.
البعد الثاني كان الارتقاء بمستوى أوّل من الفضول الخام إزاء عنوان المعرض، اللافت في عنصرَيه والمحيّر في مَزْجه بين أقصَيَن كما أفترضُ شخصياً؛ إلى مستوى الاشتباك مع هذا الخيار، بمعنى سجالي وجدلي يحتمل الحماسة الإيجابية من حيث المنطلق، ولا يخلو أيضاً من حسّ المساءلة وتمحيص مشروع طموح يعلن مصالحة (يُفترض أنها ليست دائماً يسيرة وسلسة)، بين الواقعية والتجريد.
البُعد الثالث، وكان شخصياً بعض الشيء، أو ذاتياً على نحو ما، هو الوقوف على آخر إضافات الجالوس إلى «مطحنة» الموضوعات والأساليب التي لم يتوقف عن تشغيلها عقداً بعد آخر، مواظباً على شهية قصوى تتوخى اقتراح الجديد أو التسابق مع الذات. وكذلك ارتياد معطيات الماضي، بمعنى إعادة تخليقها، منضوية في سيرورة تعبيرية متجددة تحتمل المجازفة بالمعنى الإبداعي الخلاق والعميق، وبمعنى حواريّ مع المتلقي لا تغيب عنه جسارة استفزاز الذائقة بهدف التعاقد معها.
وفي نصّ كتبه الفنانون الثلاثة، جاء التالي: «هذه التجربة الثلاثية التي قد تبدو متناقضة من حيث انتماؤها لعالمين أحدهما انعكاس ضمني للآخر، هي في عمق البحث الشكلاني، إذا ما رصدنا روح التجريد وأعدناه إلى مرجعه الأمّ، الطبيعة. فالأشكال المرئية بهيئتها يمكننا الآن تفصيلها وفكفكتها إلى أجزاء صغيرة يمكن أن نطلق عليها فناً (مجرداً) رغم ابتعادها المؤقت عن صيرورتها، شكلها المرئي الكلي، فالمجرد هنا هو ذاته الطبيعي الوقعي ولكن بعباءة الزاهد المختزل المعبّر ربما عن روح الشكل وضميره المستتر».
وإذْ لا أصادق على كامل هذا التشخيص الذي ينتهج روحية التصالح بين اشتباكَين في الأساليب التعبيرية ليسا دائماً على وئام، أو بالأحرى لا ينبغي لهما أن يجنحا إلى فرضية «المجرد هو ذاته الطبيعي والواقعي»؛ فإنّ هذا التفصيل ينتمي إلى ميدان النظرية الرحب والتعددي والمفتوح دائماً، وليس إلى اللوحة بما تعنيه من شبكات تصارع (وربما تكامل، انسجاماً مع عنوان المعرض) العلاقات بين عناصر اللون والكتلة والمساحة… على القماش أو الورق.
ذلك لأنّ أعمال المالك تشتغل على إدارة توازنات بالغة الرهافة وثرية التعقيد استطراداً، بين تداعيات الأسود والرمادي والأبيض على خلفيات تجريدية من حيث الإنشاء البصري، لكنها لا تتفادى انتهاج إبراز الكتلة الموحية بهيئة ما، وبتجسيد من طراز خفيّ أو مخفيّ عن سابق قصد، ليس في وسع المشاهد أن يعزله بصرياً عن هيمنة صريحة لهندسة دائرية، حيوية المرونة مع ذلك، لأنها أساساً تنتهج سيولة ملحوظة في توزيع الأشكال والعناصر والشخوص والهيئات السابحة داخل استداراتها. والمرء يبصر تفصيل اجتزاء رأسٍ بشري بعين محدّقة تارة، وتارة أخرى تلعب ألوانٌ زاهية مشرقة دور الوسيط في زخرفة عباءة هنا أو طيف شاحب التكوين هناك.
من جانبها، فإنّ أعمال عبيد قد تكون الأبرز على صعيد التجارب التشكيلية العربية الحديثة والمعاصرة من حيث ترسيخ تيار تعبيري لستُ شخصياً أتردد في اعتباره التمثيل الرفيع في اللوحة لتيّارات الواقعية السحرية في السرد والتخييل؛ التي لا تُسقط على الواقع البسيط الحيّ سمات سحرية، بقدر ما تستطلع ما في بواطن الواقع الأعمق من مخزونات أصلية جديرة بترقية المرئي إلى مستوى الأسطورة التجسيدية والرمز الإحيائي، بما يفضي استطراداً إلى العجائبي والسحري. المزمار الذي تحمله المطربة اللبنانية فيروز، المرسومة بلمسات لا تعفّ عن مسحة واقعية فوتوغرافية، يقف عليه طائر؛ والقماش في الثوب أقرب إلى امتداد لوني صوب، وامتزاج في، الثرى والمساحات الأرضية.
وأمّا نقلة الجالوس في هذا المعرض، وهي الأحدث ضمن تجاربه المتنامية والمتغايرة والمتكاملة في آن معاً، فإنها تنهض على متتاليات الوجه البشري بوصفه مدخلاً، فعلياً مادياً ومجازياً استعارياً، لبوّابات الوجود الإنساني في أنساق شتى من تمظهُر قسماته وأطوار دخائله وتقلباته الشعورية. وتلك حقول استبطان تجريدي أساساً، تتنامى بدورها وتتغاير وتتكامل، أفقياً تارة وشاقولياً تارة أخرى، ضمن تكوينات حيوية التركيب في اجتماعها أو انفرادها، وكذلك في ملامسة شفيفة لهذا العنصر الواقعي أو ذاك. ولعلّ المقاربة الأهمّ في مقترح الجالوس الجديد هذا، وقد عوّدنا على انخراط مقارباته في جدل من توق استئناف الماضي ودأب استشراف المستقبل؛ هو لعبة الضوء الحاسمة: على الوجه ذاته، كما على تفصيل فيه هنا وهناك، فضلاً عن إلحاح منتظم على ضبط المعادلات الأعلى لعلاقات النور والظلّ.
واقعية التجريد إذن أو تجريد الواقعية سيّان ما دامت الحصيلة متكاملة هكذا، في سياقات حوار متكافئ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب