الكاتب الجزائري محمد الصالح الصديق: أزمتنا فكرية

الكاتب الجزائري محمد الصالح الصديق: أزمتنا فكرية
إبراهيم مشارة
محمد الصالح الصديق كاتب ومناضل جزائري من مواليد منطقة القبائل (تيزي وزو) 1925 سماه البعض (عقاد الجزائر) لغزارة تأليفه وعصاميته، هو شاهد على تاريخ البلد كمناضل وسياسي ومثقف، كان لنا معه هذا الحوار:
*في البداية المعروف عنك الجد والتفرغ للفعل الثقافي، محاضرة وتأليفا ومشاركة في الملتقيات الفكرية، ما هو مجمل نتاجك العلمي؟
ـ بكل موضوعية حياتي كلها حركة دائبة، وتفاعل إيجابي مع الحياة، لا يعرف الملل ولا الكسل ولا العجز ولا تأجيل عمل اليوم إلى الغد، فكانت الحصيلة في مجال التأليف فقط مئة وثمانين كتابا في شتى المناحي والمجالات.
□أنت تنتمي إلى منطقة القبائل الكبرى (الأمازيغية) التي أنجبت رجالا فجروا ثورة نوفمبر/تشرين الثاني، كما أنجبت فحولا في اللغة والدين ماضيا وحاضرا، لكن للأسف هناك بعض الأصوات التي تتنكر لكل ذلك وتدعو إلى فك الرابطة مع اللغة العربية والتاريخ العربي، ما تعليق على ذلك؟
■ عرفت المنطقة عبر التاريخ المديد أعلاما في الدين والأدب وفحولا في فنون اللغة العربية، كابن معطي والإدريسي أستاذ ابن خلدون في الماضي والحافظي والشرفوي وأبي يعلى الزواوي في الحاضر، وكان الاستعمار الفرنسي يعمل على التفرقة للتوهين والتشتيت بين عناصر الوطن، حتى غرس العداوة والنفور، فبقيت آثارها تغذيها أوضاع ونزاعات، ولا بد للقضاء عليها من جهاد فكري صادق، للقضاء على الأفكار السامة الهدامة في الداخل والخارج.
□توليت التدريس ثم التحقت بصفوف الثورة، كيف تم ذلك ومَن مِن رجال الثورة الكبار الذين التقيت بهم وعرفتهم؟
■ كنت قبل اندلاع الثورة التحريرية أستاذا في الزاوية الإيلولية الشهيرة عبر التاريخ بكثرة طلبتها، وشهرة علمائها، وسمع بنشاطي الواسع الذي لم يكن يخلو من العمل المعادي للاستعمار الفرنسي، كل من كريم بلقاسم وعمرو أوعمران والشريف ذبيح، الذين كانوا آنذاك في الجبال محكوما عليهم بالإعدام من طرف فرنسا، فكانت لي معهم لقاءات وكانوا معجبين بعملي فلما اندلعت الثورة التحقت عن طريقهم بها، والتحق بها الكثير من طلبة الزاوية، وقد عملت في المجالين العسكري والسياسي، أما رفاقي في الثورة فكثير منهم: الشيخ شيبان والشيخ الطاهر آيت علجت وعلي مرحوم وأحمد بودا وغيرهم كثير.
□يقال إن المرء ما يقرؤه واختيار المرء دليل عقله، فهل لك أن تحدثنا عن قراءاتك الأولى وبمن تأثرت من الأدباء القدامى والمحدثين؟
■ما قرأته من الكتب القيمة المهمة لا سبيل إلى حصره، فإن ما ركب فيّ من نوازع فكرية وروحية طابعها: هل من مزيد؟ وكل هذا إضاءة للأفق وراحة للنفس للأخذ والاستمداد وفسح الجو للتحليق في أجواء بديعة طلقة في نزوع وتلهف لا حد لهما. تأثرت في غرة شبابي بالعقاد والرافعي والزيات وطه حسين والمنفلوطي ثم عند النزول إلى الميدان تأثرت بالأدباء الكبار القدامى لمصاحبتهم في آثارهم، ثم انطلقت في جو أعدني الله له بتخطيط منه حكيم، وفي الثورة كانت لي لقاءات بهؤلاء: العقاد، طه حسين، محمد فريد أبو حديد، سعيد العريان، سهيل إدريس عادل الغضبان وغيرهم كثير.
□بعد هذا العمر الطويل – متعك الله بالصحة- والنضال الكبير والتآليف العديدة هل أنت راض عن حصيلتك؟ هل حققت مرادك؟
■ بكلمة وجيزة موضوعية إن عملي يقومه غيري، أما أنا فحسبي أن أؤكد أنني أبذل الجهد في الزرع والغرس والبناء الذي أزرعه وأغرسه وأبنيه، ومن هنا فالحكمة أن يكون عملي صادقا ومشرفا، حسب الطاقة والجهد المبذول.
□لا شك في أنك عرفت عن قرب المرحوم مولود قاسم وزير التعليم، ثم الشؤون الدينية صاحب فكرة الملتقيات الفكرية العالمية، ولا شك أنكم شاركت فيها، حدثنا عن علاقتك به وعن هذه الملتقيات وقيمتها العلمية، ولماذا اختفت الآن؟
■ كان مولود قاسم قلبا نابضا بالحياة في مجالات عمله، وبهذا النبض الدافق كانت الملتقيات الفكرية تتحرك وتوقظ، ومن هنا كان لها مردودها الإيجابي الحي النابض داخل الجزائر وخارجها، واختفت المصانعة والمواربة، لأن جانب الوضوح والصدق والمواجهة طغى وسيطر، ولما اختفى مولود واختفت المكتبات واختفت القراءة وازدحم الناس في ملاعب الرياضة، وأماكن اللهو والخلاعة، وليس مولود في هذا المجال إلا كمثال للتيار الإيجابي الصانع ولنشاطه آثاره الإيجابية لو طال أجله.
□اقترب منك كثير من السياسيين، سواء في عهد بومدين أو الشاذلي بن جديد، أو اليمين زروال، كيف كان تعاملك معهم؟ وماذا تقول في العلاقة بين رجل السياسة ورجل الثقافة؟
ـ تعاملت مع كثير من السياسيين الجزائريين وغيرهم لا يمكن حصرهم، وتظل العلاقة بين المثقف والسياسي بين ستارين، يخفي كل منهما حاجته، وإن شئت فقل المثقف يبني ويضع الأحجار، والسياسي يضع اللوحات والزهريات والتحف في الأماكن اللائقة.
□تعرف اللغة العربية اليوم تحديات كبرى في ظل التقانة المتطورة الكبيرة وفي غياب أي دور علمي للعرب ومساهمة حضارية منهم، كيف ترى واقع العربية اليوم وآفاقها المستقبلية؟
■ ما دامت اللغة العربية وعاء للقرآن الخالد المعجز ببلاغته وأسراره، فإنها ستزدهر، رغم ما يحيط بها من عوامل المسخ والفسخ، لأن قوتها من خالق الوجود ومدبر شؤونه، ولكن على شرط أن يكون أهلها أحياء يفقهون ويشعرون ويدركون رسالتهم ودورهم في الحياة.
□كان المرحوم عبد الحميد مهري يعلق على تردي الوضع بقوله (هذا زمن الرداءة وللرداءة رجالها)، ما تعليقك على صعود من لا يستحق إلى الواجهة، واختلاط الحابل بالنابل في الشأن الديني مع تيارات دينية وافدة لم يعرفها البلد في السبعينيات والثمانينيات مثلا؟
■ ما آل إليه الوضع في الجزائر طبيعي، كان ينتظره أولو العقول البصيرة والأنظار البعيدة، وهل يمكن أن يكون سواه بعد أن اختفى الكتاب، وتحولت المكتبات إلى مطاعم ومتاجر وملاعب، وأصبحت قاعات المحاضرات تشكو من الفقر والخلاء المدقع، وقاعات اللهو والخلاعة والغناء تشكو من الضيق والحصر والاختناق؟
□تردى الوضع الثقافي كثيرا، لا مجلات راقية محترمة، لا نشاطات فكرية راقية ترتفع بالفكر والنقد، لا ملتقيات فكرية كتلك التي حدثتنا عنها، تراجعت المقروئية، أفلت شمس الكتاب، لماذا حصل هذا، مع أن الماضي كان مختلفا تماما؟
■ الصعود إلى المراقي العالية صعب عسير، يتطلب علما ومعرفة وقدرة كافية على الصعود والمواجهة الفاعلة، أما الهبوط فسهل يسير لا يكلف إلا الطواعية والانقياد والتقليد، والمرجعية الدينية تعود إلى قمة العقيدة الصحيحة، والقيم الرفيعة والبناء على الأرضية القوية الصحيحة.
□خلال حياتك لا شك عرفت كثيرا من الشخصيات في السياسة والثقافة والدين والعلم، وطنيا من هي الشخصيات التي جمعتك بها الأيام: عبد الحميد ابن باديس ، محمد البشير الإبراهيمي، مالك بن نبي، مولود قاسم ،أحمد طالب الإبراهيمي، أبو القاسم سعد الله، هواري بومدين، مفدي زكريا، هل من كلمة وجيزة في حق كل واحد منهم؟
■: هؤلاء جميعا أعرفهم معرفة جيدة، ما عدا الإمام ابن باديس الذي تشرفت بلقائه في وقت قصير، وحظيت منه بدعاء ما يزال فعله يفعل عمله، أما الآخرون فهاهم كما أراهم:
الإبراهيمي: رسول البيان العربي بلا منازع وله قدرة على التكيف
مالك بن نبي: له قدرة مميزة على التعليل والتحليل
مولود قاسم: له قوة في الإبداع إذا وجدت المجال
أحمد طالب الإبراهيمي: له إمكانات صانعة، ولكنها أحيانا تعجز حينما تعاكسها العواصف العاتية.
أبو القاسم سعد الله : استغل وقته فضمن الحياة الدائمة
هواري بومدين: قوته في صمته وسر نجاحه في شجاعته وسر إخفاقه في اختيار أصحابه
مفدي زكريا: متنبي هذا العصر لولا غلوه في الاعتداد بنفسه
□ما زالت القراءة والكتابة هوايتك اليومية؟ ما هو آخر كتاب قمت بتأليفه؟
■ الكتابة والقراءة عندي هما حياتي، فإذا توقفتا توقفت الحياة وصارت عندي جحيما، وكم أتمنى لو أن الوقت يباع لاشتريت هذا الوقت الذي يقتل على الأرصفة، وفي المقاهي والشوارع كأنه عدو، ويشدني هذه الأيام تأليف كتاب بهذا العنوان «سلاليم الصعود إلى العلا والخلود» وأقرأ في محيطه ما يضيء جوانبه أكثر.
□في هذا العصر الذي مسخت فيه القيم واختلط الحابل بالنابل، وتراجع الجدي والمفيد وراء الموضة والسطحي، ما هي نصيحتك لمن يتلمس طريقه في هذا التيه العصري الجديد؟
■ نصحي للجيل الجديد أن الحكمة في النظر والتخطيط، وكيف يكون التفاعل مع الحياة فإذا لم يكن العقل وراء النفس وشهواتها، أفلتت النفس وتاهت وضاعت، فالعاقل من يفرق بين طريق مشحون بالجميلات والمغريات، لكن نهايته خسارة وضياع، وآخر مشحون بالمكروهات والمضنيات، ولكنه ينتهي إلى نجاح وربح ومسرات، وهنا الفرق بين الرجال، والعقول.
□رغم توفرنا على المؤسسات العلمية والتربوية والمؤسسات الدينية، إلا أننا نعيش أزمة الإنسان في عالمنا العربي، لم تفلح لا المؤسسات التربوية ولا العلمية ولا الدينية في بناء الإنسان العربي الحديث، ألم يفلح العلم والخطاب الديني في ذلك؟
ـ العالم العربي له الكثير من المساجد والكثير من المدارس والثانويات والكليات، ولكنها تعلم كل شيء حول الإنسان سوى المفيد الذي يصنع الحياتين العاجلة والآجلة.
□الكتاب معروفون بحب الترحال لأنه يطلعهم على تجارب الشعوب الأخرى ولا شك أنك قمت بزيارات لعديد من البلدان في مهام رسمية أو سياحة، حدثنا عن رحلة تركت في نفسك انطباعا خاصا، وما هي آخر أمنيتك ونصيحتك للأمة العربية؟
■ زرت الاتحاد السوفييتي بدعوة رسمية، فقمت بزيارة على رأس وفد من الأساتذة وتجولنا في مختلف المدن الكبرى التاريخية، موسكو، باكو، سمرقند، طشقند، لينينغراد، وفي النهاية سألني أحد الوزراء عما أعجبني في هذا البلد في مختلف عواصمه؟ فأجبته انتزع إعجابي احترام الوقت واستثماره، فلم أر فيها شخصا واقفا أو جالسا، ولم يكن في يده كتاب، فاهتز الرجل فرحا.
أمنيتي أن يعرف العرب والمسلمون قيمة الوقت، وأن يصنعوا به حياتهم ويبرهنوا بذلك على وجودهم فوق هذه الأرض.