الصحافه

فيلم جوكر… الرومانتيكية التي لا يتحمّلها أحد

فيلم جوكر… الرومانتيكية التي لا يتحمّلها أحد

محمد عبد الرحيم

القاهرة ــ  في القصص الشعبي ـ العربي على الأقل ـ لا يتم الاحتفاء بميلاد (البطل) إلا لو كان معبّراً وباحثاً عن خلاص اجتماعي، مشكلة تخص شعبه أو قبيلته تجد حلها على يديه، هنا يتأسطر البطل منذ لحظة ميلاده، وربما قبلها، وحتى قبل أن يتعرّف والدته امرأته. لنجد أنه على النقيض في حالة البطل الباحث عن خلاصه الفردي، هنا تنتفي الأسطورة، ويصبح بطلاً ينتمي إلى وقائعه، رغم أن معاناته ـ بما أنها وقائع ـ قد تكون أشد وأقسى. ونجد في شخصيتي أبي زيد الهلالي وعنترة العبسي، تمثيلاً لصورة البطل في الحالتين.
وبالمقاربة يصبح فيلم Joker بجزئيه ممثلاً بدوره لحالتي البطل، من شخص أسطوري، أصبح أملاً ورمزاً لجميع المغضوب عليهم من سادة النظام الاجتماعي، وقوانينهم التي لا تخدم أحدا سواهم، رمزاً لثورة جامحة ضد هؤلاء، ليتحول بعدها إلى شخص لا يبحث إلا عن خلاصه هو فقط، شخص رفض أن تتم أسطرته رغماً عنه، فما كان من المؤمنين بصورته التي يريدونها إلا (الخلاص) منه هو، ولو بالقتل، وهو الذي بدأ رحلته الثانية ـ الجزء الثاني من الفيلم ـ بأغنية رومانتيكية تقول.. «إن كل ما ينقص العالم هو الحب».
الثوري بالمصادفة
لم يكن فعل القتل الذي مارسه آرثر فليك (خواكين فينيكس) عدة مرّات في الجزء الأول، والذي يُعاقب بسببه الآن بوضعه في مصح نفسي، إلا رد فعل عن عُمر من التجاهل، هذا الشخص غير المرئي وغير المسموع صوته، إلا من خلال ضحكات هيستيرية نتيجة المرض. رد الفعل الفردي هذا بالأساس تماس وردود أفعال لآلاف من المكبوتين، خاصة جريمة القتل الأخيرة لمقدم البرامج الشهير، الذي يمثل بدوره سلطة عصر الصورة. جريمة قتل تحدث وتُبث على الهواء، ليتحقق حلمه ـ حقيقة ـ في أن يكون نجم عروض ترفيهية، وأي عرض ترفيهي يمكن أن يجمع ويمثل الأغلبية من شعب يعيش بين النفايات، أكثر من قتل كائن متأنق يتمثل مقولات النظام ويُروّج لها. مَن منا يريد أكثر من (آرثر فليك) ليقضي على خدم الأنظمة وكلابهم الضالة، الذين يطالعونا على الشاشات ليل نهار.
أنا/الآخر
حالة الفصام التي عاشها (فليك) في الجزء الأول، وجعلته يعيش قصة حب بكامل تفاصيلها المتوهَمَة، تتحقق في الجزء الثاني عن طريق هارلي كوين (ليدي غاغا)، التي تطوعت بالمجيء إلى المصح النفسي للعلاج، ولا يهم إن كانت مؤامرة في البداية لدراسة حالة (الجوكر)، أصبحت إعجاباً وولهاً بهذه الشخصية، وهذا الوجه، الذي تصر على رسمه كما في خيالها أو كما تريد، حتى توافق على مضاجعته. هنا يتحقق وجود فليك ــ من وجهة نظره ـ إلا أن هذا التحقق كما اتضح في ما بعد، لم يكن إلا في صالح الجوكر، هذه الشخصية التي نفاها فليك في النهاية، فهو يريد أن يكون نفسه، لا أكثر ولا أقل، نعم.. قاتل لخمسة أشخاص، وأضاف قتله لأمه ليزيد العدد، لم يكن يريد أن يصبح قدوة لأحد، فقط يريد أن يستمع إليه أحد.. أن يهتم لأمره أحد.. يريد أن يوجد. كل هذا لم يكن إلا بوجود (الحب)، أو كما قال في أغنيته.. «كل ما ينقص العالم». وباكتمال فليك ينتفي دروه الذي رسمه له الآخرون، الجماهير الذين صاغوه على شاكلة أحلامهم.
فورست جامب يتوقف فجأة
في فيلم «فورست جامب» وإثر أزمة يعانيها جامب (توم هانكس) ينتوي أن يعدو بلا نهاية، دون أن ينظر خلفه، وبعد قطع آلاف الأميال، وبمرور الوقت يتجمّع خلفه المريدون، مُستلهمين من تجربته الخاصة حالة يتوحدون من خلالها، هناك إرادة وأمل في تجربة هذا الرجل الذي يعدو لأيام لا يحسبونها تنتهي، فأصبح زعيماً مُلهِما دون أن يدري، فقط الإيمان بما يفعل، هذا الإيمان الذي وصل في الفيلم إلى انطباع ملامح وجه (جامب) على منشفة حينما توقف، وهو التشابه الواضح بينه وبين السيد المسيح. وعندما سُئل عن سبب توقفه بعد كل ذلك، أجاب بأنه شعر بوجوب التوقف، بس كده. مريدو (جامب) يختلفون تماماً عن مريدي (الجوكر)، الذي طلب بدوره أن يتوقف، وأن ينسلخ من ظلاله العالقه به دوماً، كلما خرج من ظل، ظهر آخر، رحلة طويلة حتى يصبح (هو). فالفكرة الأساسية لـ(جوكر) في رحلته الثانية يتم تلخيصها في بداية الفيلم في المشهد الكرتوني الساخر من الجميع، دون أن يسخر من نفسه.
وبالعودة إلى (الجمهور).. فجمهور (جامب) متسامح واستلهم التجربة من صاحبها، أما جمهور (جوكر) فلم يتحمّل أن يكتفي الرجل بكونه (آرثر فليك)، وأن تبدو الأحداث وفق زمنه النفسي، دون الزمن الواقعي أو زمن الأحداث كما في الجزء الأول، فكل ما يدور من حوله لا يهمه ولا ينتمي إليه، لذا عليه أن يتحدث بصوته هو، لا بصوت المجموع، ويغني أغنياته الرومانتيكية التي لا يتحملها أحد. هنا لا يمكن تعويض الفجيعة في الأسطورة إلا بمحوها، وبفعلة أشبه بأفعالها، وسبب مجدها .. القتل.

«القدس العربي»:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب