
مصائر الشعراء… من منفى إلى سجن، أو نكران وانتحار

سعيد خطيبي
يعيش الشعراء في الجزائر، مثل سيزيف، يحملون قصائدهم على رؤوسهم مثل من يحمل صخرة، ويشقون طريقهم إلى أعلى، لكن الصخرة لا تفتأ أن تنحدر بهم إلى وراء، وتعيدهم من حيث جاؤوا، إلى أشقى أيامهم. فمن النادر أن نطالع شعراً لافتاً، في الجزائر، لأن الشعراء الحقيقيين أحيلوا إلى النسيان، أوجبت عليهم ظروفهم أن يقيموا في الظل، ومن لم يمت منهم كمداً، ساقته الأقدار إلى سجن، ومن نجا من هذين الخيارين، سوف يواجه النكران، أو يفكر في الانتحار. إنها أقدار الشعراء في «هذا البلد، ما أن تبزغ فيه مواهب وتتألق، في سماء الإبداع الأدبي، حتى تُصاب بالوهن، وعدم الاستمرار، فيكون مصيرها التلاشي والانطفاء»، هكذا يكتب محمد بوزرواطة في «وجوه وأطياف» (دار فهرنهايت، 2024)، وهو يتتبع نور الشعر الذي كاد يخبو، ويقارب مصائر الشعراء الذين يعيشون في واقع معارض للأدب.
يحدثنا بوزرواطة عن الشاعرة مبروكة بوساحة (1943)، من لا يزال يتذكر هذا الاسم؟ لقد توارى اسمها مثلما توارت أسماء أخرى صنعت ربيع الجزائر. فقد كانت مبروكة بوساحة أول شاعرة تصدر ديواناً بالعربية في الجزائر المستقلة (حصل ذلك عام 1969)، لقد كانت شاعرة البلاد الأولى قبل نصف قرن من الآن، ومن المحتمل ألا أحد سمع عنها من الأجيال الشابة، وهي التي تحولت قصائدها إلى أغانٍ، وهي التي كبر الناس على صوتها ـ لا صورتها ـ في الراديو. لكن منذ أن تقاعدت من الإذاعة صارت نسياً منسياً، ومُحيت قصائدها من خرائط الشعر في البلاد.
قد يجري تبرير هذا التغييب إلى تقلبات الحال في المجتمع (من زواج أو طلاق)، أو إلى نظرة دونية إزاء المرأة الكاتبة، لكن مبروكة بوساحة لا تدخل في هذه المعضلات، مع ذلك طمرت الذاكرة اسمها، لو لم يتذكر محمد بوزرواطة في كتابه، وهذا القدر لا يخص تلك الشاعرة وحدها، بل إن الكتاب يفتح باب الغائبين، يبحث عن شاعرات وشعراء فرضت عليهم الأحوال أن يصيروا خارج الذاكرة، بعدما كانوا يتبؤون مرتبة عليا في الأدب، صاروا في طي النسيان، بعدما كان الناس يتهافتون على ما يكتبون.
هل نصلي في جنازة شاعرة أم لا؟
يتذكر المؤلف كذلك شاعرة أخرى، نقصد بها صافية كتو (1944-1989)، امرأة أخرى واجهت ريح التغييب، ويستحضر يوم دفنها، وقد كان شاهداً على تلك اللحظة. «حدث لغط وجدل كبير، وتعالت صيحات البعض، ممن أعرض عن الصلاة عليها»، هكذا يكتب، فالشاعرات لم يسلمن لا في حياتهن ولا في مماتهن، بل ظللن على الهامش، يُنظر إليهن نظرة ازدراء، وإن متن يتجادل الناس في الصلاة عليهن من عدمها، مع أننا نتحدث عن شاعرة لها بالغ الأثر في تجديد الشعرية الجزائرية، فقد كتبت صافية أعمالها بالفرنسية مسكونة بروح محلية، مستوحاة من مسقط رأسها في واحة عين الصفراء، جنوب البلاد، كما كتبت في القصة القصيرة، وكانت من رواد أدب الخيال العلمي في شمال افريقيا. فهل يحق أن نواجهها بمثل هذا النكران؟ ثم أين هي أعمال صافية كتو في الأزمنة المعاصرة، لقد طواها النسيان مثلما طوى زميلات لها، فليس من صالح المرأة أن تولد شاعرة، في زمن لا يولي الشعر اهتماماً، مع أن صافية كتو نجت من مصير أكثر سوءاً لاقاه شاعر آخر اسمه مبارك جلواح. وهذا اسم آخر في سجل المغيبين، أوصلته الأحوال إلى الانتحار، لم تقم له صلاة في تشييعه، ثم أحيل أمره إلى النسيان. عام 1943، ألقى مبارك بنفسه من نهر السين، في باريس، ولم يخرج منه. هناك من يقول إن الشاعر قد انتحر وهناك من يقول إنه راح ضحية جريمة، لكن في الحالتين لم تشفع له أعماله في أن يتذكره الناس، لذلك يبدو أن «وجوه وأطياف» مثل مصباح يحيل القارئ إلى المنسيين، ينفض الغبار عن ذاكرتهم وعن أعمالهم، مع أن هذا العمل من الجدير أن تتولاه مؤسسة وليس فرداً بنفسه، مع ذلك فإن محمد بوزرواطة واجه المهمة، بما تقتضيه من مشقة، راح يقلب في الأرشيف وفي استخراج جثامين الشعراء، ويعيدهم إلى الحياة في نصوصهم وفي سيرهم. فقد تضمن كل فصل من فصول الكتاب سيرة واحد من الغائبين، ويذكرنا كم خذلنا من صنعوا مباهج الأدب في الجزائر، في سنين خلت. ولأننا نحكي عن بلد من النادر أن تصدر فيه أنطولوجيا جامعة، وإن صدرت فإنما تكون مبتورة من بعض الأسماء، يبدو كتاب محمد بوزرواطة، مثل أنطولوجيا طال انتظارها، عن شعراء وكتاب وعن أشخاص آخرين خدموا الكتاب، لكنهم لم يحصدوا سوى النسيان عقب رحيلهم.
شعراء معاصرون لكنهم مجهولون
لم يكتف المؤلف بالعودة إلى شعراء من القدامى، قد يقدر أحدهم أن نسيانهم تتحمله وطأة السنين وتوالي النكب والمصائب، بل إن الشعراء المعاصرين سرعان ما يجري محوهم من المخيلة، على غرار عبد العالي رزاقي، الذي لم يمر على رحيله سوى العام ونصف العام، مع ذلك عقب وفاته، جرى طمر ذاكرته. فهو أول شاعر يتعرض إلى المنع، عام 1984، عقب نشر مجموعته «هموم مواطن يدعى عبد العال»، بل خضع إلى تحقيق أمني. قصائد أوصلت صاحبها إلى مخفر الأمن، في زمن كان فيه الحزب الواحد يحكم البلاد، مع ذلك فإن عبد العالي رزاقي لم يتخل عن شغفه في الكتابة، مواصلاً عمله في التدريس في الجامعة، لكن عقب مواراة جثمانه، صار خارج الحسبان، فمن يهتم بحال الشعراء غير الشعراء؟ لكن الشعراء الذين على قيد الحياة مشغولون بالسوشيال ميديا، وبتصوير برامج في التلفزيون، ولم يفكروا في مد يد العون إلى ذكرى زملائهم السابقين. وحين يبادر محمد بوزرواطة إلى هذا العمل، فهو ليس شاعراً، ولا يدعي شعراً، لكنه يمارس واجباً بوصفه مؤرخاً ثقافياً، شاهداً على تقلبات الحقب في البلاد، وينبهنا إلى أن النسيان صار فيروساً ينتهك العقول في كل حين، وفي كتابه لم يختص في سير شعراء فحسب (مع أنهم الأغلبية)، بل نصادف كذلك كتابا آخرين طمرتهم الذاكرة ويحكي للقارئ عن كُتبيين كانوا سبيلاً في توصيل الكتب في بلد تندر فيه المكتبات.
كتاب «وجوه وأطياف» يتيح للقارئ بورتريهات، كتبت بعناية، تحاول القبض على التفاصيل الهاربة من سير كتاب غائبين أو مُغيبين، وتحاول استرداد التاريخ المنسي، وحيوات الذين عاشوا في الهامش، بعدما طمست الذاكرة وصار الأدب الجزائري يفتقر إلى أرشيف.
كاتب جزائري