ثقافة وفنون

مسرحية «بوربوريغموس»… قرقرة عبثية في بطن لبنان

مسرحية «بوربوريغموس»… قرقرة عبثية في بطن لبنان

سليم البيك

هذا العنوان العصيّ، ضروري اللفظ خطأً مرّاتٍ قبل أن يَعلق صحيحاً بصدفة نطقية حسنة، أو يُترك بالمرور عليه لإكمال مسار مربك في الكلام، هذا العنوان، هل هو اسمٌ علمي طبي شرْحُه أصعب من لفظه، أم هو اسمُ فيلسوف يوناني قراءتُه تفوق صعوبةً؟ في كل الأحوال، مشاهدة المسرحية، «بوربوريغموس»، تفسّر العنوان وتوضحه، أفضل من نصوص طبية أو فلسفية يمكن لها أن تشرح صوت القرقرة الذي يحدث في بطن الجائع وقد تحفّز دماغه لصور طعام وروائحه.
مسرحية اللبنانيين ربيع مروة ولينا مجدلاني ومازن كرباج، «بوربوريغموس»، وبعد عروض منذ 2019، تُعرض هذه الأيام في «مهرجان الخريف» في العاصمة الفرنسية، ضمن عروض أخرى لمروّة ومجدلاني، في المهرجان العابر للأنواع مسرحاً ورقصاً وموسيقى.
قد يكون راهن لبنان، وعاصمته بيروت، سياقاً سوداوياً لعبثية المسرحية الأشبه بقرقرة في بطن تاريخ هذه المدينة. عبثية منثورة بما بدا عشوائية، في لوحات منفصلة متصلة، لا سرد حكائياً فيها ولا انسجام، تماماً كسيمفونية ارتجالية للمعدة الجائعة، كأن المدينة من خلال هذه المسرحية، في حالة فراغ وجوع لا يحيط به سوى الضجيج المتحوّل إلى آلام ممتدة على طول تاريخ لبنان المعاصر، أو أحاديث الشخصيات الثلاث، الرثائية منها والاستذكارية، والتروميّة، في استدعاء الراحلين من معارفهم، أو في صيحاتهم النخبوية أمام كؤوسهم التي ستتكسّر فتتهشّم تحت أقدامهم، كأن النخوب كلام خاوٍ يئنّ تحت أحذية الشخصيات، في لوحة مسرحية مكرسة تماماً لهرس الكؤوس التي حملت أمنيات شاربيها.
لوحات لا يهم، لوهلة أولى، أيهما يصفّ قبل الآخر، منفصلة تماماً سردياً لكنها متتابعة بما فصل بينها بصرياً، فكل مشهد مبني على سابقه بصرياً وأداتياً، كل مشهد يتطوّر عن سابقه. نحن هنا أمام مسرحية على شكل تركيب فنّي معاصر، بصري وصوتي، كأنه موزّع في صالات عرض كل منها لمشهد يؤدي الخروجُ منه، الصالة والعمل، إلى التالية والتالي. هو تركيب فني على شكل مسرحية أو هو مسرحية على ذلك التركيب.
والكلام، ليس العبث هنا فيه، بل في منطقيته التراتبية التي يمكن أن تؤدي من صورة إلى أخرى بأمان. الكلام هنا فضاء واحد لا يهم الترتيب فيه، لأن الصورة ستصل أخيراً من دون نقصان، المفردات هي الأساس هنا وليس العبارات ولا الفقرات. كلامٌ وصفي طويل، كأننا في رواية كلاسيكية تصف ساحةً، امتدّ الكلام من دون ما بدا بداية، ولا نهاية. كلام كرباج في المشهد الأخير عن حياته طفلاً، كلام مروة قبله عن خوفه من الشيخوخة، كان عادياً، أقرب إلى أحاديث هامشية متفرّقة، تُرافق كأساً وتكون مستقطَعة، متخللةً غيرها تبدو أكثر أهمية.
المسرحية بكاملها كانت لما هو أقل أهمية، نخب الغائبين، رثاء الراحلين، الخوف من المقبل والقلق على الفائت. وقبلها، جعلكة ورق كلمات الأغنية، ورميها، فلمّها كالقمامة، وبعدها تكسير الكؤوس البلاستيكية وكنسها قبل طحنها بالأحذية. المسرحية كلّها، عن الراهن الغائب، الماضي والمستقبل المغيَّبين، في بيروت ولبنان.
ولأن لقرقرة البطون، البوربوريغموس، أثر صوتي أساساً، كان الصوت في المسرحية عنصراً ظاهراً من مشهدها الأول، إذ يتمحور حول صوت تكتكة بتواترات مختلفة، حتى الأوراق المجعلكة، التي صارت تطنّ، بابتكار بصري خلّاق، في كيس قمامة أمام الميكروفونات، أو الكؤوس المتكسرة بقرب الميكروفونات كذلك، ولأن لا بد للصوت أن يراوح بين العشوائية والقصدية، يكون المشهد مع الغيتار بأوتار تنقطع كلّما عزف عليها مروّة. ولأن الصوت كذلك نقيض للصمت، كان لمجدلاني مشهد تحرّك الأكورديون فيه من دون النقر على مفاتيحه، لا نسمع سوى الهواء بين شهيق الآلة وزفيرها. نسمع المخفيّ من العزف، الهامشيّ.
العرض، وهو صوتي بقدر ما هو بصري، وهو مسرحي بقدر ما هو تركيب فنّي، وهو عبثي بقدر ما هو واعٍ تماماً لراهن البلاد وتاريخها، العرض قرقرة في بطن لبنان، وفلسطين التي نالها كما نال «القدس العربية»، نخب المتفائلين، العرض تلك القرقرة التي طبعت تاريخ مشرقنا العربي المعاصر، ولا تزال.

كاتب فلسطيني

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب