هاريس خسارة مستحقة وفوز لترامب في غياب البدائل
هاريس خسارة مستحقة وفوز لترامب في غياب البدائل
عبد الحميد صيام
انتهت الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأمريكية بفوز ساحق للحزب الجمهوري. فالحزب الآن يسيطر على البيت الأبيض ومجلسي الشيوخ والنواب. ولا ننسى أن ستة من قضاة المحكمة العليا التسعة من المحافظين حيث عين الرئيس دونالد ترامب ثلاثة منهم في دورته الأولى. الحزب الديمقراطي هذه الأيام يحاول أن يستوعب دروس الهزيمة المروعة التي أدت إلى خسارة ولايات كانت محسوبة على الولايات الزرقاء تاريخيا مثل بنسلفانيا وميشيغان وويسكنسون. سيطرة الحزب الجمهوري الآن على مقاليد البلاد التنفيذية والتشريعية تكاد تكون مطلقة. ومن المؤكد أن يفسر ترامب هذا الفوز إلى أن الشعب الأمريكي أعطاه ضوءا أخضر لقيادة البلاد بالطريقة التي يراها. وقد يكون هذا التحليل غير دقيق. فالشعب الأمريكي اختار بين سيء وأسوأ. فكمالا هاريس تذكرنا بهيلاري كلينتون، كلتاهما لم تقنعا الشعب الأمريكي بقدراتهما لقيادة البلاد فلقيتا نفس المصير.
أسباب موضوعية
من الواضح أن هذه الانتخابات كانت عقابا للحزب الديمقراطي أكثر منها جوائز لترامب وللحزب الجمهوري. ويبدو أن اعتماد الحزب الديمقراطي في حملته الانتخابية القائمة أساسا على تخويف الشعب الأمريكي من شخصية ترامب وسجله الشخصي كمتهم ومدان قضائيا من جهة، وكونه خطرا على الديمقراطية الأمريكية وشخصنة موقع الرئاسة بعيدا عن العمل المؤسسي من جهة أخرى، لم تقنع الغالبية الساحقة من المصوتين. خسرت كمالا هاريس الانتخابات الرئاسية وخسر الحزب الديمقراطي المجلسين، لأسباب موضوعية أخرى أهمها:
– الاقتصاد الذي كان على رأس أولويات الشعب الأمريكي. فغلاء الأسعار الذي تشهده البلاد غير مسبوق. والأمريكيون لا يهتمون بالسياسة الخارجية حيث أشارت استطلاعات الرأي إلى أن 3 في المئة من الناخبين يصوتون على أساس السياسة الخارجية للمرشح. بينما حل الاقتصاد في المرتبة الأولى بنسبة 40 في المئة، أي أن نصف المصوتين تقريبا يقيّمون المرشح بناء على البرنامج الاقتصادي.
– كمالا هاريس غير معروفة ودخلت حلبة المنافسة على الرئاسة متأخرة جدا بدون برنامج واستعداد ما سهل هزيمتها. بدأت كمالا تطفو على السطح بعد قرار بايدن بالانسحاب إلا أن الوقت كان قد تأخر كثيرا. حاولت أن تميز نفسها عن بايدن لكنها فشلت، وحاولت أن تطرح برنامجا اقتصاديا متكاملا عبر عدد من الوعود، إلا أن طرحها كان غير مقنع حيث كان يردد الجميع ولماذا لم تقومي بتلك الخطوات وأنت نائبة للرئيس؟
– لقد عاقب العرب والمسلمون إدارة بايدن عبر عدم التصويت لكمالا هاريس لدورها ودور رئيسها في حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني. أصوات العرب توزعت بعدها إلى ثلاثة أقسام: تصويت لصالح ترامب، تصويت لصالح مرشحة حزب الخضر جيل ستاين، وإبقاء الورقة فارغة وبعضهم كتب عليها «لا قرار» وبعضهم كتب يحيى السنوار. والنتيجة أن كمالا خسرت الولايات المتأرجحة الثلاث الأساسية: بنسلفانيا وميشيغان وويسكنسون، ولو ربحت هذه الولايات لفازت بالرئاسة. ففي ميشيغان مثلا كانت خسارتها بنحو مئة ألف صوت أو أكثر قليلا وهو ما يعادل تقريبا البطاقات الانتخابية التي ذهبت فارغة أو كتب عليها «لا قرار» أو ذهبت لجيل ستاين. لقد باعدت نفسها عن العرب والمسلمين واكتفت في برنامجها بتخويفهم من ترامب.
– استطاع ترامب أن يستفيد من أخطاء إدارة بايدن في مواضيع تهم الشعب الأمريكي المحافظ، وهو جزء كبير من الشعب المسيحي المتدين وخاصة ما يتعلق بحقوق المثليين والتفاخر بهذا من جهة، وحقوق الإجهاض بدون تدخل الدولة من جهة أخرى. وهذا ما دفع كثيرا من المحافظين وحتى المسلمين لتأييد ترامب. وبلغت أمور الحرية في اختيار جنس الشخص في عهد بايدن مرحلة خطيرة يستطيع طالب المدرسة الثانوية أن يجري عملية تغيير جنسي بدون تدخل الأهل، وهذا غير مقبول لمعظم سكان ولايات الجنوب ووسط البلاد وكبار السن والمهاجرين من أصول شرق آسيوية والشرق الأوسط.
– لعبت الجاليات من أصول لاتينية، وهي الأكبر من بين الأقليات، دور بيضة القبان، حيث أشارت استطلاعات الرأي إلى تحول كبير بين الجاليات اللاتينية قلبت المعادلة في ولايات مهمة مثل فلوريدا التي ظهرت نتائجها مبكرة ما أعطى مؤشرا كبيرا إلى أين تتجه الأمور. ففي انتخابات 2020 منح المصوتون من أصول لاتينية ترامب نحو 23 في المئة من أصواتهم بينما في هذه الانتخابات صوت نحو 42 في المئة لصالح ترامب. تفسير ذلك يحتاج إلى وقت خاصة أن هناك تحولات في أمريكا اللاتينية تتجه نحو الشعبوية. كما أن أزمات كبرى تعصف بدول عديدة مثل فنزويلا ونيكاراغوا وبوليفيا فاقمت مشكلة المهاجرين من بلاد كان يمكن أن تكتفي ذاتيا. ويرى هؤلاء أن إقفال باب الهجرة السائبة يصب لصالحهم هنا في الولايات المتحدة.
– يتوجه ترامب إلى البيت الأبيض لولاية ثانية في الوقت الذي تشتعل الحروب في أكثر من مكان وخاصة في الشرق الأوسط (فلسطين ولبنان واليمن وإلى حد ما إيران) وأوكرانيا. إدارة بايدن كانت عاجزة عن وقف النزاعات وتهدئة التوترات ولكنها ظلت تتحدث عن وقف إطلاق النار في الشرق الأوسط والعمل على دعم أوكرانيا للانتصار على روسيا. وشعر الأمريكيون أن هذه الحروب تستنزف امكانياتهم وتثقل كاهل دافع الضرائب بأعباء إضافية على حساب متطلبات حياته اليومية. وبما أن ترامب يقدم نفسه كرجل لا يحب الحروب بل رجل سلام وصفقات تجارية وصاحب قرارات شجاعة من دون الاهتمام للمؤسسات العميقة مثل مجمع الصناعات العسكرية فهو إذن الأفضل للمرحلة المقبلة. ولذلك يرى جيل الشباب والرافض للحروب والمؤيد للسلام فرصة فوز ترامب قد يكون لها أثر إيجابي على الوضع الداخلي خاصة وأن البنى التحتية في هذه البلاد تكاد تنزلق إلى مستوى دول العالم النامي.
– من المؤكد أن ترامب استثمر كثيرا في محاولة اغتياله في بنسلفانيا يوم 13 تموز/يوليو الماضي، وكادت أن تودي بحياته حيث ظهر أن له أعداء في البلاد لا يستطيعون شراء صمته فما لهم إلا أن يقتلوا هذا الصوت. لقد رأى الشعب الأمريكي رجلا يلقي خطابا أمام الجماهير ثم تطلق عليه النار وتنزف دماؤه ثم يتابع خطابه برباطة جأش وصلابة ما أضاف إليه صفة جديدة وهي الشجاعة المطلقة. وكان في ذلك الوقت بحاجة شديدة إلى هذا التعاطف.
قد يكون ترامب في دورته الجديدة مختلفا عن الأولى، وقد يجمع مزيدا من القوة ويختار فريقا غير معروف من رجال ونساء يدينون بالولاء المطلق له، لكنه بالتأكيد سيكون أقل تهورا وأكثر روية في مواضيع السياسة الخارجية.