ثقافة وفنون

آنا أخماتوفا: صوت الألم والجمال في الشعر الروسي

آنا أخماتوفا: صوت الألم والجمال في الشعر الروسي

ترجمة وتقديم شاكر لعيبي

آنا أخماتوفا هو اسم مستعار لآنا أندرييفنا غورنكو، شاعرة روسية (1889 – 1966)، من أشهر المؤثرين في الشعر الروسي الحديث، تُرجمت أعمالها إلى العديد من اللغات بما في ذلك العربية، وهي تتراوح بين القصائد الغنائية القصيرة إلى المرثيات. ولدت في بلشوي فونتان إحدى ضواحي أوديسا الأوكرانية لأبوين هما أندريه أنطونوفيتش غورينكو وأينا أيرازموفنا. وبعد عامين من ولادتها انتقل أهلها للعيش في تسارسكويه سيلو في بطرسبورغ؛ وفي عام 1905 انفصل والداها وانتقلت مع والدتها إلى يفباتوريا، ثم إلى كييف لتكمل تعليمها، فتعرّفت هناك على نيقولاي غوميلوف، الذي ارتبط بها عام 1910 فولدت منه ليف غوميلوف، ابنها الوحيد، حتى انتهت علاقتهما بالطلاق عام 1918. ثم تزوّجها بعد ذلك عالم الآشوريات فلاديمير شليكو. وفي عام 1922 انفصلت عن فلاديمير، لتعيش مع الناقد نيكولاي بونين الذي أصيح زوجها الثالث.
تعلمت آنا اللغة الفرنسية وأتقنتها، وأحبّت التاريخ والأدب، وتعرّفت على الأدب الأوروبي عامة والروسي خاصة، وشغفت بالشعر، الذي دام معها طوال حياتها.
بدأت في كتابة الشعر وهي لا تزال في سن الحادية عشرة من العمر، وقد عُرفت بدءاً من عام 1910 باسم آنا أخماتوفا، وفي عام 1911 شاركت في محترف الشعراء الذي ضمّ حركة الأوجية L’acméisme (من الكلمة اليونانية acmé التي تعني «النقطة، الارتفاع، الذروة، الأوج») لتصبح بعد ذلك من أهم أعلام الحركة، مع أوسيب ماندلشتام وغوميليف. وفي عام 1912 صدر أول ديوان شعر لها بعنوان «أمسية»، تبعته بعدة دواوين كان آخرها قد صدر في الوقت الذي أصبحت فيه مواقفها السياسية معارضة للثورة البلشفية، ورغم الوضع السياسيّ المتشنج تجاه الأدباء؛ إلا أنها لم تغادر البلاد حتى بعد إعدام زوجها عام 1921.
كانت من ركائز الصوت النسائي الطليعي في الشعر الروسي. يعتبر النقاد أعمالها منقسمة إلى فترتين زمنيتين: بداياتها الشعرية (بين الأعوام 1912-1925) وأعمالها اللاحقة (من حوالي عام 1936 حتى وفاتها)، يفصل بينهما عقد قلّ فيه إنتاجها الشعريّ. اشتملت موضوعاتها على تأملات في الزمن والذاكرة، وعلى صعوبات العيش والكتابة تحت القمع. ثمة القليل من المعلومات حول حياة أخماتوفا، بسبب تدمير الحرب للكثير من السجلات الروسية المكتوبة. كانت أخماتوفا في حالة تجاهل وازدراء رسميّ لفترات طويلة، وتوفي العديد من المقربين لها، أعدم زوجها الأول، نيكولاي غوميلوف، من قبل البوليس السري، وأمضى ابنها ليف غوميلوف وزوجها نيكولاي بونين سنوات عديدة في معسكرات العمل «الغولاغ»، حيث مات بونين.
واحد من أهم الكتب التي صدرت عام 2010 بالفرنسية عن آنا أخماتوفا هو عمل تاتيانا فيكتوروف المعنون «قدّاس من أجل أوروبا»، ويستهدف إخراج أخماتوفا من نطاقها الثقافي السلافيّ إلى أفقها العالمي. كانت أخماتوفا مجتهدة في ترجمة الأدب العالمي إلى الروسية فترجمت الشاعر الإيطالي ليوباردي (1798ـ 1837) وطاغور وملحمة جلجامش، وثمة تقاطعات حسب دراسات العمل بين شعر أخماتوفا وشعر تسيلان وشار وإيف بونفوا وجاكوتيه وإميلي ديكنسون وييتس وبودلير وريلكه. يستحضر نص موجز ومؤثر بقلم إيف بونفوا، حسب الكتاب، قراءة بونفوا لقداس أخماتوفا باعتباره «واحدا من أكثر المشاعر حيوية التي عاشها في حياته». مقدمة هذا القداس جعلته يصغي إلى «الشعر الأكثر أهمية في بداهته». بدءاً من الفصل الثالث من الكتاب، تجري المؤلفة دراسة عن صعوبة نقل شعر أخماتوفا إلى اللغات الأوروبية، حيث تزداد وعورة الترجمة بسبب طلب أخماتوفا الصارم بأن تتمّ ترجمتها إلى شعر مقفى، رغم من أن القوافي والأوزان تأخذ دلالات مختلفة في تاريخ كل أدب وكل لغة، ورغم أن أخماتوفا كررت أنها غير قابلة للترجمة، إلا أن قوة شعرها ظهرت عبر الترجمة نفسها، فصُدم العديد من الشعراء الأوروبيين بأعمالها. يؤكد أ. ميدفيديف، من خلال مقارنة قصيدة لريلكه بيتاً بيتاً مع نسختها الروسية لأخماتوفا، أن الترجمة تشكل طريقا متميزا للقاء مع شعر الآخرين.
في مقالة عنوانها «شعر آنا أخماتوفا» كتبها فيليب بوافريه Philippe Poivret (5 يونيو/حزيران 2020) بمناسبة صدور ترجمة مجموعة الشاعرة «قدّاس، قصيدة بلا بطل وقصائد أخرى Requiem-Poème sans héros et autres poèmes عن دار غاليمار، شعر في مايو/أيار 2007 وأعيد نشرها عام 2014 بترجمة جان لويس باكيس Jean-Louis Backès، يقول: «شعر آنا أخماتوفا هو شعر قاس لا هوادة فيه، ويمكننا أن نقول اليوم، وفقا للتعبير المعمول به، إنه لا يستسلم لأي شيء أبداً، تمّ نشر القصائد بترتيب زمنيّ، ما يسمح لنا برؤية التطور والبساطة ثم التعقيد في شعرها منذ عام 1923، تغيرت نغمة شعر آنا أخماتوفا. تم سجن ابنها ليف عدة مرات، كما أُعدم زوجها السابق نيكولاي غوميلوف بالرصاص في عام 1921. ومن عام 1935 إلى عام 1943، كتبت مجموعة قصائد جمعتها تحت عنوان قدّاس، وكتبت لها مقدمة عام 1957، وأهدت المجموعة لجميع النساء اللواتي ينتظرن مثلها ومعها مصير الأحباب، أمام أبواب السجن. قداس الموتى عبارة عن مجموعة مؤثرة بشكل خاص تصف فيها طوابير الرجال المدانين، وأغنية الوداع القصيرة، وروسيا التي تتلوى من الألم، أما «قصيدة دون بطل»، المكتوبة من عام 1940 إلى عام 1962، فهي تحفة أخرى من شعر آنا أخماتوفا. إنها ثلاثية تبدأ بحفلة نهاية العام مقدَّمة على شكل مسرحية تستقبل البطلة فيها أشباح شخصيات مثل فاوست أو دون جوان، أو هاملت الذين يفرون بعد مرور وقت قصير. ثم تضعنا في غرفتها حيث تعود الشخصيات الموجودة في اللوحات إلى الحياة، ونجد أنفسنا في الشارع ونسأل «ما هي الكلمة التي انتصرت على الموت/ وحلّت لغز الحياة؟ في الجزء الثاني، تأخذنا إلى منزلها لنتساءل على طريقتها في كتابة الشعر عما حدث للتو في غرفتها، وما هو خلف المرآة. الجزء الثالث والأخير تدور أحداثه في سانت بطرسبرغ عام 1942 إبّان الحرب العالمية الثانية، بينما جرت أحداث الجزءين الأولين عام 1913 قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى. أما قصائد «المرثيات الشمالية» التي كُتبت من عام 1940 إلى عام 1945، فهي تستدعي لمسة من الحنين إلى الماضي الذي عاشته، كما هو الحال دائما بين شعبها ولشعبها. إنها تأملات في تطوّر روسيا، عبر نظرة هادئة أحيانا لشاعرة تبدو مسالمة. هذه القصائد، التي تستحضر الذكريات، تختلف عن بقية أعمالها، لأنها تُظهر نضجا كبيرا في فنها الشعريّ.


لعل أبيات أخمانوفا التالية تصلح مثالاً لطبيعة وعيها الشعريّ:
«وأنا ممتلئة بحمى حارقة،
صوتي العزيز يرنّ كأنه أغنية بلا كلمات،
وعلى الكتف النحاسيّ لسيثاروس
يجلس الطائر ذو الصدر الأحمر».
فمن هو سيثاروس Cytharus أو Cythera؟ اسم ملتبس. للوهلة الأولى هي اللفظة اليونانية لمفردة القيثارة (سيثاروس) قيثاروس التي تظهر صورتها على بعض العملات اليونانية مع سبعة أوتار بالاسم نفسه. ولكن الشاعرة قد تعني بذلك اسم فيلوكسينوس من سيثيرا Philoxenus of Cythera (السيثيري) وهو شاعر وموسيقي يوناني قديم. كان زعيماً لثورة «الموسيقى الجديدة» اليونانية، وعاش من عام 435 إلى عام 380 قبل الميلاد. أشهر عملين له، الديثرامبي الساخر «سايكلوبس» و»العشاء» (حوالي عام 395 قبل الميلاد)، كانا شائعين حتى العصر الروماني. كان «سايكلوبس» مصدر أسطورة بوليفيموس وحبه المستحيل لحورية البحر جالاتيا. ولد الشاعر فيلوكسينوس في مستعمرة سيثيرا الأسبرطية. أثناء الحرب البيلوبونيسية (426 قبل الميلاد) غزا الأثينيون الجزيرة، وأُرسل فيلوكسينوس، وهو لا يزال صبيا، كعبد إلى أثينا. اشتراه ميلانيبيديس الذي درَّبه على الموسيقى وحرّره، واستمر في اكتساب شهرة كبيرة باعتباره «كيثارود» – وهو مغن وشاعر وملحن يصطحب قيثارة. خلال تسعينيات القرن الرابع قبل الميلاد، كان يعيش في صقلية في بلاط ديونيسيوس الأول، طاغية سيراكيوز، ثم غنى في وقت لاحق في جميع أنحاء إيطاليا وآسيا الصغرى. وفي عام 393 قبل الميلاد، حصل على تقدير خاص من مجلس الشيوخ الأثينيّ. وتوفي في أفسس وهو ما صار الآن غرب تركيا. ومثل غيره من دعاة «الموسيقى الجديدة»، سعى الشاعر فيلوكسينوس إلى تحرير الأغنية اليونانية من أصولها الصارمة. وتخصّص في الديثرامب، وهو في الأصل ترنيمة سردية للجوقة، تُغنى وتُرقص تكريما لإله الخمر ديونيسوس. وعلى يديه أصبحت هذه الترانيم وسيلة منفردة بنفسها، فكاهية في نبرتها وأكثر حرية في استخدامها للأنماط الموسيقية. اتهمه التقليديون بإفساد هذا النوع، لكن مهاراته كعازف قيثار حازت إعجاب الجماهير. ويُنسب إلى فيلوكسينوس ما لا يقل عن 24 ديثرامبا وقصيدة غنائية واحدة؛ وقد ضاعت كل موسيقاه ومعظم أشعاره. ما تبقى منها، مقطوعة من أربعة أسطر وملخص جزئي لقصيدة «سايكلوبس»، وأجزاء كبيرة من قصيدة «العشاء»، وعناوين أربع مقطوعات أخرى، وهي «السوريّ»، و»المتفرّج»، و»التألق»، و»فريسة للجميع». هناك العديد من الشهادات التي تؤكد السمعة الطيبة التي اكتسبها فيلوكسينوس، بدءاً من أرسطو وبلوتارخ إلى المؤرخ البيزنطي سويداس في القرن العاشر. وقد أطلق عليه الكاتب المسرحي أنتيفانيس لقب «إله بين البشر». وكان الإسكندر الأكبر من أشدّ المعجبين بشعره، وأقيم مهرجان سنوي لأعماله في أركاديا لمدة مئتي عام بعد وفاته. وانبثقت قصتا «سايكلوبس» و»العشاء» من إقامة الشاعر في صقلية، وهي الفترة الوحيدة من حياته التي سُجلت ببعض التفاصيل، وإن كانت قصة كيفية كتابة «سايكلوبس» تحمل رائحة الأسطورة. ويبدو أن فيلوكسينوس وراعيه ديونيسيوس الطاغية كانا على وفاق في البداية، حيث كانا من عشاق الخمر ويستمتعان بالشرب معاً.
سوى أن الطاغية ديونيسيوس كان (يتورّط) في كتابة الشعر. ففي إحدى الأمسيات عرض على الشاعر فيلوكسينوس بعض قصائده وطلب منه أن يبدي ملاحظاته. فاقترح عليه فيلوكسينوس أن يلقيها في النار، الأمر الذي دفع الملك الغاضب إلى نفيه إلى المحاجر الصخرية. وبفضل تدخّل الأصدقاء، أعيد إلى القصر بعد بضعة أيام. ألقى الطاغية ديونيسيوس أبياته أمام الجمهور الذي صفق له بحرارة، ثم سأل الشاعر: «هل أعجبتك الأبيات الآن؟» فأجابه فيلوكسينوس: «أعدني إلى المحاجر». وهناك كتب قصيدة «سيكلوبس»، وهي محاكاة فكاهية لحلقة من «الأوديسة» لهوميروس، للسخرية من ديونيسيوس وزعمه.

شذرات حول الفن الشعريّ:
«كل حياة من حيواتنا هي دراما شكسبيرية ارتقت إلى الدرجة الألف.»
***
«أنا في خضم كل هذا: الفوضى والشعر؛ الشعر والحب، ثم مرة ثانية، الفوضى الكاملة. ثمة الألم، والاضطراب، والوضوح العرضي؛ وفي قاع هذا ثمة الحب ـ الشعر فقط. ثمة السحر الخالص، والخوف والإذلال. وكله يأتي مع الحب».
***
«لقد تأخرت. لقد مرت سنوات عديدة،
أنا سعيدة برؤيتك، مع ذلك.
اقترب، اجلس هنا بجانبي،
كن لطيفا، عاملني بلطف:
هذا الدفتر الأزرق القديم – انظر في داخله –
كتبت هذه القصائد عندما كنت طفلة».
***
«لم يكن هذا الحنان مثلما سماه أحد
الشعراء في بداية القرن حقيقياً
ولسبب ما هادئا».
***
«إذا متُّ فمن سيكتب لك قصائدي؟»
***
«كم من القصائد لم أكتبها؟
تتدلّى في الهواء من حولي جوقة غريبة،
قد تخنقني ذات يوم…»
***
«بصدد همنغواي، هل لاحظت كيف أن جميع الأشخاص في أعماله يشعرون بالوحدة، لا أقارب، ولا عائلة؟»
***
«أجفان عينيها المغمضتين نصف إغماضة مثقلة بالقصائد.»
***
«على الشاعر أن يموت مرات عديدة،
طفلا أحمق: لقد اختار هذا الطريق بنفسه –
لم يستطع تحمُّل الإهانة الأولى،
لم يكن يعرف عند أي باب يقف،
لم يفهم أي نوع من الطرقات
ستنفتح أمامه».
***
«وإذا كنت تعرف من أي بقايا
تولد القصائد – بلا خجل
مثل الهندباء الصفراء عند سياج مكتظ بالديدان،
مثل السبانخ البرية أو النبق الشائع.»
ملاحظة: النبق الشائع أو الأرقطيون
***
«أضع كل أَرَقِ لياليّ في كلمة هادئة.»
***
«بدلاً من الحكمة، [هناك] الخبرة العارية، التي لا تروي العطش، ولا تبتلّ».
***
«هبطت الكلمة بصوت خافت
على صدري الذي ما زال نابضاً.
لا بأس، كنتُ مستعدّة،
سأتدبّر أمري مع الباقي».
***
«طيلة عشر سنوات من مخاوفي
كل ليلة بلا نوم،
وضعتُها كلها في كلمة هادئة
وعبّرتُ عنها عبثاً، غير متأكدة».
***
«أوه، هناك كلمات لا تتكرر،
من قالها فقد أهدر أكثر مما ينبغي.
لون السماء الأزرق لا ​​ينضب
وكرم الله.»
***
«لم تلامسني أصواتُ البشر
بل سمعتُ كلماتُ الريح.»
***
أحيانا، يجذبني هواءٌ ربيعيّ مجنون،
أو مزيج من الكلمات في كتاب الصدفة
أو ابتسامة شخص يجذبني فجأة
إلى حياة غير موجودة».
***
«لا أعَدّ أيامي الفانية
تحت سقف بناية فارغة باردة،
أقرأ كلام الحواريين،
أقرأ كلمات منشد المزامير».
«الثلج يذوب، والنجوم تتحوّل إلى اللون الأزرق،
وكل لقاء يصير أكثر روعة
وفي الكتاب المقدّس تتربّع ورقة
في نشيد الأناشيد.»

كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب