ثقافة وفنون

«مَحفَّة النار» للناقد العراقي ياسين النصير: مُحتَملات البنية الفضائية في شِعر رعد فاضل

«مَحفَّة النار» للناقد العراقي ياسين النصير: مُحتَملات البنية الفضائية في شِعر رعد فاضل

مروان ياسين الدليمي

ينفرد الشاعر رعد فاضل بنصوصه الشعرية المتميزة بخصوصية البحث عن الأشياء التي لا تحيا شعريا، إلاّ في منطقة المابين، حسب تعبير الناقد ياسين النصير، فهو لا يبحث عما هو مألوف من الصور والأفكار، وحتى لو توقف عندها فهو يطلق العنان لتجربته في أن تنفتح عليها بمجازاتها واستعاراتها، ليؤكد حضوره الذاتي في الشكل الفني. ومنذ ظهوره في المشهد الشعري العراقي منتصف سبعينيات القرن الماضي بقي منشغلا بفكرة تحديث القول الشعري جسدا وروحا، شكلا ومحتوى، معتمدا في تكوين نصه على ما لديه من ذخيرة ذاتية، روافدها ينابيع منفتحة على الميثولوجيا والتاريخ والأساطير والفلسفة والطبيعة والواقع اليومي، وهذا ما يمنح نصَّه مساحة شعرية، جماليتها مركبة في أبعادها ودلالاتها. واللقاء المنتظر بين نصه والقارئ، يتحقق في منطقة خاصة من القراءة، تتدرج مستوياتها بين الكثافة والاكتناز، والغور عميقا خارج ما هو متوقع من الصور والكشوفات القصدية.

جديدة ومربكة

في كتابه الصادر عن دار نينوى في دمشق عام 2019 والمعنون «محفة النار… دراسة فضائية في شعر رعد فاضل» يقول الناقد ياسين النصير في معرض حديثه عن تجربة فاضل الشعرية، إن القراءة جاءت جديدة ومربكة معا، جديدة لأنها تبحث عن فضاء التفاعل بين الذات في احتدامها بموضوعاتها، وبالطبيعة بتلقائية تأثير أفعالها. والقاعدتان: الذات والطبيعة لا تُريان كما لو كانتا منفصلتين، أو أن إحدهما تعيش بمعزل عن الأخرى، إنما هما تقومان في بنية ديالكتيكية، محورها العناصر الطبيعبية التي تكون الرؤية الكونية، فتنعكس صورا من تفاعلات: الماء، النار، التراب، الهواء، الضوء، الحرارة، الشجر». الكتاب توزع على ستة فصول وبالعناوين الآتية حسب تسلسلها: استهلال نظري، رؤى فلسفية، مخاض الشعرية، المُعتِم الُمضيء، فضاءات كونية، أعذاق ميثولوجية.

وجهة نظر خاصة بالشعر

يستهل النصير الفصل الأول قائلا: «هذه ليست مقدمة عن الشاعر رعد فاضل، إنما هي مقدمة لوجهة نظر خاصة بطريقة تناولنا للشعر، سيكون رعد فاضل البوابة لظاهرة يشترك فيها معه عدد آخر من الشعراء المتقاربين إبداعا أو أعمارا أو تجربة». هكذا يرى الناقد الذي عاين مشغل الثقافة العراقية رصدا وتحليلا وتأويلا منذ أكثر من خمسة عقود، فاستحال رصيده إلى معرفة عميقة، لها مجساتها، التي تمنحه القدرة على النفاذ خلف الظواهر، واكتشاف جواهر النصوص وأصالة التجارب الإبداعية. ولمَّا توقف عند تجربة رعد فاضل لم يقرأها منفردة، ومعزولة عما يحيطها مثلما أشار إلى ذلك، لأنه يرى أن الكتابة النقدية عن أيما شاعر لا يمكن أن تؤدي وظيفتها ضمن إنتاج الشاعر الواحد نفسه، إنما تكون المنهجية الإجرائية أقرب إلى التحقق المنهجي عندما تضع في الوقت نفسه شاعرا أو أكثر جوار الشاعر الأساس الذي يتم تناوله، وأية فكرة نقدية مستخلصة من الشاعر موضع الدراسة لا تجد كامل تحققها في الشاعر الواحد، ربما ستجد نقيضها لدى الشاعر الثاني أو الثالث، وربما ستجد تطويرا لها عند الشاعر الثاني أو الرابع، وربما ستجد من يخالفها عند عدد من الشعراء، وفي هذا السياق يؤشر إلى النقد العراقي بأنه قد اتسم بالشخصانية في كل المراحل، وأغفل دراسة الظاهرة، مستبدلا إياها بدراسة الشاعر، ولهذا عند تناوله ظاهرة «العلاقة بين الجسد والطبيعة والأشياء» في شعر رعد فاضل، يؤكد أنه وضع إلى جواره الشعراء، رعد عبدالقادر، هاشم شفيق، وعدد آخر من شعراء السبعينيات، لأن ثمة مشتركات عليا بينهم نزلت في قصائدهم بطرق تنفيذية مختلفة، وهذا يعني من وجهة نظره أن ثمة رؤية بؤرية كونية لهذه الظاهرة، لا تعالج بطريقة واحدية، ففي كل معالجة تجد نفسها في تمظهرات بنيوية مختلفة.

نقدية فضائية

يصف المؤلف محاولته النقدية هذه بأنها دراسة فضائية انطلاقا من قناعته بأن النقد يبقى خاضعا للتجريب والمران وليس للدرس التعليمي، والنقدية الفضائية تعيد للزمن حضوره من خلال إعادتها للمكان، والفضائية كما يصفها، هي المابينية للزمان وللمكان، هي ما ينتج عن الصراعات الاجتماعية، ولكن لن يؤدي إلى أي انحياز لأيما طرف من أطراف الصراع. والنقدية الفضائية، الكتابة بيدين اثنتين كما يقول دريدا: هما يدا الزمان والمكان، أي لا يقال شيء دون أن يكون القول فضائيا. ويوضح المؤلف أن ما يقف وراء محاولته النقدية في هذا الإصدار هدفان :الأول، تأكيد التصور عن كيفية المعالجة الفضائية للنص، والثاني، تأكيد ما سماه سابقا بحركة ثانية لقصيدة الحداثة الشعرية العربية.

شعرية منفتحة

النصير لا يتخلى عن طروحات النقد السابقة، بل يؤكد أنه يحركها باتجاه مغاير، لأن أدوات بحثه مغايرة، فهو يرى أن نقد الشعر لم يبحث بجدية في الشعر بعد حركته الأولى، كونه عدّ كل نتاج شعري حديث منتميا لحركة السياب ونازك ورعيل الحداثة الأولى، وهذا من وجهة نظره إجحاف كبير بحق التجارب المجتهدة التي اختطت طريقا مغايرا لكلاسيكيات القصيدة الحديثة، وهنا يَطرَحُ سؤالا يجده جوهريا: هل ما زالت الشعرية العربية ضمن منطق حركة الحداثة الشعرية الأولى قائمة، أم أن ثمة تطورا بنيويا جرى على بنية ومفردات تلك الحركة وجعل من الشعرية العربية الحديثة مجالا لأن تغتني بكشوفات الحداثة وما بعد الحداثة وبإنتاج طرق فنية جديدة مكنت الشعرية من أن تتغلغل في أبعاد نفسية واجتماعية، غير تلك التي تعاملت معها قصيدة حركة الحداثة الأولى؟ وفي معرض إجابته على السؤال يوضح النصير بأن ثمة تجارب كثيرة خلخلت طرائق قصيدة الحركة الأولى، فالشعرية الحديثة منفتحة وليست منغلقة، وهنا يقول إن ما يكتبه عن رعد فاضل لا يخص رعد فاضل وحده، وما يكتبه عن هاشم شفيق ورعد عبد القادر وكريم كاصد وفوزي كريم وكاظم الحجاج وغيرهم، ليس خاصا بهم فقط، بقدر ما هو تلمس منهجي لتطورات القصيدة الحديثة، خاصة بعد ظهور تيارات شعرية مهمة ومختلفة، يمكن أن تشكل بتنوعها، الأرضية الجديدة لقصيدة الحركة الثانية للحداثة، وقصيدة رعد فاضل كما يقول عنها، ضد القصيدة الشعرية المكتوبة بقافية وروي وبيت منضبط ودقة في السياق، لذلك كتبها بطاقة النثر الشعرية لمرونة صوره وسيولة مشاعره واختلاط أحاسيسه، لمواجهة الطبيعة والعالم الخارجي بأداة مغامرة متمردة وحرة.

التردد الخلاق

وفي ما يخص العلاقة بين الفلسفة والشعر، يرى النصير أن من ميزات الفلسفة أنها لا تميز بين اللغة الشعرية واللغة العادية، ولذلك فهي منتشرة في اللغة كالهواء، تغذي كل عناصرها وتتغذى منها غير أنها لا تنزل بالشعر إلى مرتبة العادي ولا تجعل منه ميكروفون لجهة ما، ولا يكون دعاية لمناسبة ما، أيا كانت هذه المناسبة، وفي شعرية رعد فاضل لم تغب الفلسفة عن منجزه، حتى وإن لم تكن مقصودة لذاتها، لأن الفلسفة تستبطن الشعر، وكلاهما سؤال، لذلك ستكون الفلسفة جزءا مهما من هذه الشعرية. ويضيف في هذا السياق أن نصوص رعد فاضل الشعرية لها بعد فلسفي قد يقترب من كتابة الحِجاج المنطقي حين يعمد إلى بناء أي مقطع من مقاطعه الشعرية على نقيضين، وهي سمة تكاد تكون ملازمة له، وفيها نعثر على هذا التردد الخلاق بين أن يكون الشاعر مع أو ضد، هنا أو هناك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب