«الكراكي» واستعادة الزمن الفلسطيني
علي حسن الفواز
يذهب الروائي حسن حميد إلى الذاكرة، وإلى المخفي منها ليستعيد حلم الفلسطيني بالوجود، حيث يصطنع الوجود السردي تمثلات تؤدي وظائفها اللغة والتخيل، وتقانات الروي الحديث في التجريب والأرخنة، وفي توظيف الميتا سرد كإجراء للحفر في تلك الذاكرة، من خلال رموز دالة في شيفراتها، وفي بعدها الصياني، فالصندوق والكتاب/ المخطوطة والجد والاسم تتحول إلى بنى مولدة، تدخل في صياغة النص الروائي، وفي إحياء القصص الصغيرة والحكايات، كإحالات نفسية للوجود إزاء مهينات الغياب والاحتلال، وكذاكرة حية تواجه رهاب المحو والحذف..
في رواية «الكراكي» الصادرة عن دار دلمون/ دمشق 2023 الطبعة الثانية تحضر الذاكرة الفلسطينية بوصفها قوة فاعلة، ووجودا له مدوناته التي يحفظها الأجداد للأحفاد، وعلى نحو يجعل من لعبة السرد خيارا «قصديا» لكتابة تاريخ ضدي له شهوده – الجد والوثيقة»، وله الهوية التي تتمثلها العلامات الغاطسة في شيفرات المكان، وفي أصوات الرواة، وفي سيرة الجد، وهذا ما يجعل التلازم بين الحلم والوجود، البروتوكول السردي الذي أراده الروائي عنصرا تمثيليا في تشييد وتدوين شهادته، من خلال ما تصنعه اللغة بوصفها وجودا موازيا..
الجد «إلياس الشمندوري» هو البطل التأسيسي، إذ يلعب صندوقه وكتابه دورا محركا للأحداث، وكاشفا عن الخفايا، حتى يبدو وكأنه النظير الحافظ لذاكرة الفلسطيني، وبقدر ما يبدو فعل «العثور» على الكتاب في صندوق الجد جزءا من لعبة السرد، فإن الروائي جعله رهانا وصفيا على إحياء فكرة الكشف، وأداة لتفجير الزمن السردي الغابر بوصفه تمثيلا للزمن الفلسطيني «هذا كتاب عثرت عليه في صندوق جدي إلياس الشمندوري الذي عاش في الأزمنة الغابرة، وكان من القرائين والكتبة المعدودين آنذاك». هذا التلازم بين زمن الجد والزمن الفلسطيني يؤكد فكرة «الحفظ» للسر، وصورة البطل الذي يضع سحره وخلوده في الأشياء التي يتركها، على طريقة سر «الملك ريتشارد» حيث يملك الكاشف عنه قوة الخرق، وحيث تتحول ثيمة فتح صندوق الجد أو كسره إلى قوة لخرق «المسكوت عنه» في التاريخ الفلسطيني، وإلى قوة ضافية لمواجهة الغياب، وإلى أن الأجيال الجديدة من الفلسطينيين تملك القدرة على تجاوز الخوف الميثولوجي لتمارس وعيها الوجودي عبر شيفرة «كسر الصندوق» بوصفها كناية عن فكرة الخرق، وعن استدعاء رمزيات المعرفة والأسرار والوثائق والسير.
البطل/ الحفيد/ الراوي ليس بطلا ضديا، بل هو ما يمكن تسميته بـ»البطل التكميلي» الذي يواصل سيرة الجد، عبر جرأته على كسر الصندوق الميثولوجي كإشارة للقوة الخالقة، ولامتلاك شيفرات الوعي العميق في تمثيل هذه القوة، ولما تُحيل إليه، كما أن الكتاب المحفوظ يتحول بعد نشره إلى خطاب وخريطة، وأن سردية النشر تكتسب دلالتها، من خلال فضح ما يحمله المخطوط من أسرار تتحول إلى توليد وجودي للمعنى، ولخيار البقاء، وحتى الإشارة إلى أن «أربعين جدا تهيبوا من فتحه» تدخل في سياق هذا الفضح، فهي تلميح إلى علاقة التهيب في الغلق بأزمنة الهزائم والانكسارات والعزل والانتهازية..
السرد وإحالات الأمكنة
حسن حميد من أكثر روائيينا العرب اهتماما بتقانات المناورة في السرد، فتوظيف الميتاسرد والسرد الذاتي والتداخل الأسطوري والعجائبي تدخل في خلق بيئة سردية تتولى توليد أنساق ظاهرة ومخفية، من خلال ما تؤديه لعبة السرد واللغة من وظائف خارقة، وبما يجعل هوية السرد هي الأكثر تعبيرا عن الهوية الوجودية للفلسطيني، وعن علاقة هذا الوجود بالمكان فـ»قرية الصبيرات» القريبة من حواضن بحيرة طبريا، تتحول إلى مكان توليدي، له إحالات يوتوبية في الجغرافيا والتوصيف، حيث ارتباط الأسطورة الأمومية بفكرة الخلق والماء، وفكرة الموت بفكرة الإحياء، وفكرة الديني بفكرة الوجودي، وربما بسيرة المقدس، حتى يبدو الجد الحكاء «الشمندوري» أو عبودة» كما أطلق عليه الأب «طنوس» بعد التعميد، صانعا آخر للحكايات، له شغف الروي والحب الذي تعلمه من الراهبة «ماريا» ليكون وجوده المركب تمثيلا لصورة الكاهن والراوي، الذي يؤنسن الحكايات، فيصطنع لها عبر لعبة الحكي عوالم وسيرا، ليست بعيدة بدلالتها عن تمثيل حكايات وسير الفلسطينيين في أمكنتهم التاريخية والأسطورية..
إحالات الأمكنة هي إحالات للوجود، ولتقويض ميثولوجيا الغياب التي يفترضها الآخر، حتى تتحول سرديات «الجد عبودة» في هذا السياق إلى ثيمة رمزية، تجسد الأفق الذي تتمثله فكرة الوجود، بوصفها جوهر فكرة البطولة، عبر الصراع بين البقاء والإخفاء، وعبر القصدية التي تتمثلها صناعة الخطاب وارتهانه إلى لعبة الحكي، وإلى أسطرة معاناة الجد في المكان، بوصفها نظيرا لمعاناة الفلسطيني، ولرمزية وجوده وتمثيله لأسطورة التضحية التي قدمها السيد المسيح الفلسطيني، مستشرفا تاريخا طويلا من المعاناة والعذاب، الذي يصنعه العدو القديم المسكون برهاب الطرد وقتل الآخر، ويعيش تداعياتها أبطال لا تقل واقعيتهم عن ميثولوجية الحكايات، فهذه الشخصيات تعيش محنة الهجر والفقد والحرمان، وكأنها تمثلات قدرية تلاحق الفلسطيني في التاريخ والميثولوجيا والواقع..
حكايات «هدلا وعزيز» و»عبودة وماريا» و» الزهروري والغجرية» تكشف عن محنة الشخصيات، وعن الأمكنة المكشوفة على سرديات النفي الوجودي والعزل، وأن حيوات تلك الشخصيات تعيش الاضطراب بوصفه تمثيلا لوجودها، ولما تعيش فيه وهي مسكونة بهواجس الإخفاء، إذ يتحول هذا الإخفاء إلى تورية، وإلى إشباع رمزي، وإلى استغراق يستعيد من خلاله الفلسطيني سيرته في أسفاره الصعبة، وفي أمكنته التي كثيرا ما تتحول إلى دوستوبيات تتبدى من خلالها بعض مظاهر الاضطراب التي تعيشها شخصياتها، حيث الخوف والخطف والجنون والموت، كما حدث لـ»هدلا» بعد ضياع زوجها في الغربة، وكذلك ما حدث للزهروري بعد فقده لحبيبته «فضة الغجرية» وما حدث للأب «طنوس» بعد خطف زوجته وغياب ابنته..
المكان الفلسطيني والسردية المسيحية..
لماذا اختار الروائي حسن حميد لروايته البيئة المسيحية؟ وكيف جعل أغلب أحداث الرواية تدور في عالم كنائسي غامض؟ وهل ثمة علاقة بين شخصياته الأضحوية وسيرة العذاب المسيحي؟ قد تبدو هذه الأسئلة مثيرة للجدل، وباعثة على شيء من الغرابة، بوصف أن سيرة الفلسطيني هي سيرة جامعة، تشتبك فيها كثير من الهويات المقتولة، فتعيش مصائرها عبر معاناة مشتركة، وعبر وجود حافل بسير الضحايا، وحكايات الباحثين عن المخفي في الذاكرة الفلسطينية. من الصعب جدا مساءلة الروائي عن قصديته، وعن إجراءاته، فبقدر ما أجد أن هذه الاختيارات تدخل في إطار حيوية الروائي الأنثروبولوجية، فإنها تدخل في إطار تنامي لعبة السرد، وفي خلق بيئة سردية يتمثلها «مخطط الرواية»، إذ استطاع تمكّن الروائي من تقديم أحداث تتجوهر حول المكان الفلسطيني، وتتمثل هويات شخصياته التي تعاني من أزمات وجودية مع المكان، قوامها النفي عنه، أو العزلة فيه، ورغم أن بعضها يتلبسه الغموض، إلا أن كشف النسق المضمر الخاص بـ»الكتاب/ المخطوطة» يُسهم في تفجير الأحداث، وفي فضح ذلك الغموض، وتعرية أسباب المعاناة التي تعيشها تلك الشخصيات الأضحوية، بوصفها شخصيات «مكانية» تلجأ إلى المقدس للتطهير والخلاص، فالقاتل القديم الذي يخطف ويغتصب ويدنس ويطرد ويستولي على الأرض، هو العدو الجديد ذاته، الذي يواصل قتل الفلسطيني المسيحي والمسلم في القدس وبيت لحم أو في غزة والخليل، وعبر تمثلات جعلها الروائي أكثر انحيازا لتقانات الرمزي والسيميائي، فهي تحمل مع إحالاتها الرمزية بُعدا تتجوهر فيه محنة الإنسان، وعذاباته وهو يواجه عنفا وجوديا ينزع إلى طرده وتهجيره، وإفقاده شرطه الإنساني في الحب والحرية والأمل، فحكاية الفقد هي الثيمة الإحالية التي عمد الروائي إلى تكريسها في التعاطي مع مصائر شخصياته، حيث يعيشون معها هواجسهم المرعبة.
الروائي وتقانة التشكيل السردي
نزوع الروائي حسن حميد إلى المفارقة السردية، يكشف عن ما يشبه التقويض الكرنولوجي للسرد، فاعتماده لعبة التحفيز اللفظي في الرواية ينطوي على دلالات نفسية، وعلى إحالات تدخل في سياق تنمية التشكيل السردي، حيث تتنامى وظائف الفعل السردي مع تنامي تقانات الأفعال والأسماء والاستعارات، وعلى نحوٍ يجعل الحدث مكشوفا على إضافات، لا تخرج عن السياق، لكنها تبدو مخادعة، وبهدف تحفيز القارئ، ورفع التوهم عنه إزاء ما سبق أن رواه، لنجد في إدخال «الاستدراك» تجديدا للسرد، ومناورة تقوم على جذب الانتباه، وإلى ما يشبه استدعاء الاغتراب في الكتابة، حيث توحي الدلالة باليقظة وبالتوضيح..
كما أن إخضاع لعبة السرد إلى ثنائية «المتن والهامش» توحي بانحياز الروائي إلى القصدية في توظيف ذلك الاغتراب، بوصفه السردي، أو بوصفه الفلسفي، إذ تتحول تلك اللعبة إلى رهان واع على التجديد، وعلى إعطاء الهامش السردي قوة ضافية، يعمد من خلالها إلى تشظية بنية السرد، وإعطاء الروائي/ المؤلف حضورا في التأليف، فهو ليس حكواتيا، إنه مؤلف يمكنه أن يستدرك ما ورد في المخطوطة، وما يرويه الرواة، أن يصنع هامشا للمتن المركزي، حيث يصطنع عبر هذه المفارقات نصوصا موازية، تعزز فيها لعبة السرد، وتكشف عن رؤية السارد، ما يجعل من نصه لا متناهيا، مفتوحا ومكشوفا مثل سيرة الفلسطيني ذاته..
العنوان ورمزية الحماية..
لا شك أن عنوان الرواية بدلالته الموحية يذهب إلى ما يشبه الاستعارة السيميائية، على مستوى التوظيف، والإجراء، أو على مستوى الإشارة إلى تمثيل الوجود عبر حمولاته الميثولوجية التي دونتها أساطير الفلسطيني، وما تسرب منها عبر مخطوط صندوق الجد الشمندوري. فـ»الكراكي» من الطيور المهاجرة، لكنها تملك غريزة العودة إلى «أوطانها» وكأنها تعود لتؤكد وجودها وعلاقتها السحرية بالمكان، وهذا ما جعل الروائي يدخلها في تمثيل ميثولوجي، له علاقة بطقوس حراسة المكان والوجود، وكما وصفها «الأب طنوس» في الرواية بـ»أنها خراف السماء، خراف النبي، إنها عنوان الأمن والأمان، ومعنى الطمأنينة والسلام، إن حضرت حضر الأمن والأمان والسلام، وإن غابت، غاب الأمن والأمان والسلام».
وحتى العنوان الثانوي «عتبة لا بد منها» تدخل في صياغة تمثيل حركة السرد في الرواية، إذ يكشف من خلالها الروائي عن مفاتيح لعبته الروائية، التي تبدأ بكسر صندوق الجد، وقراءة مخطوطة كتبه القديمة والغابرة، والتي تتحول عبر السياق السردي إلى وثيقة لا واعية لاستعادة هوية الذات السارد، والتعرّف على التاريخ، حيث تتفاضح من خلاله مصائر الشخصيات، بوصفها شخصيات الزمن الفلسطيني، مثلما تتبدى عبره حيواتها الصراعية وهي تسردن وجودها عبر الحكايات والقصص التي تؤشر إلى فكرة البقاء. تكتسب عتبات العنوان الروائي أهميتها من خلال اشتباكها مع وقائع الرواية، ومع مصائر شخصياتها، فالحارس الميثولوجي يعيش الحب مع المكان، والشخصيات الروائية التي تعيش رهاب الاستلاب، تجد في الحكي شغفها، فتتقصى طقوسها، كاشفة عن معاناتها، وعن عزلتها وعن رمزية بقائها، من خلال استعادتها للغائب عبر الحب، إذ تحمي ذاكرتها عبر تنامي هذا الحب، فتعيش معه حلم وجودها، وشغف تماهيها مع الغائب، وهذا ما يجعل حكايات الفلسطيني القديم تتشاطر مع سيرة القديسين، ومع أسفار طيور الكراكي في عودتها إلى تخوم المكان الفلسطيني قرب بحيرة طبرية، إذ يصطنع عبر طقس العودة من الهجرات نوعا من الحماية الميثولوجية للعاشقين، ولترقب الغائبين، والتواصل عبر إيقاظ الذاكرة لكي يواصل الفلسطيني رهان سردياته على الوجود، من خلال حكاياته وأسفاره وصناديق أجداده.
كاتب عراقي