ثقافة وفنونمقالات

“حديث الفجر ” بقلم  خضير بشارات-فلسطين-

بقلم  خضير بشارات-فلسطين-

“حديث الفجر “
بقلم  خضير بشارات-فلسطين-
هجمة دموية يرتكبها غزاة العصر الحديث ، يقتلون ، و يقتحمون ، يحرقون المنازل قبل خروج من يسكنها ، يلقون الصواريخ و القنابل على الأبرياء و على الحجر قبل الشجر ، استباحوا كل ما يدب على الأرض أو ما يحلق في السماء، حولوا مدن الضفة إلى قطع من اللهب ، كما غزة التي لازالت تئن من وجع الاحتلال و ألم العرب الذين تخلوا عنها ، فمع منتصف ليلة الثلاثاء اقتحم المغتصبون أرض طمون من جديد تسبقهم وحدات الموت الخاصة و الطائرات التي ترمي حقدها بين الأزقة و داخل الحارات النائم أهلها، فتثور الأشجار و النساء و الأطفال و الشيوخ و العجز يواجهون الخطر القادم إليهم بما يملكون من صبر و حوقلة و يضمدون جروحهم بالتسبيح و التهليل و الذكر ،
لم ينم الناس و هم يتابعون الأخبار القادمة عبر الوسائل المختلفة من صفحات التواصل و الراديو و التلفاز و قنوات التلجرام المتنوعة كلها تأتي تباعا من أكثر من منطقة و تشير جميعها إلى الاقتحامات المسعورة لعصابة الاحتلال و ما يتخللها من إطلاق الرصاص و محاصرة المنازل و اعتقالات و تجريف البنية التحتية داخل القرى و المخيمات و المدن و تمطر آلة الحرب الهمجية منازل الأبرياء بالقذائف بكل ما تملك من قوة عسكرية ،
كانت طمون كغيرها من قرى الوطن حاضرة بشهدائها بمقاتليها بأسراها بجرحاها بكل ما تعانيه من عسكرية الاحتلال ، فامتدت يد الغدر الصهيوني إلى الشاب بتي المطارد مع خيوط الفجر فصار الاشتباك الدموي بين الفلسطيني الأعزل و طائرات العدو و دباباته و عصابته المتوحشة التي تقتحم القرية من جهاتها المختلفة لا يعرف أحد من في المنزل لكنهم يتابعون أدق التفاصيل و يدعون له بالسلامة ،
مع ما يقارب السادسة فجرا كان الاحتلال قد أحكم الحصار على المنزل و القرية و ما يحيط بها حيث توغل في مخيم الفارغة و يدفع بتعزيزاته إلى داخله و يغلق الطرق المؤدية إليه،و يطلق رصاصه بشكل جنوني على كل من يقترب من المساحة التي يسيطر عليها ، أطلقت العصابات قذائفها على المنزل المحاصر ، شغل يوسف لتوه كل محطات الأخبار التي يمكن أن تسرب الخبر، حرك مؤشر الراديو نحو محطة الأخبار دون أن تتطرق إلى طمون و من حولها ، انتقل إلى التلجرام ثانية و مرات عديدة و في لحظة و أخرى و هو هائم في تفكيره خول مجريات اليوم سواء الدوام و التوجه إلى المدرسة أو التوجه إلى ما هو أكثر وطنية و انتماء حيث مواكب الشهداء ، ظل جالسا على الكنبة داخل الصالون صوت الراديو لازال يقدم أخبار المحافظات و يتابع و يتقصى الأخبار من داخل طمون وخارجها حتى ظهرت صورة الصديق هاني أبو عاصف موشحا ببلسم الشهداء ، سطر اسمه كل الصفحات الخاصة و العامة ، فكان شهيد الغجر الذي انهك جيش الاحتلال بمواجهته و الاشتباك معه ، صور تعبر عن حقد الصهاينة و هم يضربون نارهم نحو الشهيد ، اشتاط غضبا لما يتدحرج من صور للشهيد و آثار المنزل الذي عاثت به آلت الحرب المسعورة ، طاقية لم يعرف له شكل خزقتها شظايا الموت ، لم يعد لها من اسمها ما يدلل عليها، مليئة بالثقوب كانت الضربات على راسه فلم نر لها إلا بقايا الجوانب و جزءا من مقدمتها المعفر بالتراب و أقلت منه رصاصات الحقد الأسود أما سقفها فقد امحى نهائيا لا يبقى منه إلا خيوط سوداء لتعبر عن الهجمة الشرسة التي شنها العدو على من لبسها لزمن طويل ، فهي الوفية له و الراثية لصاحبها،
أعاد لنا مشهد المنزل صور العظماء الذين يقاتلون لآخر أنفاسهم فتبقى أياديهم تضرب بما تملك من قوة وجوه الغزاة وحوش العصر ، فهو يشبه القائد السنوار الذي ضرب العدو بعد استشهاده ، أظهرت الصور التي تأتي تباعا طبعية القصف الجنوني الذي أصاب المنزل المتحصن به الشهيد ، اخترقت القذائف نوافذه من كل الجهات، الرصاص خزق الحيطان حتى الأفق الذي يخيم عليها لم يسلم بل ذُعر من أضواء الجيبات و من هدير الدبابات ، تكومت الكنبايات في زوايا المنزل فهي نالت ما نال من جلس عليها، فقد نفذ منها الرصاص و غيرت ملامحها القذائف و مزقتها ، صار المنزل حطاما ، خلف الاحتلال تحت ركامه شهيدين لم تظهر الأخبار صورة الشهيد الثاني وظل مجهولا ، أعد يوسف نفسه و ألغى فكرة الدوام بعدما نقل المواطنون جثمان الشهيد إلى المشفى حيث بدا الجيش بالانسحاب من القرية مخلفا وراءه القتل و الهدم و التخريب والروع و الفقد ،
خرج من المنزل الكائن في المخفية شاقا طرقات المدينة هادئة الصباح ، يحث الخطوات مسرعا تتلاطم الأفكار في رأسه حول الشهيد ما الذي حدث ؟ كيف استطاع العدو الوصول إليه؟ لم أره منذ زمن داخل القرية شاب وسيم كان بهدوء رحل ، لكنه صخرة كان أمام آليات العصبة الهمجية و بطشها محتدما ، شوارع المدينة تطؤها أقدام الطلبة نحو مدارسهم ، باصات رياض الأطفال تزعج الصباح بزواميرها التي لا تنقطع ، لا يأبه بما يدور حوله ، نقلته سيارة الأجرة إلى الدوار ، عبر الرصيف و توجه إلى المجمع الشرقي الذي يخلو من سيارات طمون ، فصعد في الباص المتجه إلى طوباس فالفرصة أكبر للوصول قبل تشييع الشهيد ، دقائق و انطلق الموكب في طريقة غير الاعتيادية ، فحديث السائق ينبئ عن إغلاق الطريق داخل المخيم ، فآليات الاحتلال لازالت تتمركز داخله ، إذ تحاصر مسجد أبي بكر الصديق فهذه المحاصرة لدور العبادة ليست الأولى، ظلت الأخبار تأتي عبر التلجرام و تكشف و حشية الاحتلال شهداء في طمون تتقدم الجرافة و تحمل جثمان الشهيد الذي لم تعرف هويته بعد ، إجرام الصهيونية يظهر بكل صوره ، فهي تنقل بالشهداء و تمثل بهم بعد استشهادهم على مرأى العالم الظالم الذي لا تحرك إنسانيته، قصف جدبد في منطقة الشهداء و توغل في قباطية و اشتباكات عنيفة في مخيم الفارغة و مداهمات في مادما و بوربن ، وحشية الاحتلال تكرسها عصابة الاحتلال و حكومته الفاشية بحق الأبرياء في كل حين و قد استباحت كل الجغرافية الوطنية الفلسطينية،
لم يكف السائق عن الحديث ، فهو كبير في السن أتعبته سنوات العمل ، غير راض لما يحدث ، ينفث أنفاسه المرهقة منذ صباح اليوم ، و يشكو من عبثية العمل في ظل الأوضاع التي تسود داخل محافظة طوباس وخارجها إلا أنه قال معقبا على سؤال أحد الركاب : لا يوجد إضراب داخل المدينة فليس هناك ما يوجب ذلك ، فهذا أقلق يوسف لأنه لا يبالي بشهداء الصباح الباكر في القرى المجاورة ، وتابعت السيارة مسيرها ، تتخطى أزمة المارة عبر الطرق المختلفة ، يسرح في ذهنه أيواصل الطريق إلى المشفى ؟ حيث الحشود التي تؤمه إكراما للشهيد أم أنه يتوجه إلى طمون وينتظر مع إخوته حضور الموكب المهيب ؟
في المخيم كل شيء مختلف ، رهبة الأوضاع تنتشر إلى جوانبه، تجريف الطريق الرئيس ، الفضاء لم يعد متسعا و هادئا ، لا حضور للطلبة في الشوارع أو في مدارسهم ، الخطر يحيط بكل ما يدخل المنطقة التي أعلن العدو أنها عسكرية ، هذا يتضح شيئا فشيئا مع توغل السيارات إلى منطقة عين الفارعة حيث يسلك السائقون طريق فرعية وهي أكثر سوءا من الشارع العام فجزء منها غير معبد و تحيط بها المنازل ، لا أرصفة لها و ضيقة ، أبواب المنازل المحاذية تفتح أبوابها إلى وسطها إضافة إلى السيارات التي تقف بجانب الطريق ، و أصحاب المنازل الذين يتنقلون بين أشيائهم المتناثرة هنا و هناك فتعيق الحركة ، سرب من السيارات ينتظر عبور الشاحنة التي أغلقت الطريق و لم تعد قادرة على الخروج مضت الدقائق الحرى و الناس ينتظرون الفرج ، والاحتلال لازال يضرب في قباطية و منطقة الشهداء وداخل المخيم، إضافة إلى كل المدن الفلسطينية المستباحة منذ عقود ، شهداء في كل مكان في غزة في الضفة في الجنوب اللبناني الصامد في وجه نازية العصر الحديث ، غيرت الشاحنة مسلكها إلى طريق أقل ضيقا لتبتعد عن خط السيارات مما سهل الحركة خروجا و دخولا ، الأنباء لازالت تتحدث عن محاصرة المسجد داخل المخيم و صور الجرافة لم تغب عن التلجرام و هي تحمل شهيد طمون و تنقله إلى جهة مجهولة تخطت الساعة الثامنة صباحا و لازال اسمه غير معروف ، بصعوبة تخطى السائق الحفر و السيارات و لا تبعد عن لسانه الكلمات التي تعبر عن فوضى الأخلاق التي يحضرها الناس في كل تصرفاتهم اليومية ، اقترب من الشارع الرئيسي و أعطى إشارة الغماز لجهة اليمين ليطلق لسيارته العنان ، و كان يوسف قد اتخذ قراره بعد الحديث مع محمد أن يترجل على مفرق طمون ، لم تمض بضع دقائق حتى راح ينتظر السيارات الداخلة إلى البلد .
جول بصره في السيارات الخارجة من طمون و الداخلة إليها عله يجد من يقله إلى حيث يريد ، الحزن يلف الأجواء تكاد تمطر الشمس دموعا على من ترجل عن جواده، فارسا مغوارا فقدت طمون ، تأبى الخنوع أمام الهجمة الشرسة التي تشنها عصابات الاحتلال، ففي كل مراحل النضال يهب شبابها و رجالها و نساؤها و حجارتها المقدسة و عقودها المقوسة لتلبية الواجب في الذود عنها و حمايتها ، فشلال الشهداء لم ينقطع و لن يحيد أصحاب الحق عن أهدافهم النبيلة ، فهم دائما متمترسون خلف نهجهم و مقاومتهم السامية و العادلة ،
تتوجه السيارات إلى طوباس فالشهيد لازال في المشفى و الجماهير الغفيرة تتوافد لينالوا شرف المشاركة في تشيع جثمانه عبر طريقها الأخيرة إلى منزله حيث مسقط رأسه ففيه نشأ و ترعرع و تربى على موائد النضال، فسيلقي الأهل، الأم و الأب، و الزوجة و الأقارب و الأصحاب نظرتهم الأخيرة عليه قبل أن ينتقل إلى مثواه الأخير، تهب نسائم الألم مع شعاع الشمس المتدفق شوقا إلى فضاء المنطقة، يوجه نظره إلى محيط المفرق تخوفا من تقدم عصابات الاحتلال فهي متواجدة في المخيم و ليس غريبا عليها أن تنتشر بين الأحراش الممتدة على جغرافية المحافظة أو قد تقتحم إحدى القرى المجاورة من ناحية كشدا أو ربما يعود جنود العصابة إلى المفرق ليقيموا حاجزا عسكريا لتقطيع الطريق و بالتالي تقطيع أوصال المخافظة و هم بذلك يمنعون الناس من الحركة الطبيعية لحياتهم اليومية ، من بين نتوءات النظر و الانتظار توقفت سيارة خاصة بعدكا أشار إليها بيده ، السلام عليكم قال ، رفع السائق الشاب غرضا ما عن المقعد الأمامي و أرجعه جانب الطفل الذي يجلس في الخلف إذ يبدو أنه ابنه ، ورد تحية السلام ، و دعس على محرك سيارته و مشت ، خيم الهدوء داخل السيارة (الكادي) حاول يوسف أن يتعرف على السائق من ملامحه لكنه لم يفلح ، فما هي إلا دقائق حتى تدحرج السؤال على لسانه حضرتك من أين؟ شاح السائق بنظره إلى محدثه لحظة وقال : من عقابا ، و راحا يتحدثان بعبارات التعارف الجديد ، و أمر السائق لمركبته مواصلة طريقها نحو القوربة بعدما سأل ضيفه عن مسار حركته ، و من ثم أعطى إشارة الغماز لجهة الشمال ليتوجه إلى الشارع الالتفافي فهو يقصد عاطوف حيث يعمل ، على مفرق دار أبي شيخة ترجل يوسف بعدما ألقى جمل الشكر و الامتنان إلى السائق و لاح بيده و أغلق باب السيارة و انطلقت بطريقها ، أما يوسف فحمل نفسه إلى المنزل الذي يقبع فيه الأهل لتبدأ مرحلة جديدة من صباح الثلاثاء ، دخله بهدوء يمشي على مهل لم يطرقه إنما اكتفى بصوته وهو يتحرك إلى الطرف الآخر محدثا صريرا خفيفا أثار انتباه من سمعه ممن يجلسون أمام الخزان .
أدى تحية السلام و الصباح معا و تخللهما ابتسامة مصدرها الرضا بفدومه إذ لاقت التحايا و الصباحات و جمل اليقين التي لا شك في صدف من أطلقها ، قال الوالد : براو عليك ، حضور رائع، دارت الجلسة على وقع خيوط الحزن ، فالشهيد يستحق الهدوء في الحديث و الابتعاد عن شعائر رتابة الحياة ، تصدح سماعات المساجد بالقرآن، و تزف الشهداء إلى العلا ، لم يحسن محمد من تسخين بريق الشاي فرشقه أخوه بكيل من الكلمات و أعاد تسخينه ليشرب الكاسة الثانية مع الحديث المر عن مناقب الشهيد ، فهو يعرفه حق المعرفة و كذاك الوالد راح يتحدث عن لقاءاته معه و كيف كان يسرد قصة حياته و هدوءها فقال : كان بتحدث عن حياته الخاصة فهو لم ينجب و كانت الزوج تصر عليه ليتزوج لكنه يأبى ذلك فهو طيب القلب يرضى بما قسمه الله له ، لا يحابي لامتلاك كل ما يمكن الحصول عليه ، والله أنه رجل شهم و خلوق ، في ضوء الحديث الذي لا ينقطع عنه يتابع الجميع الأخبار التي تأتي مباشرة عبر وسائل الأخبار المتنوعة ، قصف عنيف على غزة ، توغل في جنين و مخيمها ، محاصرة الفارعة و ضرب مسجد أبي بكر الصديق، مادما و بورين و حوارة لازال الجنود يعبثون بشوارعهن. ، و يغيرون وجه النهار، لم تعرف هوية شهيد طمون الثاني ، أعمال إرهابية يقوم بها منتسبو الصهيونية غير مكترثين لكل حقوق الإنسان،
تخطت الساعة التاسعة و أعطى ابو يوسف الإشارة للانطلاق نحو مركز البلد لاستقبال الشهيد حيث يتجمهر المشيعون ، فهو قد سمع المساجد تخبر ذلك عبر مكبراتها أو من خلال متابعته إحدى صفحات التواصل ، فاستعد الإخوة الثلاثة و من ثم خرجوا و قد سبقهم ابن أخيهم يوسف إلى المغارة حيث يتجمهر الناس ، الحارة لا زالت هادئة لا أطفال يلعبون ، و لا كبار يتحركون إلى مشاغلهم المتنوعة ، الموظفون يلتزمون منازلهم فالإضراب يعم البلد ، و من العيب أن يكون الدوام طبيعا و قد ترجل فارس و هو يذود عن حماها ، لحق بهم ابن عمهم مصطفى متوجها الآخر إلى شرف الانتساب إلى التشييع ، تكاد حجارة المنازل تذوب كمدا ، فهي تبكي من جعلوا أفكارهم وقودا لتحيا فيها العزة و الكرامة، يسيطر الحداد على معظم المرافق و يمتد بين شوارع الوطن الذي تلون بدم الشهداء ، لم تفتح المحال التجارية، و لا تتحرك السيارات العمومية فلا ركاب يقلونهم، اعتذر مصطفى و دخل إلى منزل أحد أقاربه وقال : سآلحق بكن مع أبي مجاهد، و تابع الإخوة طريقهم ليصلوا بعد لحظات إلى منطقة المغارة حيث الهدوء و الحزن يخيمان على المكان .
لم يكن المكان مكتظا بالناس ، و لم تكن ملامح الحاضرين تعبر عن الجرح الذي أصاب القرية ، هم موزعون كجماعات لكل منها حديثها الخاص، يأتي آخرون بعضهم غير مرغوب فيه ، فيثقل وجوده العيون و حديثه لا يعبر عن صدق مشاعره ، بدأت السيارات تتدفق من جهة القوربة و تطلعت العيون إلى موكبها لتجد الشهيد ، تقدم أربعة مسلحين ملثمين ، واحد منهم يكشف وجهه ، لماذا ؟ لا نعرف السر في ذلك ، لكنه يثير أسئلة جمة، كلهم صغار في السن ، ما أن وصلت بركات الشهيد حتى أطلقوا النار في الهواء ، و انتشرت رائحة البارود ، و تحركت الجماهير في مسيرتها تجوب شوارع القرية و سط الهتافات التي تعلي من صوت المقاومة و تندد بالاحتلال، يتغنى الشباب باسم الشهيد ، و كلما اقتربت المسيرة من منزله تعلو الأصوات و تجلجل التكبيرات فضاء البلد ، و يتراكض الرجال و الشباب و الأطفال وراء الجثمان، تعتلي النساء سطوح المنازل أو ينظرن من نوافذها و يتابعن بحزن و حسرة ، لم يسكت صوت الرصاص حتى بعد أن وصل المشيعون إلى مسقط رأس الشهيد و وداع الأهل الأخير و صراخ الأم و الزوجة و بكاء الأقارب و الأصدقاء ، ليعودوا به إلى مثواه الأخير و تقام صلاة الجنازة في معمعة الفوضى التي لا تليق بالشهداء ، تعلو الأصوات بلا أسباب، يتحاشرون ، يتدافعون، رفع الإمام التكبيرات مرتين ، فساد الوجوم على الجماهير ، و ارتفعت الأعناق لتبصر العيون ما يجري ، مض الزمن مسرعا ، لينقل شهيد الفجر إلى خير منزل و أفضل مكانة حيث الأنبياء والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا، و يرافق مراسم الدفن إطلاق الرصاص و صياح حاجة كبيرة في السن و كأنها أمه يحملها الرجال خارجين بها و يدثرون مشاعرها بكلام المواساة ولكن كيف تواسى من فقدت ابنها ؟
بعد لحظات بدأ المشيعون بالانسحاب إلى حياتهم و أشغالهم يخرجون من المقبرة أفرادا و جماعات يحملون خيباتهم و ينظرون إلى مستقبل ظالم و مظلم لا يعرفون حدود الشمس فيه بعد ، أنسحب المسلحون ، واحدا وراء الآخر ، تعانق بنادقهم سنابل القمح الخجولة ، تحاكي واقعهم ، لم تكن المسيرة هذا اليوم معبرة عن حجم الألم الذي أصاب القرية ، لم تشارك الجماهير بمختلف مشاربها فيها بشكل فعال ، هناك غياب للفصائل الفلسطينية هذا واضح من خلال عدم حضور من يمثلها للأسف ، لم ترفع رايات الفصائل أو العلم الفلسطيني، حتى رايات حركة الجهاد كانت قليلة و مع صبية يرمون بها بين المشيعين ، لا خطابات وطنية، ولا كلمات تمثل المؤسسة الوطنية، و لا رجال يتشدقون باسم الوطن آو الدين ، مرت مراسم التشيع بقليل من الأصوات التي ترتفع حينا و تخفت أحيانا كثيرة ، تخلو المسيرة من السماعات و مكبرات الصوت ، قلة هم من ترى الوهن في ملامهم ،
كانت البلدة و قد تجاوزت الساعة العاشرة صباحا تفتح أبوابها الموصدة ، و بدأ نسيم العمل يخيم على مرافقها بكل جوانبها سوى المؤسسات الرسمية ، فتحت المحال التجارية رزقها ، و توجه الفلاحون إلى مزارعهم ، مروا الإخوة الثلاثة مشاة عبر ممرات طمون الضيقة و الحديث يجرجرهم من موضوع إلى آخر عن الشهيد الذي لم تتضح هويته بعد ، عن تقاعس الناس في تأبين الشهيد الذي خلصوا لتوهم من مواراته الثرى ، عن سلبية الناس الذين لا يبالون بعبث الشوارع ، عن طبقة الفساد التي تسير في رحى الحياة بلا انتباه ، لا ينسون الحديث عن أزمة الأخلاق التي تسبب الكثير من الفوضى المنتظنة و المنتشرة ببن أزقة الوطن، يتبادلون الناس السلام،تطوف الهموم بثقلها داخل القرية و بين أزقتها حول ما يجري ليل نهار و على مرأى العالم من مجازر و حشية ضد الأبرياء في الضفة و غزة و لبنان ، حرقت الصهيونية كل القيم الإنسانية التي يتغنى بها العالم منذ عقود، جاءت الحرب لنكشف كذبهم و تفضح تبعيةالعرب،
أضاعت الحرب كل الفرص المتاحة ، لتعيش البشرية بسلام و هدوء ، فشنت الصهيونية حربها المسعورة على الأبرياء في فلسطين منذ عقود و احتلت أراضيهم بقوة السلاح و بهمجية دول الاستعمار ، فاستباحت ما يمكنها من إقامة كيانها المزعوم ، و مما ساعدها في ذلك تقاعس الأنظمة العربية في مواجهة الخطر القادم من الغرب ، بل و راحت تتسابق في إقامة علاقات سياسية و اقتصادية مع الشر الذي انتشر بين أمتنا العربية ، لتخفيف أزمات الاستعمار من تلك الشرور ،
لم يجف الجرح بعد ، تواصلت صفحات الأخبار مع الجيران الذين شاهدوا عملية الاغتيال ، فتحدث صاحب المنزل عن الجريمة البشعة التي ارتكبها الصهاينة
أغدق بالكلمات التي تعبر عن عمق الجرح ، و ما فعله مجرمو الحرب مع الأرض و الإنسان، فهدموا المنزل ، جعلوا الشهيد أشلاء، أغاروا عليه بقذائف آلياتهم و رصاص حقدهم ، قلعوا أشجار الزيتون فهي تكره صورهم و لغتهم ترفض الاحتلال بكل أشكاله ، تقاومه بصمودها ، يتنهد و هو يرسم وحشيتهم ، يلوح بيديه ليعبر عن المعاناة التي وقعت على الأبرياء الذين يواجهون العدو بصبرهم و صمودهم في منازلهم ، تبدو الحسرة على ملامح وجهه التي رسمت خطوطه عثرات السنين ،
بعد مضي ساعات على عملية الاغتيال أظهرت الجهات الرسمية شخصية الشهيد الثاني فنعاه أصدقاؤه عبر صفحات التواصل الاجتماعي و زاد الجرح في طمون عمقا و إيلاما … و مضت أعراس الشهادة تنير الدروب لكل التائهين عن خطى فلسطين .
6_11_2024م ، الأربعاء ، 36 : 08 ، صباحا .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب