تأملات في مسرحية «في انتظار جودو» : هوامش الخلاص والموت والحرب
رامي أبو شهاب
تأملات في مسرحية «في انتظار غودو»: هوامش الخلاص والموت والحرب
تمثل بعض الكتب جزءاً من هاجس قارئ يشعر بشيء من التقصير والجهل، لتأخره عن مقاربة بعض الأعمال، وإدراك قيمة ما تجود به على مستوى العقل والروح، ويكاد لا يخفى أن كثيراً منا يضمرون سر عدم قراءتهم بعض روائع الأدب والثقافة الإنسانية، ولكن الرغبة تبقى قائمة لمحاولة تلافي ذلك، وهزيمة الزمن عبر الإتيان على بعض تلك الكتب، وفي بعض الأحيان يضرب صفحاً عن بعضها، ويتجاوزها دون ندم بعد أن يشرع في قراءة الصفحات الأولى؛ من منطلق أن بعضها حصل على تقدير مبالغ فيه، لا مجال لذكر أسبابه الآن.
في الانتظار…
لطالما كنت أترقب أن يأتي الوقت لأقرأ مسرحية «في انتظار غودو» للكاتب الإيرلندي صموئيل بكيت الحاصل على جائزة نوبل في الآداب، ومنطلق ذلك شغفي بالأعمال التي تنتمي إلى النموذج العبثي الوجودي، وتحديداً بدافع من قراءة كتاب «اللامنتمي» لكولن ولسن الذي أحاطني بالكثير من الأسئلة، وأفاض في إدراك ما يكمن بأعماق الكثيرين من إحساس بالخواء الذي يلازم الإنسان منذ لحظة وجوده إلى لحظة زواله عن هذه الدنيا.
بعيداً عن توقعات ما قبل القراءة، لقد بدت لي المسرحية – وأنا أعاينها في الزمن المستقطع من متابعة الأخبار- أشبه بتفسير حصار فائض الموت الذي أحاطنا جميعاً منذ أكثر من سنة، وأقصد أسئلة المعنى من الموت، ولاسيما حين يتسرب يأس عبثي في أن هذا الموت لن يتوقف، وفي انتظار أن يتوقف بدا انتظار الشخصيتين الرئيسيتين في مسرحية «بيكت» أشبه بما نعايشه من انتظار ثقيل، فالعذابات على ما يبدو لن تنتهي، وهي عذابات بدت لي جزءاً من قدر الإنسان الذي يحيطه جنون هذا الوجود. لقد شغلت المسرحية إحساسي المتعدد بانتظار شيء ما، كنت أرقب حضور غودو كما يرقب العرب حضور غودو الخاص بهم -ربما ـ كي يعيد شيئاً من الكرامة، غير أنّ انتظارنا طال، على الرغم من أننا نرى جثث الأطفال والنساء، شاهدة على كرامة مهدورة لا تليق بأمة تعدّ من خير الأمم.
يحمل الانتظار بين طياته أبعاداً خاصة، وعامة، فكل ألم يسكن الملايين في هذه الأمة التي تنتظر أن يتوقف الموت، وإحساس بالعجر في انتظار من يُوقف هذا، بيد أننا نرى في مقولة التضحية جزءاً من محاولة الالتفاف على الألم، فنعيد تقديم الشهادة والتضحية لنختبئ خلف عار العجز الممتد عن نصرتهم، بل إننا نحيل الأمور إلى الأقدار والابتلاء، ونتناسى أننا ابتلينا قبل ذلك بالعجز، والجبن، والخنوع، والانشغال بحياتنا اليومية التي ننتظر منها أن تتغير نحو الأفضل عبر وظيفة أو ترقية أو شيء ما من متعلقات الحياة، ونتناسى في غفلة من الزمن واجبنا الأخلاقي، ونختبئ خلف فقدان القدرة، ونحيل الأمور كلها إلى قوى أكبر منا كما تُكني المسرحية في غير موضع.
في معنى الانتظار
هكذا يشغل الانتظار جزءاً من معنى هذا الوجود، فالأمة تنتظر مخلصاً يعيدها إلى الوجود، بيد أن ثمة وجوداً يختلف عن وجود: الأول أشبه بجسد مُفرغ من الروح، لا عقل فيه، ولا دفء، أشبه بجثة باردة، ولكنها سرعان ما ستذوي.. وهي في حالة انتظار، وثمة وجود حقيقي يشغل الروح والعقل، وبينهما تسكن الأخلاق، وربما الكرامة… الكل في حالة انتظار كما في مسرحية غودو حيث ينتظر شخصان شخصاً آخر اسمه غودو… لا يأتي، وفي زمن الانتظار نرى الكاتب الأيرلندي يعرّي الإنسان، ويفضح تهاوي آدميته، أو إنسانيته. ولعل النص لا يمكن أن يستقيم دون وضعه في سياقه، ولكن هذا السياق المسكون بوقائع العالم في القرن العشرين، ومعاناة البشرية من حربين عالميتين، ومخلفات سعار استعماري لم يكن سوى تجسيد قار في سلوك الإنسان الذي لم يتمكن من تحقيق التّحضر سوى ظاهرياً، فما زالت أزماته مستمرة، ولم يطرأ عليها أي تغيير.
لقد تقدمت البشرية كثيراً بُعيد الحرب العالمية الثانية، وجعلت ضمن تكوينها قيمة الحقوق، ومحاولة محاسبة من يوغلون في الدم، غير أنّ هذا بدا أشبه بمقولة لكل قاعدة استثناء، فثمة من ينتظرون العدل والمساواة في سائر شؤون حياتهم، ولكن هذا الانتظار يستمر لأن في غفلة من الزمن أتى استثناء ما، وبقينا في انتظار غودو، وهكذا يمكن قراءة ذلك على المقلب الآخر، نتيجة تعطّل القوانين، خاصة حين يكون المجرم كياناً يسعى الكل لاسترضائه، ولكنْ ثمة أحرار، أو من يرفضون أن يبقوا في الانتظار. تمتثل شخصيتا «استرجون وفلاديمير» إلى هذه المعادلة التي تقترب من الخواء، فثمة إشارة إلى عمق الندم الذي يعني أننا نولد، أو نوجد في هذا العالم… وهذا يقترب من إحساس الإنسان في عالم يفتقر إلى العدالة والمعنى، ولاسيما في غياب الأخلاق، بل إنه كما جاء في المسرحية ما عاد المرء يجرؤ على الضحك، وفي هذا اختزال عميق لما نختبره الآن من إحساس!
حدود العجز
ضمن كتل الأسئلة التي ترزح تحت وطأتها المسرحية، يتقدم فقدان الإحساس بالزمن التي تمثل أزمة هذا العالم، ولكن كيف لنا أن ننام بينما الآخرون يتعذبون- هكذا قال فلاديمير لاسترجون- ولكن يبقى الانتظار، كما يبقى الخوف من تخلي غودو عنهم، فلا تبقى إلا الشجرة، وهي ربما كناية عن الأمل، الأمل للتخلص من هذا العذاب. قد تبدو الفكرة فقدان الأمل، ولكن الأحرار لن يفقدوا الأمل من النضال، ولكنهم ربما فقدوا الأمل من الآخر، أو منا، فنحن الآخر الذي يعني الجحيم، كما يقول سارتر، ومع اندفاع آلة الموت فإنه لا يوجد مجال للتفكير والتأمل، ولكن ماذا عن الحقوق التي يتساءل عنها استرجون قائلاً: «ألم يعد لنا حق؟ (فلاديمير يضحك)».
يبرز القيد أو العجز بوصفه جزءاً من مستويات التشفير الدلالي للمسرحية، فالشعور بأننا مقيدون يبقى معنى مستمراً لأنه يعكس واقع الفلسطينيين الذين يعانون من قيد عميق، أو قيد الاحتلال، مقابل قيد التمسك بالحق، وقيد الحياة، وقيد الموت، وقيد أخوة «لا تغني ولا تسمن من جوع». إننا مقيدون منذ الأزل، ومن هنا تبرز صرخة مستمرة لا يراد لها أن تنتهي، ولكنها مع ذلك تعني الإدراك الحتمي للمعنى العميق للوجود حين يتخلى الكل عنك. تنشغل المسرحية بالرموز الدينية، أو تلك الإحالات التي تختزل كثيراً من وقائع اليوم، والمستقبل، وتبقى قيمة المسرحية بوصفها اختزالاً لقصة الحياة، أو أنها تبحث عن المعنى العميق من الحياة، وعلى ما يبدو أن الصدفة تلعب دوراً في وجودنا، وهو سؤال تحتمله المسرحية حين يتساءل «بوزو» في أنه كان يمكن أن يكون مكان ذلك الخادم، فالقضية ليست إلا مجرد صدفة فقط، فهل يمكن أن نعدّ ما يحصل من عذابات في هذا العالم محض صدفة، أو ربما تكون تعاستنا صدفة، أم لم يعد لنا ما نفعله في هذا المكان كما يقول فلاديمير.
قد تبدو المسرحية نصاً قابلاً لاختبار العالم، وهي قيمة تبدو لي جديرة بالتقدير لعمل يحمل هذا القدر من الإحالات والاختزالات لكل ما تزخر به وقائع الحياة ضمن حوارات شديدة الإحالات الفلسفية ضمن نسق مضمر، وخفي، ولاسيما حين يطفو الموت كي يكتسح كل شيء، فتبدو إحدى عبارات استرجون ضرباً من الجنون أو العبقرية: «نجد دائماً شيئا ما، يا ديدي، لنوحي لأنفسنا بأننا نعيش، ألا ترى؟».
الحصار… والتجاهل
قليلة هي الأعمال التي تواجهنا بهذا القدر من الارتطام في إدراك الألم دون ضجيج، فيكفي أن تسترسل في تلك الحوارات التي تتعالق بالانتظار حتى يتسرب لك ما كان يتوخاه بيكت من عمله الصاعق للعقل، ولعل هذا يذكرني بالحصار في شمال غزة كونه يمثل جزءاً من جنون البشرية، وبذلك تبدو مقولة فلاديمير «نحن محاصرون» … بإضافة عبارة لا مخرج من هناك، وبناء عليه يجب أن يتجه نحو الحفرة… للخلاص. وهكذا ندرك المعضلة العميقة لتعريف الإنسان الذي يبدو أقرب إلى أكذوبة، فليس من المعقول أن نكون شاهدين على مأساة الإبادة الجماعية، ونُبقي على تعريف إنسانيتنا، إنما يجب أن نتساءل عن حقيقتها، فربما هي أكذوبة كما كان يصرخ مصطفى سعيد في رواية «موسم إلى الهجرة على الشمال»، أو لعله العمى الذي تساءل عنه استرجون، فالعمى أفرد له الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو رواية لتكون كناية عن عمى مطلق يغلف منظور الإنسان، وقيمه… وكم تبدو عبارة فلاديمير موجعة حيث يخاطب استرجون، فيقول له: «هل نمت بينما كان الآخرون يتعذبون؟» وكم نمنا نحن العرب بينما الفلسطينيون يتعذبون من عقود طويلة، وربما لم يكن العرب نائمين فحسب.. إنما العالم برمته. وهذا ما يذكرني برواية الروائية الفلسطينية سوزان أبو الهوى حين كتبت رواية «بينما ينام العالم»، فيبدو النوم فعلاً، أو شرطاً كي يتحقق التعامي أو العمى. لا يمكن أن ننتهي من هذه اللعنة التي تطالنا إلا أن نسلم بما خلص إليه بيكت على لسان شخوصه- أننا أمسينا لا نعاني من العمى فحسب، بل أيضاً الطرش والخرس، لنخلص إلى نهاية بسيطة «بأننا ذات يوم ولدنا، وذات يوم سنموت، اليوم ذاته، اللحظة ذاتها» كما جاء على لسان فلاديمير، فلماذا لا نستطيع أن نحافظ على إنسانيتنا إذا كان وجودنا منجزاً ومحدداً، ولا شيء يستحق أكثر من ذلك.
تنتهي المسرحية في مشهد يجمع فلاديمير واسترجون، وهنا في انتظار غودو، كما هم أيضاً العرب في انتظار غودو الخاص بهم، وكما هم الفلسطينيون في انتظار خلاصهم، فتنتهي المسرحية حين بقول استرجون: والآن فات الأوان، ولاسيما أن الليل هبط، فيقول استرجون: «وماذا لو نتخلى عنه؟ وهكذا فلا يبقى أمامهم سوى الشجرة خوفاً من العقاب، فيقول استرجون لفلاديمير: «تعال انظر ماذا لو نشنق نفسينا؟».. وهنا تظهر الشجرة على أنها تمثل قيمة رمزية للنهايات بعد أن تخلى الكل عنهما، أو عنا… ولا يبدو أن استرجون وفلاديمير ينقصهما شيء سوى حبل طويل… كي يتمكنا من شنق نفسيهما، ولكنها يؤجلان ذلك إلى غد… فربما يأتي غودو، ويأتي الخلاص معه!
كاتب أردني فلسطيني