لبنان قيد الامتحان في أيامه الـ60: ملامح واقع جديد و«نموذج» للإقليم بـ«ساحاته الكثيرة»
لبنان قيد الامتحان في أيامه الـ60: ملامح واقع جديد و«نموذج» للإقليم بـ«ساحاته الكثيرة»
رلى موفّق
كل الشرق الأوسط على الطاولة. فـ»حرب لبنان الثالثة» بعد «محرقة غزة»، جعلت الإقليم برمّته في مخاض تاريخي لا يُشبه إلا الولادات القيصرية في انعطافات تطوي حقبات وتهمّ بالولوج إلى أخرى.
في المشهد الكبير: اتفاق على وقف النار وأكثر في لبنان، تحريك لمفاوضات «اليوم التالي» في غزة، عودة سوريا إلى «عين العاصفة»، استدارة إسرائيلية نحو إيران، استعجال طهران التفاوض حول النووي، محاولات العراق ترويض ميليشياته، ومعاودة المداولة في شأن «حوثيي» اليمن.
كل ذلك يجري في ملاقاة عودة «الكاوبوي» القوي إلى «البيت الأبيض» مع تسلّم دونالد ترامب مقاليد السلطة كـ»حاكم بلا منازع» للولايات المتحدة، بعد فوز الجمهوريين بمجلسَي النواب والشيوخ، وكـ»قائد» لعالم ينتظر «الشخصية التي يصعب توقعها» من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط. الكل يُرتِّب ما لديه من أوراق، يسعى إلى تحسينها أو يقاتل من أجل الحفاظ عليها أو عدم خسارة بعضها قبل الوصول إلى لحظة الحصاد.
ولم يكن عابراً أن يُطفئ وهج «الجملة السحرية» بأن ترامب لا يريد حروباً، النار بين إسرائيل و«حزب الله» في المرحلة الانتقالية بين الإدارتين، الديمقراطية والجمهورية، وهو ما عجز عنه جو بايدن في غزة على امتداد أكثر من عام من مفاوضات «الكر والفر» فوق حطام القطاع وفواجعه المفتوح قتلاً وتجويعاً. قد يكون ذلك ممكناً اليوم، أو على الأقل هو الأمل لدى الغزاويين والفلسطينيين بعد وقف إطلاق النار في لبنان، ولا سيما أن الوسطاء عادوا إلى المحاولة من جديد.
ولن يكون مبالغاً القول إن لبنان «البيت بمنازل كثيرة» مرشَّح لأن يكون «نموذجاً» لما قد يكون عليه الإقليم بـ«ساحاته الكثيرة» بعدما خرج من حرب كأنها «أم الحروب»، وعلى حمَّالة دولية، إلى واقع جديد أطل من اتفاق وقف النار و«ملاحقة» الترتيبات الملزمة بقوة الإشراف الأمريكي على التنفيذ، وكتاب الضمانات من واشنطن إلى تل أبيب الذي يقول لبنان الرسمي أن لا علاقة له بتلك الضمانات، وأنه ليس جزءاً من اتفاق الإجراءات أو الترتيبات لوضع القرار 1701 موضع التنفيد بكامل مندرجاته، وهي ترتيبات حصلت على موافقة الحكومة اللبنانية، وكان عرَّابها رئيس مجلس النواب نبيه بري، ليس من موقعه الدستوري، بل من موقعه الوطني ومسؤوليته عن طائفة أضحت بغالبيتها نازحة مشرَّدة، ومن موقع قدرته على التفاوض باسم «حزب الله» والذي حظي بتفويضه. لن يكون بري في موقع التخوين من أبناء جلدته، من جمهوره وأطياف واسعة من الطائفة الشيعية، التي لسان حالها اليوم يقول إن بري سعى إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد النكبة التي مُنيوا بها، والخسارة الكبرى التي أصابت «حزب الله» على مستوى قادته وكوادره وبنيته التحتية وترسانته العسكرية ودوره.
فرح العودة وغصَّة
ورغم انخراط بيروت في وقف النار غداة ليلة ليلاء من الجنون الإسرائيلي وترويع العاصمة بأهلها والنازحين إليها، وفي ما يشبه «سوق عكاظ» سياسية عنوانها «انتصار حزب الله أم انكساره»؟ رافقت عودة النازحين إلى «الخراب الكبير» في الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع، فإن هذا «الشجار السياسي» لم يحجب حقائق مكتوبة تجرَّعها «الحزب»، وسارعت إسرائيل إلى تظهيرها عبر ممارسة «حرية الحركة» قبل أن يجفَّ حبر الاتفاق، عبر ترسيمها بالنار لمنطقة محظور الدخول إليها على الحافة الأمامية الحدودية مع انتظار انتشار الجيش اللبناني، وتنفيذها غارة جوية ضد ما قالت إنه «تهديد وشيك قد يتحوَّل إلى خطر» في بلدة البيسارية في قضاء صيدا، الكامنة خارج خط منطقة جنوب الليطاني. فما أن توقَّف إطلاق النار الرابعة من فجر يوم الأربعاء الماضي في 27 تشرين الثاني/نوفمبر، حتى كانت مئات الآلاف من السيارات تُدير وجهة سيرها نحو الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت. العائدون الجنوبيون إلى قراهم، وديارهم، وبيوتهم، وأرضهم، وشتلة التبغ، وبساتين الليمون، وحقول الزيتون، كان همّهم إعلان وقف إطلاق النار من أجل العودة. لم يُعيروا الانتباه كثيراً لما يتضمنه الاتفاق، وما هي نتائجه المستقبلية. ذهبوا بشكل عفوي وعاطفي وتلقائي صوب قراهم ملؤهم الفرح، ولكن الغصَّة ملأت قلوبهم حين رأوا حجم الدمار والتدمير. خاب ظنهم بإمكان دخول قرى الشريط الحدودي التي أصبح بعضها أثراً بعد عين؛ فالاتفاق ينصُّ على انسحاب تدريجي. ويعتبر الجيش الإسرائيلي أن أي دخول إلى القرى التي احتلها أو سيطر عليها بالنار هو خرق للاتفاق. فلديه وفق تفاهمات الاتفاق مهلة 60 يوماً حتى يُتمِّم الانسحاب ويدخل محله الجيش اللبناني، حتى إن خط جنوب الليطاني تمدَّد إلى بعض القرى التي تقع شماله، بما عُرِف في الخريطة المرفقة بالاتفاق، بخط 2024 الجديد. لم تكتمل فرحة أبناء قرى الشريط الحدودي، لكن ليس في يدهم حيلة سوى الصبر على ثقل وقع الانتظار.
انسحاب.. وتفكيك.. ورئيس
فمن فوق ركام سرديات «توازن الردع» والقرى التي سُـوِّيت بالأرض، وأنه «من الأسهل نقل الليطاني إلى الحدود من انسحاب حزب الله إلى شماله» وركام البيوتات وجنى العمر وأشلاء الأحبة، ارتسمت ملامح واقع لبناني جديد عبر «اتفاق وقف الاعتداءات» والمباشرة بتنفيذ القرار 1701 زائد تتمات عملانية وسياسية.
العنوان الأبرز في ملامح الواقع الجديد هو انسحاب «حزب الله» من جنوب نهر الليطاني بسلاحه الثقيل وبنيته التحتية إلى شمال النهر، بالتزامن مع انتشار نحو 10 آلاف جندي لبناني في منطقة الـ1701 في مهلة 60 يوماً تكون إسرائيل تراجعت خلالها إلى خلف الخط الأزرق. تُشكِّل مهلة الـ60 يوماً اختباراً حقيقياً لمدى التزام الحكومة بالاتفاق وبالقرار السياسي لانتشار الجيش، كما قدرته ونجاحه في الإيفاء بما تتضمنه الترتيبات التي تُشكِّل «خريطة طريق» لتحويل لبنان إلى دولة كاملة الصلاحيات، تبسط قواها المسلحة الشرعية سلطتها على كامل التراب اللبناني، وهو مطلب الشريحة الواسعة من اللبنانيين التي كانت تناهض منطق بقاء سلاح «حزب الله» ولا سيما بعدما انسحب الجيش الإسرائيلي من لبنان عام 2000، وتحرَّرت الأرض، مع بقاء نقاط خلافية، ومن ثم بعد حرب تموز 2006 وصدور القرار 1701 الذي منع وجود أي سلاح غير شرعي جنوب الليطاني، لكن تمّ تفريغه من مضمونه بفعل موازين القوى التي أدت إلى تواطؤ بين كل الجهات المعنية بتطبيق القرار. واليوم يعود اللبنانيون إلى التطلع مجدداً لالتقاط فرصة تطبيقه بما يحقق المصلحة اللبنانية.
ويأتي تجفيف مصادر سلاح «حزب الله» عنواناً ثانياً في الواقع الجديد المرتجى. وهو مرسوم له أن يتحقق عبر إجراءات حدودية مع سوريا، وحض دمشق – بالدبلوماسية أو بـ«العين الحمراء» – على قطع الجسر الممتد من طهران إلى البحر المتوسط، وعبر تفكيك أي بنى تحتية لأي سلاح غير شرعي على امتداد الخريطة اللبنانية. على أن تفكيك البنى التحتية العسكرية خارج جنوب الليطاني سيشكل تحدياً أكبر للجيش، ذلك أنه يتطلب تدعيم الغطاء الفعليّ من السلطة السياسية. وسيحتاج ذلك إلى تفاهمات داخلية بدأت أصوات داخلية تؤشر إلى أن طريقها هو البحث في استراتيجية دفاعية كانت وُضعت على الرف يوم كان «حزب الله» يُمسك بقرار السلم والحرب في البلاد. فقدان الثقة بين المكونات السياسية بأبعادها الطائفية يدفعها إلى الجزم بأن «حزب الله» سيحاول – بكل قوة – العمل للالتفاف على عملية تفكيك ما تبقى من مخازن سلاحه الثقيل والصاروخي في شمال الليطاني ومنعه من بناء قدرته العسكرية. الاعتقاد السائد أنه سيحاول المماطلة وتقطيع الوقت لعل القابل من السنين يحمل معه تبدلاً جديداً في المعادلات.
أما العنوان الثالث، فهو انتخاب رئيس للجمهورية بعد أكثر من عامين من احتجاز هذا الاستحقاق بـ«فيتو» مارسه «الثنائي الشيعي»، الأمر الذي من المرجح أن يتمَّ في جلسة انتخاب دعا إليها رئيس البرلمان نبيه بري في التاسع من كانون الثاني/يناير المقبل، إيذاناً بمعاودة تكوين «سلطة جديدة» بتوازن مرحلة ما بعد الحرب ونتائجها.
خلاصات حرب واتفاق
وبهذا المعنى فإن الخلاصات الأولية لما أرساه اتفاق انتقال لبنان من حال الحرب إلى حال «السلام الموعود»، يمكن رصد أبرزها على النحو الآتي:
• انتهاء «خدمة» جنوب لبنان كجبهة متقدمة للنفوذ الإيراني عبر انسحاب «حزب الله» إلى شمال نهر الليطاني. ومن هنا، يتم الاعتقاد بقوة في لبنان أن هذه الحرب ستكون الحرب الأخيرة على الحدود الجنوبية اللبنانية مع إسرائيل. وبالتالي، خروج الجنوب من أن يكون ساحة وفاعل عسكري في الصراع الإقليمي. ولم تعد الحدود اللبنانية للمرة الأولى منذ عقود أربعة حدوداً بيد إيران أمَّنت لها موطئ قدم على ساحل المتوسط ولاعب في معادلة أمن إسرائيل.
• الاتجاه إلى تقدّم النسخة السياسية على العسكرية في وضعية «حزب الله» الذي وعد بالانتظام تحت سقف «اتفاق الطائف». وهو ما كرَّره بالأمس الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم في إطلالته الأولى بعد وقف إطلاق النار، حيث كرَّر أن «حزب الله» سيهتمُّ باكتمال عقد المؤسسات الدستورية، وعلى رأسها انتخاب رئيس الجمهورية وفي الموعد المحدد، وسيكون عمله الوطني بالتعاون مع كل القوى التي تُؤمن بأن الوطن لجميع أبنائه، وسيتعاون ويتحاور مع كل القوى التي تريد بناء لبنان الواحد في إطار «اتفاق الطائف»، وسيعمل على صون الوحدة الوطنية.
خطاب الشيخ نعيم قاسم جديد على «الحزب» الذي بنى وجوده على «اللباس المرقّط» واضعاً الجناح السياسي في خدمة جناحه العسكري – الذراع الأقوى لإيران في مشروع تمددها في المنطقة – حتى الأمس القريب. الكثير من اللبنانيين يصعب عليهم أن يُصدِّقوا أن «الحزب» يمكنه أن يقوم بالتحوُّل بسلاسة إلى حزب سياسي من دون ذراع عسكرية.
• قيام سلطة متوازنة في لبنان بعد اختلالات عميقة أحدثتها سطوة السلاح وفائض قوة «الحزب»، حيث نجح في تأمين غطاء سياسي داخلي له عبر تحالفات سياسية هدفت إلى تحقيق مصالحها. عاش اللبنانيون على مدى السنوات الماضية نتائج «تحالف الميليشيا والمافيا» انهياراً اقتصاديا ومالياً واجتماعياً، ودفعوا ثمنه ولا يزالون.
لبنان تحت الامتحان وقيد الاختبار. ستون يوماً مصيرية أمامه وأمام الجيش اللبناني لإثبات ليس قدرته على تطبيق القرار، بل على قدرة السلطة السياسية في الإيفاء بتعهدات الالتزام بالآلية التنفيذية والإفادة من الفرصة الدولية المُقدَّمة إليه.
ولعل التطورات المتسارعة في المنطقة والتي انتقل مسرحها اليوم إلى سوريا قد تلعب عاملا مساعداً للاعبيين الكبار والصغار للاتفاق على تحييد «بلاد الأرز» عن أتون المزيد من الحرائق الآتية إلى المنطقة. فخط الدفاع الأول عن إيران في لبنان تمَّ إضعافه، وخط دفاعها الثاني في سوريا يهتزُّ بقوة مع إطلاق معركة «ردع العدوان» التي تشنها فصائل المعارضة السورية المتواجدة في إدلب شمال غرب سوريا كضربة استباقية ضد قوات النظام السوري والقوات الإيرانية وميليشياتها التي شهدت انهياراً سريعاً غرب محافظة حلب، حيث وصلت فصائل المعارضة إلى قلب المدينة، العاصمة الاقتصادية لسوريا. فكما كان ضرباً من الخيال انقلاب حال «حزب الله» في عشرة أيام، يبدو انهيار قوات النظام ومعه الإيرانيون وأذرعهم في حلب في 3 أيام مفاجئ بشكل كبير. وما عاد خارج التوقعات والحسابات أن يشهد خط دفاع إيران الثالث في العراق انتكاسات. يبدو أن زمن المفاجآت يتوالى مع ما تعيشه المنطقة من تشكّلات جديدة ستخطّ مستقبل شعوبها لسنوات طويلة.