
إنْ حُوصرتْ حلب!

صبحي حديدي
عادةً، إلا في حالات نادرة، يتفادى هذا العمود التطرّق إلى الحدث السياسي الوقائعي، خاصة إذا كان ساخناً متسارعاً وحمّال متغيّرات حاسمة. لكنّ ما شهدته وتشهده أرياف حلب والمدينة ذاتها، ثمّ مدن سراقب ومعرّة النعمان وكفرنبل وسواها، يصعب أن تمرّ عليه هذه السطور إلى سواه من محتوى ثقافي أو وجداني أو استذكاري طبع خيارات هذا العمود بصفة عامة. ثمة مقام آخر إذن لمناقشة أحداث الأيام القليلة الماضية، واستكشاف ما يُقبِل منها على صعيد تطورات ليست أقلّ مغزى وتأثيراً؛ وأمّا حلب فلها مقامات شتى على مستويات ليست بالوقائع السياسية المباشرة ولكنها لا تغادر السياسة في مفهومها الأعلى والأعمّ، بل هي في صلب معمارها.
على سبيل المثال، ذات يوم استقرت “المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة” على اختيار مدينة حلب عاصمة الثقافة الإسلامية، ممثلة كامل المنطقة العربية؛ وكان قرارها صائباً كذلك في تسمية أصفهان الإيرانية عن آسيا، وتومبوكتو المالية عن أفريقيا.
وبذلك كانت حلب ثاني مدينة عربية تحظى بهذا الموقع المشرّف، مباشرة بعد مكة المكرّمة التي كانت عاصمة عام سابق.
بهجة هذا القرار ــ الذي لاح مفاجئاً بعض الشيء، في تقدير هذه السطور، قياساً على مدن إسلامية أخرى عريقة في العالم العربي، مثل بغداد ودمشق والقاهرة ــ لم يتفوّق عليها إلا ما ألقاه من مسؤولية ثقيلة على عاتق حلب والحلبيين، ثمّ سوريا والسوريين استطراداً.
والقرار كان قد اتُخذ قبل خمس سنوات، خلال قمة منظمة المؤتمر الإسلامي التي انعقدت في العاصمة القطرية الدوحة، الأمر الذي عنى أنّ السلطات الثقافية السورية الرسمية امتلكت فترة زمنية كافية للتحضير والإعداد والبرمجة، على نحو أوجب أن يكفل حسن التخطيط والتنظيم والتنفيذ، كما يليق بالمدينة العريقة، وبالمناسبة الفريدة.
وتلك، غنيّ عن القول، كانت فرصة نادرة (لن تتكرّر مرّة ثانية، للتذكير!) كي يتعرّف العالم الإسلامي على تاريخ وثقافة وحضارة سوريا البلد بأسرها في الواقع، وليس شطرها الذي تجسّده مدينة حلب وحدها.
لكنّ الأجهزة الثقافية الرسمية التي عُهد إليها بالتنفيذ لم تكن، كما للمرء أن ينتظر من سائر أجهزة نظام الفساد والاستبداد، مدعاة ثقة كافية، فكيف بتفاؤل يجاري الحدث ودلالاته؛ فالأداء كان متواضعاً أو بائساً أو كارثياً في مختلف مؤسسات وزارة الثقافة ومديرياتها، ابتداءً من المؤسسة العامة للسينما، التي تعوّض عن هبوط معدّل الإنتاج بارتفاع معدّلات الفساد؛ مروراً بانحطاط سياسات النشر والترجمة، خصوصاً بعد التقاعد القسري الذي فُرض على المفكّر الراحل أنطون مقدسي… ويكفي أنّ هذه الوزارة الشقية شهدت تبدّل أربعة وزراء خلال خمس سنوات!
البرامج، من جانبها، كانت طموحة مع ذلك؛ ففي الجزء الذي يخصّ تاريخ المدينة (التي عرفت غزوات وحصار وفتوح الأكاديين والبابليين والحثيين والميتانيين والفراعنة والآشوريين والفرس والروم والسلوقيين والمسلمين والسلاجقة والمغول والتتار والمماليك والصليبيين والعثمانيين والفرنسيين… وهُدمت وأُعيد بناؤها مراراً) توفرت محاضرات وأوراق بدت قيّمة مثيرة، مثل: بين مملكة ماري وحلب، حلب وطريق الحرير، حلب منعطف الحروب الصليبية، البحث عن طروادة هوميروس، وبين حلب والبندقية.
وفي التاريخ الديني والعقائدي للمدينة، اقتُرحت مساهمات حول ابن رشد وابن عربي وحوار الحضارات بين ضفتَيْ المتوسط، وتصوّف حلب بين السهروردي وابن عربي، والتراث الفلسفي الإسلامي في حلب، ودور المطبوعات المسيحية في عصر النهضة، والتسامح الديني من خلال نصوص إسلامية ومسيحية مبكرة. وفي تاريخ المدينة الثقافي وحياتها الفكرية، عُرضت بحوث في الأدب الروائي والطبّ والفلسفة والموسيقى والعمارة، وأخرى في أعلام المدينة (وهم كثر! بين المحدثين وحدهم نجد عبد الرحمن الكواكبي، خير الدين الأسدي، إبراهيم هنانو، سعد الله الجابري، شكيب الجابري، عمر أبو ريشة…)؛ وأخرى في اللغات، واللهجات، والآثار، والمساجد التاريخية، وأدب الرحلات.
وبالطبع، لا يستقيم الحديث عن حلب دون الخوض في وصف الحياة الشعرية للمدينة. وهذا الشطر تضمن عناوين مثل “حلب في عيون الشعراء”، “المعري في حلب”، “البحتري في حلب”، “الصنوبري شاعر الطبيعة ومؤرخها”، “بين خالد بن الوليد وعمر أبو ريشة”، و”شعراء حلب في القرن العشرين”. ثمّ… كيف يمكن لحديث كهذا أن يكون وافياً بأيّ معنى، إذا لم يتوقف عند أبي الطيّب المتنبي، صاحب الأبيات الأشهر:
نحن أدرى وقد سألنا بنجدٍ أطويلٌ طريقنا أم يطولُ
وكثير من السؤال اشتياقٌ وكثير من ردّه تعليلُ
كلما رحّبتْ بنا الروضُ قُلنا حلبٌ قَصْدُنا وأنتِ السبيلُ
وما دمنا في حديث الشعر فإني لا أخفي انسياقي إلى تلك السطور الشهيرة من قصيدة الأمريكي والت ويتمان “تحية أيها العالم”، حيث يلقي الشاعر التحية على مدن إسلامية عديدة، بينها الجزائر وطرابلس وتومبوكتو وطهران ومسقط والمدينة، وحلب طبعاً. كذلك يُستذكر ذلك المستهلّ الصاعق من قصيدة ناظم حكمت “سيرة ذاتية”، والذي عدّه البعض أحد أنبل النماذج الشعرية على خيانة الطبقة: “ولدتُ في 1902/ ولم أعد إلى مسقط رأسي بعدها/ وفي الثالثة خدمت حفيداً لباشا في حلب”.
وفي هذه الأيام تحديداً، كيف تُستعاد “حلب الشهباء” من دون محمود درويش: “في كلّ مئذنة/ حاوٍ، ومغتصب/ يدعو لأندلسٍ، إنْ حوصرت حلبُ”!.