في منعطف المنحدر الشائك
سعيد يقطين
حينما استُهدِف قادة حزب الله بتلك الطريقة الفظيعة كتبت على صفحتي في الفيسبوك: «لماذا اغتيل الهدهد بمقلاع داود؟ لا أريد جوابا. فأنا حزين». لم أكن في تلك اللحظة أستنكر الطريقة التي نفذ بها الهجوم، ولكني كنت أتعجب ممن يخوض معركة قاسية أن ينفذ إلى عمقه العدو، وينفذ عملياته وكأنه يقوم بنزهة في غابة؟ وكنت بكيفية أخرى أستنكر بلاغة الخطاب، وكثرة التصريحات. يمكن أن تدخل تلك التصريحات في باب الحرب النفسية الإعلامية، ولكن حين لا تواكبها أفعال تطابقها في القوة تكون كلاما قصير أمد التأثير.
لقد اعتبر الخطابُ، إسرائيلَ «بيت العنكبوت»، ورد نتنياهو بأنه سيرى من له بيت العنكبوت! وكانت قاصمة الظهر للحزب على المستوى النفسي. كان وقعُ الاستهداف قويا. لقد اعتبرت الصهيونية فعلها انتصارا لأنها ظلت تتوهم أن استهداف قيادات في حماس وحزب الله يعني نهاية القضية التي تختزلها فيهم، متناسية، عن قصد، أن القضية قضية شعب، وأن القضية ولود. ولكنها في حربها الإعلامية تسعى دائما لتأكيد أنها تواجه إرهابيين، ويكفي «تحييدهم» لإنهاء القضية. وهي في عملية التحييد هذه تتوجه إلى مواطنيها لطمأنتهم أن مصادر الخطر إلى زوال، وفي الوقت نفسه تخاطب الغرب لتأكيد دعمه المطلق لها. إنها تواصل مسيرة دحر الإرهاب، وهي تدافع عن نفسها فقط. وفي الوقت نفسه، وهي تستهدف من تشخص فيهم القضية تمارس أقصى درجات التنكيل والتدمير ضد المدنيين من الأطفال والنساء وكل البلاد والعباد.
توالت ردود الأفعال على ما كتبته عن استهداف قادة حزب الله، فرأى فيها بعضهم شماتة، ولم ير فيها كون الخطاب الذي يكتفي بالتكليم الذي لا يتناسب مع التفعيل يظل حجة على المتكلم واستنكارا لكلامه، ما دام يوهم من يتألم للقضية أنه كفء لما يقوله، وأنه يغريه بأن ما يقوله مؤشر على دحر العدو. لكن سرعان ما جاء التفعيل، حين غاب التكليم، بعد غياب القادة المستهدفين، ونجاح الحزب في ترميم بيته الداخلي، وكأن الدرس الفعلي وصل، فكان رد الفعل قويا، إذ لم يصاحبه كلام كما كان في الماضي، على إسرائيل، فكان أن كلَمها الفعل، وكان التدمير الذي أبان فعلا، أن بيت الصهيونية أهون من بيت العنكبوت. ولم يبت نتنياهو وعصابته إلا وهم مكلومون. فكتبت على الصفحة نفسها: «أرأيتم؟ حين زالت بلاغة الخطاب المدوي حلت محلها بلاغة الفعل المدمر».
إن استهداف رموز المقاومة الوطنية لا يعني نهايتها، لأننا نرى، على العكس من ذلك، أن القضية الوطنية لا يمكن أن تختزل في أشخاص، مهما حاول العدو ربط القضية بهم، وبادعاء مسؤوليتهم عما يجري، بتوهم المماثلة بين كون القضاء على الجريمة ينتهي بقتل المجرم. يبدو لي وكأن استهداف قادة حزب الله أعطى للقيادة الجديدة بعدها، واقعا مختلفا لممارسة الحرب ضد العدو، فكان تجاوز الخطوط الحمر عمليا، وبات فرض التفاوض تحت نار الحرب موزعا بين الطرفين بتساو، ولم يبق مقتصرا على ما كانت تلوح به الصهيونية وحدها، فلم يفل الحديد إلا الحديد. وكانت المماثلة في الإيلام. وكما استهدفت بيروت وضاحيتها باتت حيفا وتل أبيب ومستوطنات الشمال مستهدفة بعنف لم يُشهَد من قبل. وعاش المستوطن اليهودي بعض ما ظل يعيشه الفلسطينيون منذ بداية طوفان الأقصى. وصار الوقعُ أشدَّ عليهم فكان الاضطراب والخوف والهلع، والنزوح، واللجوء إلى الملاجئ واقعا جديدا لم يألفه المستوطنون، الذين باتوا بدورهم يستنكرون التكليم الصهيوني الذي توجهه لهم الآلة العسكرية، وهي التي ظلت تمارس التفعيل أيضا بالقوة نفسها. فكان أن بدأت لغة التفاوض تفرض نفسها على الصهاينة، وهو مكرهون بعد أن بدأت دعوى رجوع المستوطنين إلى مناطق الشمال بعيدة المنال، وهي السقف الذي رفعته زبانية الصهيونية في عملياتها التدميرية ضد لبنان.
ما أكثر التأويلات التي قدمت لتفسير مطالبة إسرائيل بالتفاوض، وبعدها، في تقديري، عن الحقيقة. لقد أفشلت المقاومة احتلال الأراضي في جنوب لبنان، وكانت الحرب شرسة ضد العدو الصهيوني، وهو ما فرض عليه الخضوع للتفاوض. ولو ظل التكليم مهيمنا على التفعيل لهان على إسرائيل تحقيق ما كانت تهدد به، وهو إلحاق التدمير بلبنان على غرار ما فعلت في غزة، وقد كان هذا ضمن مخططها الذي يسمح لها بتنفيذ دعواها المتمثلة في «إسرائيل الكبرى». ويبدو ذلك أنه منذ أن وقع الاتفاق على التفاوض حتى هرع الجنوبيون إلى قراهم المدمرة عكس المستوطنين في الشمال. وكان أن أرغم هذا الصهاينة، حكومة ومستوطنين، على معاينة الفرق بين صاحب الأرض والمستوطن. فكانت محاولات خرق الاتفاق لفرض عدم رجوع اللبنانيين إلى قراهم إسوة بالمستوطنين الذين ظلوا يتوجسون من الرجوع إلى الشمال.
أمام هذه الانتكاسة الصهيونية في تحقيق أهدافها الكبرى في لبنان، راح التوجه في سوريا إلى جانب تواصل استهداف المدنيين في غزة، وخرق الاتفاق في لبنان بدعوى أنها ما تزال تفرض واقعها على الأرض. يدور النقاش حول الاستسلام والانتصار وعن فك الارتباط بين لبنان وفلسطين. فإلى أين يسير منعطف المنحدر الشائك في المنطقة؟ فهل ستنوب تركيا عن إيران؟ وهل الاتفاق هش إلى درجة الرجوع إلى نقطة البداية؟ وهل انتظار وصول ترامب إلى البيت الأبيض سيفتح بابا للتفاوض في غزة؟ أسئلة يفرضها المنعطف الجديد، أو ليس الصبح بقريب؟
كاتب مغربي