ثقافة وفنون

«القط الأسود» وفلسفة الانحراف: نافذة على غرائبية إدغار ألن بو

«القط الأسود» وفلسفة الانحراف: نافذة على غرائبية إدغار ألن بو

هيفاء بيطار

مقدمة الكتاب التي كتبها الشاعر الفرنسي بودلير تُضيء شخصية إدغار ألن بو وقصصه، مُقدمة غنية إبداعية طويلة تنتهي بسطرين: ألن بو الذي اجتاز الأعالي الفنية الوعرة، وغاص في مهاوي الفكر الإنساني، واكتشف عبر حياته الشبيهة بالعاصفة التي لا تهدأ، طرائق جديدة وأشكالاً يدهش الخيال. وقد مات في الشارع عام 1849 عن عمر 37 سنة.
يتألف كتاب «القط الأسود» لإدغار ألن بو من 24 قصة قصيرة، بعض القصص طويلة، ومن المهم أن نعرف ماذا قال ألن بو عن نفسه، إنه كان سكيراً، وإنه كان يشرب الكحول كما لو أن في داخله شيئا يريد قتله، ويقول في قصص عديدة، «في غمرة أحلامي الأفيونية فأنا كنت دوماً تحت تأثير هذا السم». تتضح عبقرية ألن بو في كل قصصه التي تُبهر الأنفاس، وتصدم القارئ برؤيته المميزة للذات الإنسانية وللطبيعة، وبأسلوب ساحر. في القصة الأخيرة من المجموعة بعنوان «جنة أرنهايم» يقول، هناك أربعة شروط للسعادة، الفلاحون هم الوحيدون الذين يُمكن اعتبارهم أكثر سعادة من الآخرين، والشرط الثاني للسعادة هو حب المرأة. أما الشرط الثالث فصعب التحقيق، وهو احتقار الطموح جملة، وأما الشرط الرابع فهو خلق الجمال بشرط الحفاظ على روحانية الجمال. لكنني أعتقد أن ألن بو لم يكن يحتقر الطموح، فقد كان طموحاً وعبقرياً، ربما كان يقصد أولئك الذين لا يمتلكون الأدوات والثقافة اللازمة لتحقيق طموحهم، لكنه يكرر في القصة ذاتها «جنه أرنهايم» أن أحد المبادئ الأساسية للسعادة على الأرض يقوم على ازدراء الطموح.
في قصة «القط الأسود» وهي القصة الأولى في الكتاب الصادر عن دار الأداب، كان ألن بو وزوجته يحبان الحيوانات كثيراً، وقد أحبا قطاً أسود كبيراً جميل الشكل أسود اللون بتمامه وعلى قدر عجيب من الذكاء. وبسبب الإدمان على الكحول والأفيون تبدل مزاج ألن بو وصار شرساً ومستهتراً بمشاعر الآخرين، حتى إنه صار يضرب زوجته بلا سبب، وحتى القط الأسود صار يعامله بقسوة فظيعة، حتى إنه ذات مساء وهو عائد إلى بيته مُتعتعاً من السُكر، وشعر بحقد شيطاني في روحه، تناول من جيب سترته سكيناً واقتلع عين القط الأسود من محجرها عن عمد وإصرار، وندم ألن بو على ما فعله بالقط الأسود، لكن القط بدأ يتماثل للشفاء، لا توجد أحداث في هذه القصة، لكن ألن بو يعتقد، أو يؤمن بما سماه: روح الانحراف التي تدفعه إلى السقوط الذي لا نهوض منه، وهذه الروح، في رأيه، لا توليها الفلسفة أي اعتبار، فهو يعتقد أن الانحراف واحد من النوازع البدائية في القلب البشري، وأحد الملكات أو المشاعر الأصيلة التي توجه سلوك الإنسان يقول: من منا لم يضبط نفسه عشرات المرات وهو يقترف إثماً، أو حماقة لا لسبب غير كون هذا العمل مُحرماً؟ أليس لدينا حتى في أحسن حالات وعينا، رغبة في خرق ما يُعرف بالقانون لمجرد علمنا أنه قانون؟ أدرك ألن بو وجود روح الإنحراف في نفسه وهي التي تدفعه إلى السقوط والأذى والشر والقسوة، ويقول عن روح الانحراف: إنها رغبة النفس الدفينة لمشاكسة ذاتها ولتهشيم طبيعتها ذاتها، لاقتراف الإثم لوجه الإثم. وبتواصل الأحداث في قصة القط الأسود، يحاول بو قتل القط الأسود فتتدخل زوجته فيهوي بالفأس على رأسها فتموت ويدفنها في جدار القبو وهي واقفة، ومرت أيام وألن بو لا يشعر بوزر الجريمة إلى أن أتت الشرطة لتحقق في اختفاء الزوجة، وتمكنت من كشف الجريمة، تنتهي القصة أن الجثة كانت واقفة أمام أعين الشرطة وعلى رأسها القط الأسود الكريه، بفمه المفتوح وعينه الوحيدة النارية. القط الذي دفعتني أفعاله إلى الجريمة ثم أسلمني صوته الكاشف إلى حبل المشنقة.

في كل قصص ألن بو يتداخل الخيال مع الواقع، لكن الخيال في قصصه أقرب لفلسفته في الحياة، الصراع الأبدي في النفس البشرية بين الخير والشر، بين ما سماه روح الانحراف. إحدى قصصه القصيرة تحمل عنوان «هوس الانحراف»، وفيها يعيد صياغة أفكاره بطرق عديدة، فيكتب، هي علة لا تعليل لها، أو شيء لا بد منه، ويقول عن نفسه: إن حياتي ليست بالنسبة لي شيئاً أكثر يقينية من هذه القضية: إن يقين الخطيئة أو الخطأ الداخل في عملٍ ما، هو غالباً القوة الوحيدة التي لا تُرد والتي تدفعنا، ووحدها تدفعنا إلى إكماله، وهذا الميل المرهق لعمل الشر حباً بالشر يستعصي على التحليل، ويأبى أن يُرد إلى عناصر تأتي في ما بعد، إنه حركة أولية بدئية. يؤمن ألن بو بأن أمام الإنسان مهمة ينبغي عليه أن يكملها بسرعة. نعرف أن خرابنا في تأخرنا، نتحرق شوقاً للبدء بالعمل، التلذذ بنتيجة عظيمة قبل حدوثها يُلهب روحنا كلها، ينبغي، ينبغي أن البدء بالعمل اليوم، مع هذا كله نرجئه إلى الغد ولماذا؟ لا شيء يوضح ذلك إن لم يكن شعورنا بأن في هذا نوعاً من هوس الانحراف، ويجيء الغد ويزيد معه القلق للقيام بواجبنا، لكن مع هذا المزيد من القلق يجيء أيضاً شوق محموم، رهيب عسير على الفهم، وبقدر ما يهرب الزمن يزداد هذا الشوق حدة، يهزنا العراك المُحتدم في داخلنا، العراك بين المحدد وغير المحدد، بين الجوهر والظل. وحين ندرس هذه الأفعال وما يُشبهها نجد أنها تنتج عن هوس الانحراف وحده. إننا نقوم بهذه الأعمال لسبب وحيد هو أنها ليست واجبة علينا، وليس هناك من باعث معقول لها.

في قصة ألن بو «ليجيا»، وهي قصة طويلة عن المرأة التي عشقها بجنون، لكنها ماتت بسبب مرض، يقول: إذا كانت روح الحب التي يدعونها ـ أشتوفيت ـ تلك الشاحبة الليلية الجناحين، ابنة مصر الوثنية، تُبارك كما يُقال الزيجات سيئة الطالع، فلا بد أن تكون قد باركت زواجي أيضاً. أي فتاة كانت ليجيا، كانت تألق حلم أفيوني، رؤيا صوفية تُجنح الروح، لم تكن ملامحها من تلك الطينة التي تعلمنا خطأ أن نعبدها في أعمال الوثنيين الكلاسيكيين، ويستشهد بقول اللورد فيرولام ليس هناك جمال خلاب في كل أشكال الجمال وأنواعه، بغير شيء من الغرابة في تقاسيمه، تلك الغرابة التي تكمن في عيني ليجيا، لقد تملكني شغف جامح لأكتشف تلك الغرابة في عينيها، وكثيراً ما كنت أشعر بأنني على وشك إدراك التعبير الذي يطل منهما، أحس باقتراب السر دون أن أستطيع امتلاكه، وصرت أستمد من أشياء العالم المادي نوعاً من المشاعر تحكي ما كان يختلج تحت تأثير عينيها، كنت أجده أحياناً وأنا أراقب عريشة تحبو بسرعة، أجده حين أتأمل حشرة أو فراشة أو جدول ماء، كنت أجده في نظرة إنسان تجاوز المئة عام، كنت أجده في قراءة المقطع التالي لجوزيف غلانفيل، ربما لغرابة هذا المقطع من يدري؟ «هناك توجد الإرادة، الإرادة التي لا تموت. من يعرف عجائب الإرادة بكل قوتها؟ لأن الله هو إرادة عظيمة تطغى على كل الأشياء بقوتها الخاصة. الإنسان لا يُسلم نفسه للملائكة ولا يُذعن للموت كلياً إلا نتيجة ضعف إرادته».

أظهرت ليجيا مقاومة ضارية ضد الموت لكن الموت وحده كشف لي غور حبها، يكتب ألن بو قصيدة لرثاء ليجيا قصيدة طويلة تنتهي: الأنوار تنطفئ كلها ـ كلها تنطفئ ـ وفوق كل طيف مرتجف ـ تنزل ستارة ـ بساط الموت ـ عنيفة كهبوب عاصفة هوجاء – فتنهض الملائكة، شاحبة اللون صفراء ـ ترفع أقنعتها وتؤكد أن المسرحية مأساة اسمها الإنسان، وأن بطلها هو الدود القاهر. في العديد من قصص ألن بو يذكر أنه أصبح عبداً أسير شباك الأفيون. في قصة «القلب الذي كشف السر» يكشف عن طبعه العصبي جداً فقد شحذ المرض حواسي لكن لم يهدمها، وأقول لكم: ما كنتم تحسبونه جنوناً ما هو إلا إفراط في الحساسية؟ والقصة تحكي عن ارتكابه جريمة ضد عجوز مريض جداً وثري، قتله بأن جعله يتنشق بخار شمعة سامة، وأستطاع أن يُقنع الضباط أن العجوز مات بسبب المرض والشيخوخة واقتنعوا وبعضهم شكك به إلى أن اعترف بجريمته.
كل قصص ألن بو في مجموعته القصصية «القط الأسود» غرائبية، تخطف الأنفاس، يتداخل الخيال والواقع والمخيلة. وما كتبه بودلير عن ألن بو عميق حين شرح المُخيلة عند ألن بو، بأنها ملكة الطاقات الروحية، والمخيلة ليست كما يتوهم القراء، ليست الوهم وليست الحساسية وإن كان من الصعب تخيل إنسان خيالي غير حساس، المُخيلة عند ألن بو طاقة شبه إلهية تكتشف بعيداً عن المناهج الفلسفية وخارجها العلائق العميقة بين الأشياء وأسرارها وتطابقها وتجانسها، ما يمنح لهذه الطاقة أهمية ووظيفة إلى درجة أن العالم الذي يخلو منها عالم مُزيف أو على الأقل ناقص.

 كاتبة سورية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب