ثقافة وفنون

ألبوم حماة والعاصي: صور من حياة مدينة سورية في القرن الماضي

ألبوم حماة والعاصي: صور من حياة مدينة سورية في القرن الماضي

محمد تركي الربيعو

عند الحديث عن مدينة حماة السورية، نرى أنه غالبا ما ارتبطت صورة هذه المدينة في العقود الأخيرة، بالمذابح التي شهدتها في ثمانينيات القرن الماضي على يد قوات النظام السوري. وهو ما نراه اليوم أيضا من خلال تصدر المدينة للأخبار في ظل الصراع بين قوات النظام والمعارضة السورية. إذ تبدو المدينة في هذه الساعات، وهي تقف شاهدة ربما على فصل جديد من تاريخ سوريا ومستقبلها. لكن مقابل هذا الاهتمام بمستقبل المدينة السياسي، فإنه من النادر أن نعثر على كتابات وافية حول تاريخ المدينة، مقارنة بمدينتي حلب ودمشق، وربما يعود هذا لأسباب عديدة منها غياب الاهتمام بتواريخ المدن غير الرئيسية في سوريا، وأيضا الخوف من الاقتراب من أرشيف المدينة، وبالأخص بُعيد الثمانينيات، وعدم اهتمام الباحثين المحليين السوريين عموما بتواريخ المدن بالشكل الكافي. واللافت هنا أنه مقابل هذه النقص في المعلومات عن تاريخ المدينة، نلاحظ أنها حظيت بالاهتمام من قبل عدد من علماء الآثار الأوروبيين منذ الثلاثينيات من القرن العشرين، وبالأخص على صعيد تاريخها القديم، وهو اهتمام يبدو أنه لا يمكن فصله عن الاهتمام الاستعماري عموما بالتاريخ القديم للمنطقة. مع ذلك نلاحظ أن الجهود التي بذلت في هذا السياق، وفرت معرفة أفضل بتاريخ المدينة، بالاضافة الى أن هذه البعثات تركت لنا صورا وأرشيفا واسعا عن المدينة، بالشكل الذي يمكننا اليوم من التعرف على صورتها في النصف الأول من القرن العشرين.
ولعل هذا الانطباع هو ما يمكن أن نشعر به خلال تقليبنا لمجموعة صور التقطتها البعثة الدنماركية للآثار في المدينة، خلال الفترة بين 1931ـ 1939. إذ تبدو المدينة في هذه الفترة، وهي تعيش مرحلة تغيرات عديدة، سواء من خلال ظهور السينما والمقاهي، أو على مستوى توسعها العمراني، ولباس أهلها والصراع على حضور النساء في الفضاء العام. وكان الباحث الدنماركي في الآثار ستيفن لومسدن، قد عثر مع عدد من الباحثين الآخرين، على مجموعة من الصور التي التقطها عدد من علماء الآثار الدنماركيين عن حماة خلال ثلاثينيات القرن الماضي، وعلى أثر ذلك قاموا بنشر هذه الصور في كتاب صدر عام 2023 بدعم من المعهد الدنماركي في دمشق، والمتحف الوطني الدنماركي. تضم الصور لقطاتٍ من الحياة اليومية في المدينة وثقتها عيون الأوروبيين الفضوليين، الذين كانوا من ناحية في الميدان لإجراء أبحاثهم في علم الآثار، وكانوا من ناحية أخرى في مغامرة العمر، مفتونين بجمال وروعة المكان المحيط بهم. ولذلك التقطوا صورا للمنازل من الفترة العثمانية، واحتفالات المدينة، والنواعير المائية والسكان المحليين، الذين يمارسون حياتهم اليوميَّة. من جهة أخرى، يضم الألبوم لوحات رسمها العلماء الدنماركيون للمدينة، لاسيما القصور الكبرى للنخبة الحضرية، ولساحات المدينة ولأزقتها.

تقع مدينة حماة على نهر العاصي في المنطقة الداخلية لسوريا الوسطى الغربية. وعرف النهر بهذا الاسم، لأنه النهر الوحيد من بين جميع الأنهار الرئيسية في منطقة بلاد الشام، الذي يتدفقُ من الجنوب إلى الشمال (بدلا من الشمال إلى الجنوب). وقد لعبت المدينة دورا بارزا عصر البرونز القديم الرابع (2000 ـ 2500 قبل الميلاد) حيث كانت مقصداً مهماً للحج في تلك الفترة، حسبما ورد في وثائق مملكة إبلا. توسّعت حماة وازدهرت في العهد الآرامي، وتشكّلت فيها مملكةٌ محلية قوية عارضت الآشوريين الأقوياء، حتى دمارها على يد سرجون الثاني عام 270 قبل الميلاد. لاحقا حكمت المدينة من قبل الأمويين والعباسيين، وفي عام 1175 سيطر عليها صلاح الدين، قبل أن تتعرض للتدمير عام 1400 على يد المغول. وعادت المدينة لتحتل موقعاً مهما مع قدوم العثمانيين للمنطقة، وتوسّعت في الحجم مع نمو التجارة الإقليمية، وغدت أكثر ارتباطاً بالمركز الجديد للثروة والسلطة والثقافة في دمشق خلال القرن الثامن عشر (فترة آل العظم)، كما باتت مخزنا زراعيا يوفر الحبوب لقوافل الحج السنوية.
في ثلاثينيات القرن الماضي، كانت حماة رابع أكبر مدينةٍ في سوريا، خلال فترة الانتداب الفرنسي، بعد دمشق وحلب وحمص المجاورة لها، وبحلول عام 1930، وصل عدد السكان فيها إلى 60 ألف نسمة، معظمهم من المسلمين السُنَّة مع أقليةٍ مسيحيةٍ أرثوذكسية، وعلويين وإسماعيليين. يفصل نهر العاصي حماة إلى شطرين. على الضفة الغربية، أقدم جزء من المدينة (حماة القديمة) مع أزقتها الضيقة المتعرّجة. وفي هذا الجزء من المدينة يوجد الجامع الكبير، والحي المسيحي وكاتدرائية الروم الأرثوذكس. كان السوقان الرئيسيان في الجزء القديم من المدينة يقعان في محيط الجامع الكبير، وبالقرب من مسجد النوري على ضفاف النهر. وقد ربطت متاهة من الشوارع هذا الجزء من المدينة مع أقصى التل من جهة الجنوب، حي الدباغة، الذي كان يقع فيه «خان رُستم باشا» القديم، الذي كان بمثابة مقر للبعثة الدنماركية في الثلاثينيات. وعلى الضفة الشرقية للنهر يقع الجزء الأحدث من المدينة «حي الحاضر»، وهنا بدأ السكان الاستقرار بشكل دائم خارج أسوار المدينة القديمة. كان يربط حي الحاضر بالمدينة القديمة جسر يسمى جسر بيت الشيخ.
وكانت الحفريات الدنماركية قد تركزت في الثلاثينيات، كما معظم الحفريات الغربية الأخرى في الشرق الأوسط، على عصور ما قبل الإسلام. وتجدر الإشارة هنا إلى أن علماء الآثار الدنماركيين لم يمثلوا أي قوة سياسية عالمية في ذلك الوقت، على عكس الكثير من المشاريع الأثرية الغربية في الشرق الأوسط، التي عملت من القرن التاسع عشر وحتى ثلاثينيات القرن الماضي، والتي لعبت دوراً في المشاريع الاستعمارية لإنكلترا وفرنسا. تظهر إحدى الصور مدير البعثة الدنماركية هارالد إنغولت محاطاً بأعضاء البعثة. والمهندس المعماري أينار فوجمان والمحافظ فروذ ينسن، الذي كان خبيراً في منطقة الشرق الأدنى، نتيجة عمله مسبقاً في تلِّ شيلو (خربة سيلون) في فلسطين، وكان يتحدث اللغة العربية أيضاً. على مرّ السنين، كان الفريق الدنماركي يتألف من علماء الآثار والمهندسين المعماريين والمحافظين الطموحين وذوي الخبرة على حد سواء، وقد تشكلت روابط عميقة بينهم وبين عدد من أبناء المدينة، وفي مقدمتهم توفيق الشيشكلي.
كان الشيشكلي قد نشأ وترعرع في المدينة، ثم انتسب إلى المدرسة الطبية العثمانية في إسطنبول وتخرَّج منها طبيباً عام 1911، قبل أن يلتحق بالجيش العثماني كطبيبٍ عام 1914. وقد عين خلال الحرب العالمية الأولى ضابطاً طبيباً في المشفى العسكري في المدينة المنورة، وعاد بعد الحرب إلى حماة وافتتح عيادةً متخصصةً في طب العيون. وقد ساهم مع بعض وجوه وأعيان حماة في تأسيس الكتلة الوطنية (إلى جانب رئيسها هاشم الأتاسي) في دمشق عام 1928. كان الشيشكلي صديقاً حميماً وداعماً للبعثة الدنماركية، وما وثق هذه العلاقة، هو أن النخب السياسية السورية آنذاك، حاولت استخدام علم الآثار في حملتها الخاصة، من أجل وحدة أراضي «سوريا الكبرى» غير المحدودة بالحدود التي فرضها الفرنسيون. ولذلك احتفلوا في هذه الفترة بإنجازات حضارات ما قبل الإسلام كأساس للاعتزاز الوطني، ولاسيما الحضارات الفينيقية وبلاد ما بين النهرين والحضارة الرومانيَّة.
في إحدى الصور نعثر على اجتماع لأهل المدينة مع السلطات الفرنسية، ومما يلاحظ داخلها وجود ضابط فرنسي، وإلى جانبه كاهن من طائفة الروم الأرثوذكس، وعدد من رجال الدين المسلمين. كان الرجال من كبارِ السن في حماة في ذلك الوقت قد تلقّوا تعليمهم في مؤسسات التعليم العالي في دمشق أو اسطنبول التي تأسَّست في أواخر العهد العثماني، أو في جامعات أوروبا. وكان من رجالات هذه الحقبة العديد من الذين قادوا حركات التحرر الوطني في الشرق الأوسط ما بعد العهد العثماني. ولذلك نلاحظ من خلال الصورة، أن جميعُ الشخصيات السورية المحلية المرموقة ارتدوا الزي العثماني التقليدي للطبقات العليا والمتوسِّطة، والمتمثل بالبدلة الغربية والطربوش العثماني (الطربوش العربي).

طرابيش المدينة

حتى منتصف القرن التاسع عشر كانت أغطية الرأس، على وجه الخصوص، بمثابة علامة هويةٍ للدين والمرتبة الاجتماعية. فيما بعد تبنت الإمبراطورية العثمانية الطربوش على نطاق واسع واعتبرته زيا رسميا، فأصبح جميع موظفي الدولة والضباط العسكريين يلبسون الطربوش الأحمر باعتباره هوية مشتركة. ويبدو أن هذا الزي العثماني اكتسب معاني جديدة في فترة ما بعد الاستعمار، فبدلا من رمزيته للحداثة العثمانية، أخذ يحمل معاني جديدة تتعلق بمناهضة الاستعمار والحفاظ على الارتباط المستمر بالأشكالِ التقليدية.
في صورة أخرى، نعثر على عدد من المتاجر الصغيرة، وفي الغالب أدار حرفيون فقراء لم يتمكنوا من منافسة المنتجات الأوروبية، التي بدأت تغرق الأسواق. ويبدو أن المدينة كانت تعيش حالة من الاستقطاب الطبقي الحاد، وهو ما يأتي على ذكره مثلا أكرم الحوراني في مذكراته، إذ بدت السلطة السياسية في حماة تقع تحت سيطرة أربع عائلات فقط. ففي البداية ترسخت مكانة عائلتي العظم والكيلاني بقوة في مدينة حماة في القرن الثامن عشر، بينما انضمت عائلتا برازي وطيفور إلى هذه النخبة في أوائل القرن التاسع عشر. وقد احتكرت هذه العوائل أعلى المناصب السياسيَّة والدينيَّة في المدينة، بالإضافة إلى امتلاكهم لأكبر العقارات والأراضي في حماة وريفها.
تظهر صورة أخرى من ساحة حيّ جورة حوى، المدينة وهي تعج بالمحلات التجارية والمقاهي، ونلاحظ أيضا وجود حمام عام ومجموعة من الكراسي الخشبية الصغيرة والجاهزة لاستقبال زبائن المقاهي، حيث كان يجتمع الرجال لشرب القهوة وتدخين النرجيلة وقراءة الصحف. كانت حماة في ذلك الوقت تضم ما بين خمسين إلى ستين مقهى، كان أحد أكبرها مملوكاً لتوفيق الشيشكلي. وقد اشتهرت المقاهي بتقديم بعض العروض المسرحية، وغالباً ما كان يؤديها أفرادٌ صغار السن من العائلات البارزة. ولم توافق السلطات الاستعماريَّة ولا حتى العناصر الأكثر محافظةً في المدينة على هذه العروض المسرحيَّة.

نساء المدينة وريفها

تظهر إحدى الصور أيضا عددا من النساء الريفيات وهن يجلسن أمام محل داخل المدينة دون نقاب. ولا يبدو في هذه الصورة أن صاحب الدكان، الذي في الغالب يبدو أنه ينتمي للطبقة الحضرية الدنيا، منزعجا أو خجولا من هذا المشهد. لكن هذه الصورة يجب أن لا تدفعنا بالضرورة إلى الاستنتاج بأن المدينة لم تكن ذكورية آنذاك بالضرورة، أو أنها كانت متسامحة مع عدم ارتداء الحجاب، إذ نرى في صور أخرى مثلاً عددا من النساء وهن يشاهدن أحد الاحتفالات في المدينة من السطوح. ويبدو أن هذا الفصل بين النساء والرجال داخل الفضاء العام قد شغل المدينة في الثلاثينيات، وهو ما عبرت عنه المؤسسات الدينية والمسيحية على حد سواء، من خلال اعتراضها على حضور النساء لدور السينما والأفلام، إذ اعتقدوا أن هذه الأفلام تقدم أسلوب حياة، خاصة العلاقات بين الرجال والنساء، غير مناسب للمرأة السورية، ومع ذلك أصرت النساء على حقهن في مشاهدة الأفلام، ما دفع بالمحافظ إلى إقامة عروض صباحية للنساء عام 1934، إلا ان السلطات الدينية استطاعت لاحقا إقناع المحافظ بضرورة حظر هذه الخطوة، ليقرر المحافظ لاحقا عام 1939 منع النساء مرة اخرى من الدخول للسينما.
ويبدو أن الدنماركيين قد اهتموا كثيرا بتربية وسباقات الخيل في المدينة، وهو إرث ما يزال أبناء المدينة يفتخرون به لأيامنا هذه. إذ نرى في صور عديدة المدينة وهي تحتفل بسباقات الخيل، كما نرى بعض البدو مشاركين في هذه السباقات، ويبدو أن حضور البدو في المدينة كان كثيفا، إذ تظهر صور الأسواق وجودهم في كل مكان تقريبا، ما يظهر مدى ارتباط حماه بريفها، ولعل هذا الارتباط بقي سائدا لأيامنا هذه، وهو ما جعلها مدينة حيوية على الدوام.

 كاتب سوري

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب