مساجد وكنائس ومقابر: الاحتلال يدمر معالم أثرية عريقة خلال العملية العسكرية شمال غزة
مساجد وكنائس ومقابر: الاحتلال يدمر معالم أثرية عريقة خلال العملية العسكرية شمال غزة
إسماعيل عبدالهادي
لم يترك الاحتلال الإسرائيلي أي معلم أثري وتاريخي خلال العملية العسكرية الواسعة على شمال قطاع غزة وبالتحديد مخيم جباليا ومدينة بيت لاهيا، سليما، حيث يعمل جيش الاحتلال على تدمير ومحو المباني السكنية والمعالم التاريخية العريقة من مقابر ومساجد وكنائس، تعود جميعها للحقب التي سكنت فلسطين قبل آلاف السنين، وذلك بشكل متعمد وممنهج يهدف منه إلى طمس تاريخ فلسطين العريق، وتدمير أي إثبات يبرز أحقية الفلسطينيين بالأرض.
وخلال عمليات التوغل التي قام بها الجيش الإسرائيلي في مختلف مناطق قطاع غزة منذ انطلاق شرارة الحرب مطلع تشرين الأول/أكتوبر 2023 يتعمد تدمير كل ما يتعلق بتاريخ غزة القديم من مساجد وقلاع وحصن وكنائس وحمامات، على الرغم من أن جميع هذه المعالم لا تشكل أدنى خطر على الجيش وتوجد في أماكن مدنية، وتعتبر مزارا للوفود التي تأتي من خارج فلسطين، نظرا لما تضمه هذه المعالم من تاريخ عريق يمتد لعدد من الحضارات التي سكنت فلسطين، ومنها الكنعانية والرومانية والعثمانية وغيرها من الحضارات التي تعاقبت على فلسطين عبر التاريخ، حيث شهدت مدينة غزة القديمة والتي تضم المئات من المعالم الأثرية دمارا كبيرا، بعد تعمد الاحتلال منذ الأيام الأولى للحرب قصف المساجد والمنازل القديمة، إلى جانب القلاع والحمامات والكنائس والعديد من المعالم التاريخية.
معلم أثري قديم
مخيم جباليا الواقع شمال قطاع غزة، يعتبر من أقدم المخيمات الفلسطينية وأكبرها وأكثرها كثافة من حيث السكان، حيث تأسس منذ القرن الرابع الميلادي، ويتكون من عدة تجمعات تابعة له، ومنها جباليا المعسكر وجباليا البلد وجباليا النزلة ومنطقة العلمي وحي عباد الرحمن وحي الصفطاوي، وفي كل منطقة من هذه التجمعات يوجد معلم أثري قديم، وحول تسمية جباليا بهذا الإسم، اختلف المؤرخون حول سبب التسمية، فمنهم من قال أنها اختصار من أزاليا، وهي القرية الرومانية التي سكنت جباليا قديما، والبعض اعتبر أن التسمية تعود لكون بعض مناطق جباليا على تلال وجبال مرتفعة، ومنهم من يقول تعود تسميتها إلى الجبالية الذين نزلوا إليها نهاية العهد البيزنطي، وسكن منطقة جباليا قديما الكنعانيون والفرس واليونان والرومانيون، وأقام الرومان على جزء كبير منها قرية أسموها أزاليا، لكن بعد أن اندثرت القرية ورحل الرومان عنها سميت المنطقة جباليا، فبعد هزيمة الرومان في معركة اليرموك، دخل الفلسطينيون في الإسلام وتعرب سكان جباليا وتعربت لغتهم بامتزاج أبنائها، في ظل الحضارة الإسلامية مع القبائل العربية القادمة من الجزيرة العربية، وظلت محتفظة بطابعها الإسلامي عبر مر العصور إلى يومنا هذا.
الاحتلال الإسرائيلي أكمل بشكل ممنهج ومتعمد عملية إبادة المعالم التاريخية في غزة
وتحتفظ جباليا بالرغم من مرور فترة زمنية طويلة على الحقب التي سكنتها، بالعديد من الأبنية التي تبرز حجارتها مدى قدم هذا البناء، وبعض هذه الحجارة منقوش عليها ما يدل على الحقبة التي كانت تتواجد فيها منذ القدم فيها، فهذا التاريخ موجود داخل أزقة المخيم، وفي المناطق الحدودية القريبة من الجدار الفاصل مع إسرائيل، وتعود المعالم التي بقيت إلى الحقبة الرومانية، فهناك بعض المساجد القديمة التي بقيت حتى قبل حرب الإبادة والأديرة وأرضيات الفسيفساء، لكن مع تكرار عمليات التوغل للمخيم، دمرت الطائرات والجرافات والمدفعية عددا كبيرا من تلك المعالم ومن أبرزها:
المسجد العمري أو مسجد جباليا القديم
يوجد المسجد في وسط مخيم جباليا، ويعود تاريخه إلى العصور الوسطى، حيث ما زال يحتفظ المسجد ببعض المعالم القديمة والتاريخية التي لم يطرأ أي تعديل أو تغيير عليها، ومنها المئذنة والأقواس المزخرفة التي تتوسط الأعمدة والبلاط الأرضي، ويوجد بجانب المسجد مقام الشيخ المشيمش الذي قدم من المغرب إلى غزة وأقام فيها خلال العهد المملوكي، لكن هذا التاريخ القديم الذي حافظ عليه الغزيون والذي يعتبر دليلا على إسلامية جباليا وأن اليهود لا يملكون شيئا من أراضيها، دمره الاحتلال خلال حرب الإبادة المستمرة على غزة، بعد أن قصف بالطائرات الحربية المسجد والمربعات السكنية المحيطة به، ليختفي المعلم التاريخي وتفقد جباليا واحدا من أهم الآثار العريقة.
كنيسة جباليا البيزنطية
تعتبر الكنيسة التي تقع إلى الشمال الغربي من جباليا، من أقدم وأهم الكنائس في بلاد الشام والتي يعود تاريخها إلى عام 444 م زمن الإمبراطور البيزنطي ثيودوسيوس الثاني، حيث أنه ومنذ نشأتها عاصرت الكنيسة 24 إمبراطورا و14 خليفة مسلما، وتضم الكنيسة أرضية فسيفساء اكتشفت حديثا خلال عمليات ترميم قام بها مختصون، لكن تعرضت أجزاء كبيرة من الكنيسة العريقة للهدم، بفعل قذائف الاحتلال التي تتساقط على جباليا منذ أكثر من شهر.
تعرضت أجزاء كبيرة من كنيسة جباليا البيزنطية للهدم، بفعل قذائف الاحتلال
مقبرة الرومان
توجد مقبرة الرومان في الأجزاء الشرقية لجباليا بمحاذاة شارع صلاح الدين، حيث اكتشفت المقبرة الرومانية خلال أعمال حفريات في ذات المنطقة عام 1998م، ويعود تاريخ المقبرة إلى القرن الثاني الميلادي، وتعتبر المقبرة مزارا للوافدين من خارج فلسطين، خاصة بعد أعمال الترميم والتنقيب التي قام بها خبراء الآثار والجهات الحكومية الرسمية، لكن مع العملية العسكرية الإسرائيلية في جباليا، دمرت جرافات الاحتلال المقبرة بالكامل، وأصبحت عبارة عن سواتر ترابية تحتمي بها الدبابات الإسرائيلية والجنود، بعد أن جرف الاحتلال المنطقة الشرقية بالكامل حتى الحدود الفاصلة.
مر عليها الرومان والفرس والمسلمون
إلى جانب الآثار التاريخية العريقة التي تعرضت للتدمير في جباليا، توجد هناك أيضا معالم تاريخية دمرت في مدينة بيت لاهيا المحاذية لجباليا من جهة الشمال الغربي، حيث تعتبر بيت لاهيا من المدن القديمة والعريقة التي مر عليها الرومان والفرس والمسلمون، واحتلها الإسرائيليون عام 1948م ثم تحررت بالانسحاب الإسرائيلي عام 2005. تعرف المنطقة الساحلية بجمال أراضيها وبساطة سكانها الذين يشتهرون بالزراعة، واختلف المؤرخون حول سبب تسمية بيت لاهيا، فمنهم من يقول أنها مشتقة من كلمة الإلهة، حيث كانت البلدة سابقا بيتا للإلهة والمعابد، والبعض يقول أنها كانت جميلة وتعتبر مكانا للهو لذلك اشتقت كلمة لاهيا، بينما يفسر أحد المؤرخين المعنى استنادا لأصل الكلمة في العربية وتاريخيا، فيقول معناها مقفر أو متعب بالسريانية، وأنها كانت مكانا لصنع الأصنام فسميت بيت لاهيا وتدل الآثار والمباني والخرائب الأثرية الموجودة في بيت لاهيا على طابع الأزمنة التي عاصرتها المدينة، مرورا بحقبة الكنعانيين والرومان والبيزنطيين الأيوبيين والصليبيين حتى تاريخنا الحالي، ومن أبرز المعالم التاريخية التي عاصرتها مدينة بيت لاهيا:
تل الذهب
تل الذهب منطقة مرتفعة تقع غرب مدينة بيت لاهيا، وتتميز بلون رمالها الذهبي، وهذا ما منحها جزءا من التسمية، وتعود ملكية التل لإحدى عائلات بيت لاهيا. وخلال عمليات حفر وتنقيب أجريت سابقا، تم العثور على قطع فخارية وأباريق وتحف نحاسية، إلى جانب العثور على العديد من الأديرة التي كانت تحتوي على قطع ذهبية، وحاليا تم تجريف التل بالكامل وتسويته بالأرض، خلال عملية الجيش الموسعة في شمال غزة وبالتحديد في بيت لاهيا، ليختفي بذلك المعلم التاريخي والمزار الذي يضم فى باطنه العديد من الآثار الشاهدة على الحقب التي سكنت المدينة منذ القدم.
الخرب الأثرية
تضم مدينة بيت لاهيا العديد من الخرب التي تضم آثار وقبورا ومساجد قديمة، ومن الخرب التي لا تزال موجودة في المدينة خربة صقعب وحمود شرقي المدينة والسحلية شمالي المدينة، بالإضافة إلى خربة اللقية غربي المدينة، والتي سميت بهذا الإسم لأنها كانت نقطة التقاء صلاح الدين والصليبيين في معركة الأيوبيين، ويوجد داخل الخرب بقايا قبور وآثار قديمة لكن دمرت بعض هذه الخرب وما زال البعض منها مهددا بالتجريف مع استمرار عمليات النسف والتجريف من قبل الاحتلال الإسرائيلي للمدينة.
قبة أم النصر
تعتبر القبة معلما تاريخيا عريقا مر عليها آلاف السنين وتقع شرقي مدينة بيت لاهيا، وعلى أرضها انتصر الأيوبيون على الصليبيين، وقد شيدت القبة لتكون رمزا للنصر، حيث تعتبر القبة أعلى منطقة في بيت لاهيا، ويصل ارتفاعها إلى 83 مترا عن سطح البحر، لكن خلال التوغل والعملية العسكرية للجيش في بيت لاهيا، دمرت القبة وتم تجريف المنطقة واختفت معالمها.
مسجد الشيخ سليم والشيخ سعد
يعتبر المسجد من أقدم مساجد مدينة بيت لاهيا حيث يتوسط المدينة، وبالرغم من وجود عدد كبير من المساجد المحيطة بمسجد الشيخ سليم، إلا أن هناك إقبالا كبيرا من المصلين على أداء العبادات داخله، لما يضمه المسجد من تاريخ عريق، لكن دمر الاحتلال المسجد خلال عمليات النسف للمربعات السكنية، إلى جانب تدمير مسجد الشيخ سعد التاريخي الذي يبعد مسافة لا تتعدى 100 متر عن مسجد الشيخ سليم.
إبادة المعالم التاريخية
في تعقيب له على الدمار الهائل الذي لحق بالمعالم التاريخية في شمال قطاع غزة، يقول الخبير في علم الآثار والتنقيب فضل العطل إن “الاحتلال الإسرائيلي أكمل بشكل ممنهج ومتعمد عملية الإبادة للمعالم التاريخية، التي احتفظت بها غزة على مدار سنوات طويلة ومن أهمها المساجد القديمة والمقابر والكنائس سواء في مدينة غزة أو في المناطق الشمالية”.
تل الذهب غرب مدينة بيت لاهيا تم تجريفه بالكامل وتسويته بالأرض
وأشار في حديثه لـ “القدس العربي” إلى أن “منطقة بيت لاهيا وجباليا كانت تضم آثارا عريقة، وهناك عمليات تنقيب كانت تجري قبل العدوان في منطقة بيت لاهيا، حيث اكتشف مؤخرا بقايا قبور تعود للعهد الروماني، لكن دخول الحرب واشتداد ضراوتها أوقف عمليات البحث والتنقيب، وبالتالي المنطقة على ما يبدو وفق شهود عيان تتعرض للتجريف وإزالة المعالم الموجودة فيها”.
ولفت إلى أن “ما يقوم به الاحتلال هو مخالف لكل القوانين والأعراف الدولية ، فالدمار الكبير الذي لحق بالمعالم الأثرية يرقى إلى جريمة حرب، والهدف من وراء هذا الدمار هو طمس تاريخ غزة القديم عبر محو كل ما يدل على أحقية الشعب الفلسطيني بالأرض، كما أن هذا الدمار يعتبر خسارة كبيرة لغزة، فالمعالم التي دمرت كانت تمثل مزارا للمؤرخين، وكانت تضفي جانبا كبيرا من الجمال على غزة، خاصة منطقة غزة القديمة التي تضم قصر الباشا وحمام السمرا، والبيوت القديمة والمسجد العمري والعديد من الآثار القديمة التي دمرت بالكامل منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة”.