ثقافة وفنون

ما وراء الأصالة: الهوية العربية في مهب الاغتراب

ما وراء الأصالة: الهوية العربية في مهب الاغتراب

ملاك أشرف

قد تبدو بعض المدن كبيرة، لكن العلاقات داخلها ضيقة ومحدودة، بينما في مدن أخرى تتسع العلاقات وتضيق المساحة، هذا ما حاولت الروائية عَلوِية صُبح إيصاله في بادئ روايتها «افرح يا قلبي»، الصادرة عن دار الآداب اللبنانية في العامين الماضيين. حيث صورت كيف أن كُل شيء في نيويورك يظهر عملاقا وواسعا، حتى الشوارع وناطحات السحاب، ولكن العلاقات بين الناس ضيقة للغاية، أما في لبنان فالعلاقات تكون أوسع وأرحب، على الرغم من صغر حجم البلاد كما نتخيل. دفعت الصراعات المستمرة في لبنان الناس إلى الهجرة بشكلٍ شبه طوعي وغير قسري. نرى في هذه الرواية، قصة الشاب «سعيد» الذي جاء إلى بيروت لدراسة الأدب العربي في الجامعة الأمريكية، وبسبب استماعه بالخطأ إلى من ينتقدون همسا نظام البعث الديكتاتوري في البلد، وجد نفسه ملاحقا لفترة طويلة من قبل مخبر سري كان يجلس بينهم بالصدفة، دون أن يعرفوا هويته.
تشير الروائية صُبح إلى أن «سعيد» لم يكن واعيا تماما لما كانوا يقولونه، كان ذهنه منشغلا بامرأةٍ تستولي على أفكارهِ كُليا، ومع ذلك وقع في الفخ المتوقع الذي نصبه لهُ النظام البربري. كانت مثل هذه الاستخبارات تلاحقهم ليلا ونهارا، إما لتزج بهم في سجون العذاب المعروفة، بحيث يواجه المرء نهايته المشؤومة وإما لتجعلهم يعيشون في خوفٍ دائم، يلتفتون إلى الوراء بين لحظةٍ وثانية؛ حتى يجدوا أنفسهم منفيين إلى بلادٍ مجاورة أو بعيدة، سعيا لإنقاذ مستقبلهم العلمي وحياتهم الهشة.
ما زالت الأنظمة الديمقراطية التي ترتدي ثوبا ديكتاتوريا تتبع مؤامراتها في دفع معظم الشعب إلى مغادرة أراضيهم وأماكن سكنهم؛ عبر سلب حقوقهم البسيطة في حياة كريمة وحرمانهم من إنسانيتهم. تستعمل هذه الأنظمة الإشاعات والقرارات المزيفة لإلهاء الشعب عن المخططات الفاسدة والأيدي السارقة لنصف أموالهم وحقهم الشرعي في وطنهم. يبدأ ذلك من تحطيم لُغتهم الأم التي تشكل دفاعا عن هويتهم وآرائهم وأفكارهم، وصولا إلى تدمير ثقافتهم، وحسهم النقدي، وذوقهم الفردي. لا أحد يستطيع فهم مزاج الأشخاص في البلدان العربية اليوم؛ لأن مزاج دولتهم غامضٌ ومعقد. بالأحرى، لا يمكننا فهم شعب وتغييره بلا دولة واضحة المعالم. كان «غسان» يدرك جيدا أنه لا يستطيع فهم شعب إلا من خلال موسيقاه؛ ولهذا اختارته عَلوِية صُبح بطلا لروايتها بوصفهِ إنسانا موهوبا ومثقفا بارزا، يدرك ذاته والعالم من حوله. لكننا نتساءل في النهاية: ماذا يملك الآخرون حتى يطالبوا دولتهم بالدعم المعنوي والمادي لاستقرارهم في أماكنهم؟ في الواقع، يملكون قليلا من الذاكرة وكثيرا من النسيان أو الغباء، إذ إنهم لا يعرفون شيئا عن الوقائع التاريخية، الثقافة العربية، المعرفة التراكمية والحياة اليومية؛ ونتيجة لذلك يشكلون حكومات خاوية تنبع من صميم مجتمعهم المتجه نحو الهاوية باستمرار.
ظل «غسان» يستمع إلى الأصوات التي تصدح من نوافذ البيوت ومحلات المناطق، معتقدا أن معرفته بالموسيقى هي السر وراء فهمه العميق للناس وتواصله الجيد معهم، وإن كان يشعر دائما بأنه ليس في المكان الذي ينتمي إليه، خاصة عندما يتعامل مع شخصيات ذات ثقافات مختلفة، وهو ما واجهه كثيرا في لبنان، وبدرجة أقل في نيويورك جراء عزلته وخوفه من تياراتها المتطورة على نحوٍ رهيب.. إن وصفه لنفسه بأنه أمريكي لا يكفي ليشعر بأنه ينتمي إلى هذا البلد.
تمنحهُ الموسيقى رؤية فريدة للعالم حيناً، وعزلة نقية حيناً آخر، بعيدا عن زمنه المليء بالآلام والجراح. العبث والمأساة غالبا ما يتسللان إلى حياة الكثيرين ممن عاشوا في لبنان ثم هاجروا، فيختبرون لحظات الولادة، الموت والرحيل المُعرى من كُل قداسة، محاولين أن يجعلوا الربيع يزهر بعد طول جفاف، ثمة خريفٌ غريبٌ يرافقهم إلى وحدتهم التي يلامسها موج البحر المُضطرب. كتبت صُبح أن شخصية موسيقارية مثل غسان تعيش بين الأصوات العذبة، وتحول بين كفيها إلى آلات موسيقية وتلتقط أذنها كُل الأصوات على الشرفات، سواء في اليقظة أو المنام. وهكذا حمل غسان إلى غربته أصواتا كانت تملأ كُل زاوية من قريته الصغيرة مهما حاول أن يتناساها. كان متلهفا لاكتشاف الأصوات الداخلية للأشياء عبر موسيقاها الخفية في صمتِها أو في صدحِها، وهذه الأصوات تمثل دليله إلى الأشياء كافة، فهي تحافظ على هُويته من التلف والنسيان في ظل شعوره بالهجر وليس باللجوء، كان أكثر صمتا من المنازل المهجورة، إنه يسمع أكثر مما يتحدث ويثق في أن الزمن والهجرة يُبدلان الإنسان حتما، ليصبحا خلاصا واغترابا في آنٍ واحد؛ لذا يخشى أن يعودَ يوما فلا تعرفه بلاده، أو أن يكون هو مَن يفقد القدرة على معرفتها كما يجب، بما أنه لا يمكنه ممارسة جميع ما يحبه ويرضيه، إذ إن الغربة الحقيقية هي أن نعيش حياتنا بعيدا عن حريتنا وما يحلو لنا، وهو ما يسميه جحيم الغربة.

تصف الكاتبة كيف يهرب المرء من «الاغتراب الذاتي» عن طريق الفنون والآداب المتنوعة. حينما يعزف غسان على الكمان، يسكب كُل أحاسيسه وكأنهُ يعزف بشرايينه وجوارحه جميعا، وبئر الدمع يتماوج في لحنهِ الجوهري ووجدانه المتأجج، في تلك الأوقات ينسى أن هويته تتعرض لرياح التحول والاغتراب، هُويته اللبنانية المعرضة للتمزق. قالت على لسان شخصياتها، إن الفن، ولاسيما الموسيقى الشرقية التي وصلت سابقا إلى حد الكمال، باتت جامدة وعلى شفير الانقراض، ولم تعد قادرة على إنقاذ الأفراد من وحشتهم المفتقرة إلى التناغم والجذوة الخاصة بهم، وبالتالي فإننا نقرأ في عيونهم أثر الغربة ونشعر بثقل مرض الوطن المتفاقم في قلوبهم. تلتهم الهجرة الحياة وتبتلع صور السعادة واحدة تلو الأخرى، غير مكترثة لدلالات الصور المتباينة أو لفنيتها. هل يعقل أن يهدر الإنسان أحلامه ويقضي سنواته المديدة في غرفة مكتظة بالكوابيس، بعد أن امتهن الهرب واستغرق في التفكير بصدى ما تركه خلفه؟ فمثلما يكون الفن إنسانيا، يمكنه أيضا أن يتحول إلى وحشٍ يغلب صاحبه، ومع هذا وحده الفن جدير بأن يكون هُوية. من المضلل حقا أن نعتقد الأصالة مرتبطة بالحاضر فقط، إنها مُتعلقة بالحاضر وكيفية رؤية الحاضر للماضي وإعادة بنائه. وعند التعمق أكثر في مسألة الأصالة والماضي، نجد أنفسنا أمام قضية «الآخر» كما عبر عنها المفكر إدوارد سعيد الذي يعد المنفى حالة نفسية وليس مكانا جغرافيا معطوبا.
هدفت الرواية إلى الاعتراف بأن الآخر الذي يشبه الشخصية الرئيسية «غسان» يلاحق أحلامه إلى حد الاختفاء، وحيث الغضب يجعله يتيه عن عائلتهِ وبلادهِ؛ بحثا عن هُوية جديدة وأحلام مُشرقة يسلك طرقا قادته إليها الحياة لتجنبه ظلال الأهل القاتلة وكراهيتهم السامة، يحير كيف يحاول الناس تغيير مجرى أيامهم ويعاندون أقدارهم، قدر النهر أن يسير إلى الأمام بلا عوائق، قدر الماء أن يمضي ولا يحارب، إن التفكير في ما حدث وسيحدث لا يُجدي نفعا، فالأمور تحدث بالإرادة أو من دونها لا شك. والحياة من وجهة نظر عَلوِية صُبح لا تحتاج سوى أن نعيشها كما هي، ونتقبلها كي تتقبلنا بدورها. كأنها تتوافق مع أبيات الشاعرين عباس بن الأحنف عندما قال: «يغلبُ الأيام من يرضى بها»، وأبي العتاهية في قوله: «طلبتُ المستقر بكُل أرضٍ/ فلم أرَ لي بأرضٍ مُستقرا/ أطعتُ مطامعي فاستعبدتني/ ولو أني قنعتُ لكنتُ حُرا»، أو مع عبارة الأديب جبران خليل جبران: «اختر الرضا يهُن عليك العبور». فالأدب العربي القديم والحديث زاخر بمثل هذه الأشعار والعبارات التي تدعو إلى الرضا، القناعة والعيش الحُر الذي يخلو من الحوادث المشوشة والذكريات غير الناصعة وإن بدا صعبا أن ننسى ما في داخلنا وما عشنا. لم تقتصر الرواية على نقل مظاهر التشتت والضياع اللبناني وحسب، بل تناولت أيضا العلاقات غير الشرعية، مفهوم الشرف، الخيانة، الفوارق العمرية، الخداع والإخلاص لدى الجنسين، والأهم من كُل ذلك، الذكورة المتوحشة والموسيقى المفقودة.

تبدأ بخداع القارئ بجوها المألوف والبارد، لكنه سرعان ما يكتشف بعد مرور مئة صفحة، أنها على عكس ذلك تماما. استغرقت المؤلفة جهدا كبيرا وعملا مستمرا بين القراءة والكتابة لتقديمها بهذه الصورة المتماسكة والجودة الماتعة. أحيانا يمكن لفكرة واحدة عميقة وضرورية أن تنقذ الرواية بأكملها، يتخيلُ القارئ في هذا العمل الأدبي النهايةَ التي يريدها، أو يتمناها للبطل المتأرجح بين بيروت ونيويورك؛ لأن النهاية المفتوحة تتيح للقُراء فرصة المشاركة في صياغة خاتمة النص إلى جانب الكاتب. أما الهوس بالسعادة الذي يشير إليه العنوان، فلا يقودنا إلى الشعور بالراحة، وإنما ينتهي بنا إلى سلسلة من الفواجع المنتصرة، ومثل هذه العنوانات، أو النهايات المفتوحة تبتعد عن الشاعرية المُفرطة، التعقيد والانغلاق التأويلي.
تبين الرواية في المجمل أن الاغتراب هو حالة من فقدان التعاطف تجاه المجتمع والعزلة عنه، وهو يُعتبر موضوعا رئيسيا في الأدب الحديث، وشكلا أساسيا للانفصال عن الجذور والتورط في مأزقٍ وجودي. يُقدم شخصيات تعرضت للضغط الاجتماعي واختبرت الغياب بسبب أزمة الهوية وانقسام الذات، من الطبيعي أن تترك ظاهرة منتشرة كالاغتراب أثرها المُبرح في رواياتِ ما بعد الحداثة. ويمكننا استنتاج رسالته في أن الإنسان يظل حيا ما دامت له جذور، ولكن إذا أُصيبت جذوره أو فقدها يموت روحيا ويتشظى نفسيا.
تميزت عَلوِية صُبح بقدرتها على التكيف مع الصدمات ومواجهة الأزمات الحياتية، وتجسيد تجاربها المستمدة من الواقع اللبناني. جمعت بين المنهج النفسي والواقعي في أعمالها الروائية؛ لذا تُعد من أبرز الأصوات اللبنانية التي تجرأت على معالجة قضايا المجتمع الحساسة، بصدقٍ وصراحة مُؤثرة إلى هذه الدرجة الكبيرة. آمنت أن الهُوية العربية قائمة على الحرية، وهي شيءٌ إنساني يُخلق لا يُعطى، ويتجاوز الحدود الجغرافية واللغوية والثقافية المعروفة. قالت: إنها لا تخاف شيئا ولا تمارس أي رقابة ذاتية على كتاباتها. وما تكتبه بين الحين والآخر من سيرتها، سيشهد على صدقِها حين تنتهي منها ذات يوم. أقلقتها الهُوية الفنية وعلاقة الشرق بالغرب وسحبتها السرديات الجاذبة إلى بناء نصوص نابضة ليست مستعارة ولا مصبوبة في قوالب جاهزة إطلاقا..

كاتبة عراقية

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب