ثقافة وفنون

أقاصيص «غرفة رجل مبعثرة» :لغة السرد بين اليومي والشعري

أقاصيص «غرفة رجل مبعثرة» :لغة السرد بين اليومي والشعري

رياض خليف

بهذا العنوان الجاذب وسمت الكاتبة الليبية غزالة الحريزي عنوان مجموعتها القصصيّة، وهو في الحقيقة عنوان إحدى القصص الداخلية التي ضمها العمل. وهي قصص تتسم بالإيجاز والتكثيف وغلبة السرد والوصف، إذ يندر الحوار المباشر، بل يختفي في معظم القصص ويأتي منقولا. وتراوح الكاتبة بين سرد بضمير الغائب وآخر بضمير المتكلم، وقصص تبدأ بصيغة الماضي وأخرى تبدأ بالمضارع، محاولة بذلك التنويع في أساليب الكتابة. ولكن الملاحظة الأبرز التي نهتم بها في هذا النص هي محاولة مزج الواقع اليومي بالشعري في مستوى لغة القصّ. فهي تكتب قصصها معتمدة لغتين، لغة اليومي بما فيها من تفاصيل للحياة الاجتماعية، ومن رسم للواقع ولغة الأدبي والشعري بما فيها من نزوع نحو الطبيعة وسرد بنفس رومانطيقي وما فيها من استخدام للاستعارات والمجازات.

لغة اليومي

تحمل هذه القصص نبض اليومي، فهي تلتقط من الواقع مفرداته وثقافاته وتصوّر فضاءاته، متسرّبة إلى تفاصيله وهو ما يجعلها تنتمي إلى القصص الواقعي. فهي تشير إلى طقوس ومظاهر حياتية مختلفة. فإذا القوم يحتفلون ويغنون ويؤدون طقوسهم السنوية: «للنهر، وأقاموا احتفالا سنويّا، وصلوا بدوامه الأمهات والعجائز وحتى الآباء الذين يعدُّونه واجبا على الله لهم، ودينا مقابلَ أداء العبادة». وإذا الأم تعلق التمائم لابنتها: «تراقبني أمي وتحشو وسادتي بالتمائم، وتسقيني كل صباح بماء قرأ عليه أبي آياتٍ من سورة يونس، كل ذلك فقط لأنَّ خوفا ممزوجا بالحبِّ يجعلها تتوجَّسُ خيفةً من أصواتٍ تصدرُ عني فتتنصَّت على بابي».
وإذا هذه القصص تنفتح على الحياة اليومية فتصور التقاليد الاجتماعية العادية مثل التزاور: «عندَ كل زيارة يحملها لنا العيد، أو وفاة فرد من العائلة المنتشرة على أكثر من مدينة، حين يزورنا عمي بأطفاله الستة ننحشر في غرفةٍ واحدةٍ».
وتلتقط الكاتبة من الأحياء ما فيها من حركة ومظاهر أكل ونشاط: «ضحىً يعبق برائحة الخبز ودخان المواقد، وبعضٍ من رائحة القمح المحمَّص، تملأ أفق التجمع السكاني فوق الهضبة الشمالية، وأطفال يقتاتون إفطارا صباحيّا متأخِّرا،بعضا من الخبز دُهِنَ بالزبدة، وقليلا من حليب الماعز المصفَّى». ويحضر اليومي أيضا في إبراز مظاهر الحياة المعاصرة: «فجأة تنقذها رنَّةُ الهاتف الخلويِّ في محفظتها».
كلّ هذه النماذج تبيّن انغراس هذه القصص في بيئتها المحلية وقربها من الحياة اليومية، حتى تبدو كتابة تفاصيل تقترب من المناطق المغلقة والخاصة للفرد مثل الغرف والنوافذ، التي يمكن تتبع حضورها المتميز والمتكرر في هذه المجموعة، وهو حضور مولد للمعنى بلا شكّ. ولكنّ إنشائيّة النص الأدبي تقتضي تجاوز لغة اليومي وهو ما جعل الكاتبة تضفي على لغتها مسحة شعريّة.

لغة الشعر

يتقارب السردي من الشعري في النصوص السردية قديمها وحديثها، ولعلّ من وجوه هذا التقارب النهل من معاجم الكتابة، فيحاول الكاتب الكتابة بلغة شعرية في مضامينها أو استعاراتها. وهذا ما نسجله في مجموعة غزالة الحريزي المقبلة بدورها من عالم الشعر. «فَكثيرٌ من تعابيرِها تقطرُ شِعرا، يَتَوَاشَجُ فيها السَّردِيُّ مَعَ الشِّعْرِيِّ في تآلفٍ بديعٍ، عبرَ صِيَاغَةٍ بَارِعَةٍ، وتداعٍ شائقٍ، وَانِسِيَابٍ عَفْوِيٍّ» على حد تعبير جمعة الفاخري في تقديمه لهذا العمل. فإذا بسردها تتخلله مقاطع ألفناها في أشعار الرومنطيقيين. فالطبيعة تبدو مكونا مهما من مكونات لغتها التي تطالعنا بها في هذه القصص. فهي تصوّر مشاهد طبيعيّة جميلة ومعبرة وتبدأ بها سردها «مساءً كانت الريح عاصفة وشديدة، غيوم داكنة تعبر سماءَ المدينة آتية من جهة البحر»، ملتقطة مشهدا طبيعيا يجمع بين الريح والغيم والبحر. وها هي تنقل للقارئ في قصة أخرى جمال المدينة التي يشقها نهر: «هذه المدينة يسكنها نهرٌ يشقُّ وسطَهَا متباهيةً به، عذبٌ متدفِّقٌ من رحم الأرض، تعترضه جنادلُ صخورٍ صلبةٍ قاسيةٍ ما فتَّتها دوامُ الماء فوقها، يعبرُهَا النهـرُ ولا يعبأ بها»، وها نحن مع تغريد الطيور في الصباح: «يا له من نثيثٍ تبثُّهُ الطيورُ الفرحة حين يزورها الصباح ويقرؤه المراهقون». إنّ الكاتبة تلوّن قصصها بجمال الطبيعة لتقاوم مرارة اليومي. فعلى الرغم من جمال هذه المشاهد يبدو اليومي مؤلما والشخصيات منكسرة وقلقة.
وبقطع النظر عن هذه الطبيعة تقدم الكاتبة الكثير من الفقرات القائمة على الاستعارات والمجازات المحيلة على وجه شعري لهذه الأقاصيص على غرار هذا المقطع الذي افتتحت به قصة بقايا امرأة: «تبعثرَ الهشيمُ في بقايا النار، رمادٌ منثورٌ تقرؤهُ الريحُ،عبثا أن أحاول لملمة بقاياك يا امرأة أنهكتها دروبُ الملحِ في غياب المطر، وتشقَّقت ملامحك من معاول الألم الذي ما فتئ ينحت فيك».
هذا السرد المفعم بالاستعارات والصور الشعرية تذكر له مثالا آخر في قصتها انجراف: «وقفَا تحت المظلة.. احتميا من المطر الغزير الهاطل بغضب، لأرض تشقَّقت بفعل صيفٍ حاقدٍ، كانت الشوارع فارغة تعوي بها الريح المزمجرة».
صفوة القول إنّ الكاتبة غزالة الحريزي تحاول أن تقدم قصصا صغيرة تنهل من الخطاب الشعري، خصوصا في لغتها ومفرداتها. ولعلّ تجربتها تندرج في تلك الكتابة القصصية التي تمارس المحو بين الأجناس الأدبية وتحاول إثراء القصة بالأجناس المجاورة ومن أهمها الشعر. فنحن نشهد تبادلا في الاتجاهين… شعر يحاول الاستفادة من السرد وسرد يحاول الاستفادة من الشعر.

كاتب تونسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب