مقالات

المأزق العراقي في تحليل هيئة علماء المسلمين

المأزق العراقي في تحليل هيئة علماء المسلمين

مثنى عبد الله

في نطاق سعيها الدؤوب قولا وفعلا لوضع الحالة العراقية أمام أنظار المجتمع المحلي والعربي والدولي، أصدرت هيئة علماء المسلمين في العراق تقريرها الدوري عن الحالة السياسية والاجتماعية والإنسانية في العراق، في السادس والعشرين من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم. ودائما ما تنطلق الهيئة في توجهها هذا من منطلق مرجعيتها الشرعية، التي تُحتم عليها تسليط الضوء على ثنائية الديني والدنيوي في حياة الناس وما يشغلهم في الشأن العام. وهي بهذا التوجه تؤسس لمفهوم قل نظيره في الوقت الراهن، ألا وهو عدم تسييس الدين من أجل منافع حزبية، أو جهوية، أو فئوية.
يبدأ التقرير بإشارة مهمة إلى موقع المشهد العراقي في الانتخابات الأمريكية، التي جرت مؤخرا، حيث يرى أن هذه الانتخابات لن يكون لها أي تأثير خاص على المسرح العراقي، إنما التأثير سيكون على الوضع الإقليمي بشكل عام. وتستند الهيئة في رؤيتها هذه إلى تجربة أكثر من عقدين من الزمن، أثبتت فيها الولايات المتحدة رغبتها، بل حرصها على ديمومة واستمرار النموذج السياسي القائم في العراق، لأنه يُلبي مصالحها ويجعله في غيبوبة تامة عن تحقيق مصالح العراق الوطنية، التي بالتأكيد تتعارض تماما مع مصالح واشنطن. كما أن استمرار المنظومة السياسية القائمة يبقى صمام أمان يمنع عودة العراق إلى ممارسة دوره على الصعيدين العربي والدولي، وهذه الرغبة كانت هي الدافع الرئيسي وراء غزو واحتلال العراق.
أما ما يجري على المسرح العراقي من أحداث وتطورات، فإن هيئة علماء المسلمين قد أحصت ذلك في محاور أربعة، شكّلت علامات بارزة على ضعف النظام السياسي القائم ورثاثة ممارساته وعطب مخرجاته وهي:

إن خواء (الزعامة السياسية العراقية الحالية) من القدرة على التحوّل إلى رجال دولة، لن يسمح لهم بممارسة حضور فاعل وندي، يبرهنون من خلاله على استحقاقاتهم السياسية

أولا عودة الاعتقالات والتصعيد في الخطاب الطائفي، فقد رصدت الهيئة وجود محاولات لإعادة النبرة الطائفية السياسية إلى المسرح العراقي، من خلال قيام هيئة الحشد الشعبي المُشكّلة من فصائل مسلحة إيرانية الولاء والبُنية، وبمشاركة جهاز الأمن الوطني، بحملة اعتقالات في مناطق حزام بغداد تحت ذريعة الترويج لحزب البعث، وفق البيانين الصادرين عنهما في 05-11-2024 و07-11-2024. وقد عزز هذا الفعل رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، في تصريحات منسوبة له، يقول فيها إن هنالك مؤامرة تُحاك ضد النظام السياسي من الخارج بهدف عودة حزب البعث للسلطة، وهذه التصريحات ليست الأولى ولن تكون الأخيرة من قبل هذا الشخص، فهو يستثمر فيها كلما شعر بأن حظوظه الانتخابية متدنية. أما المحور الثاني في تقرير الهيئة فكان رصد لحالة مجلس النواب وكواليس التوافقات السياسية، حيث ترى الهيئة أنه على الرغم من انتخاب رئيس لمجلس النواب، بعد عام من شغور هذا المنصب، بسبب الخلافات التي ظاهرها سياسي وباطنها مصلحي نفعي، لكن المشاكسات بين الشركاء ما زالت قائمة، وما زال العجز عن إنجاز ما مُدرج على جدول أعمال المجلس هو السمة البارزة. وحديث الهيئة عن هذه النقطة بالذات لا ينطلق من إيمانها بأن المجلس مؤسسة وطنية حقيقية، بل هي تحاجج بما يزعمون هم من دور لها. فحقيقة الأمر أن رصد الهيئة يقول، إن مجلس النواب هو مؤسسة شكلية فاقدة القدرة على صناعة القرارات، وإن كل ما يصدر عنها هو توافقات بين رئاسة المجلس، وقادة الكتل السياسية خارج جلسات المجلس، ما يعني أن خدمة مصالح القوى المتنفذة هي الأساس في كل ما يتم تشريعه باسم مجلس النواب. كما شكلت التسريبات الصوتية، وازدواجية الحكومة في ملف النازحين محورا ثالثا في تقرير هيئة علماء المسلمين في العراق، حيث رأت أن الاتهامات بوجود عمليات تجسس على هواتف السياسيين، من قبل مدير مكتب رئيس الوزراء الحالي، والقيام بتسريبها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إنما يدل على عمق أزمة الثقة الكامنة بين أطراف العملية السياسية، التي من نتائجها القيام بهذه الأفعال، بغية الحصول على أوراق ضغط يُلوّح بها كل طرف ضد الآخر، من أجل الاستثمار المالي، أو الحصول على مناصب، أو الابتزاز السياسي في ملف الانتخابات. أما في موضوعة ازدواجية الحكومة في التعامل مع النازحين، فترى الهيئة أن أبرز مثال على ذلك هو كيفية تعامل السلطات مع النازحين اللبنانيين، مقارنة بتعاملها مع النازحين العراقيين في الداخل. وهذا صحيح جدا فقد بدا واضحا حتى للإعلام العالمي أن التعامل في الحالة الأولى مختلف تماما عن التعامل مع الحالة الثانية، لأن النازحين في الأولى هم عوائل بُنية حزب الله وحاضنته، بينما في الحالة الثانية ما زالت وصمة الإرهاب تلاحق العراقيين النازحين وهم أبرياء منها. وأخيرا يُعرّج تقرير الهيئة على صدور قرار قضائي من محكمة أمريكية لصالح عدد من السجناء العراقيين، الذين كانوا في سجن أبو غريب بداية الاحتلال. وترى الهيئة أن الحسابات السياسية والأمنية والاقتصادية، قد تكون عوامل فاعلة في عدم اكتساب القرار الدرجة القطعية، حيث ما زال باب الاستئناف مفتوحا أمام الشركة الأمنية الأمريكية، التي كانت تدير السجن. وتؤكد الهيئة أن تحقيق العدالة للعراقيين في داخل وخارج العراق أمر بعيد المنال، وهم غير قادرين على التمتع بحصاناتها الأخلاقية والإنسانية واللوذ بملاذاتها الآمنة، لأن العدالة ورقة سياسية تتحكّم فيها القوى نفسها التي غزت واحتلت العراق.
يبدو من خلال التقييم السياسي للحالة العراقية، الوارد في تقرير هيئة علماء المسلمين في العراق موضوع البحث، أن زعماء العملية السياسية غافلون تماما عن حقيقة النتائج المترتبة على اختيار السياسي، بين إجراء التقييم الذي يتطلب أقل جهد، أو إجراء تقييم يتطلب المزيد من الجهد لممارساته السياسية. لذلك هم اختاروا على مدى أكثر من عقدين من الزمن، عدم إجراء أي تقييم لأفعالهم السياسية، وهذا ما سيجعلهم يدفعون ثمنا باهظا. فقد عذّبوا الدولة حتى الموت فلم تعد هنالك دولة، ودافعوا عن مصالحهم بدلا من تلبية احتياجات الناس. وأغرقوا العراقيين في دوامة من اليأس، ظنا منهم أن ذاكرتهم مثقوبة ما يجعل ديمومة السياسيين مؤكدة. وأن تصريحاتهم وخطبهم التي بلا وجهة تجعلهم مقبولين لدى العامة، في ظل عدوانيتهم الإقصائية تجاه الجغرافية العراقية، المضطهدة بشكل عام.
إن خواء (الزعامة السياسية العراقية الحالية) من القدرة على التحوّل إلى رجال دولة، لن يسمح لهم بممارسة حضور فاعل وندي، يبرهنون من خلاله على استحقاقاتهم السياسية، وسيبقون سُجناء في دائرة ضيقة محكوم عليها بالزوال عاجلا أو آجلا. وسيظل وجودهم هامشيا وتصريحاتهم غير مسموعة، وكل أفعالهم مُستنكرة. وسيكتشفون أنهم لم يكونوا قادرين يوما على حصر أفعالهم في المواقف التي تكون فيها مواقفهم السياسية والأخلاقية والقانونية في وئام تام، وحيث تكون الشرعية أكثر انسجاما مع متطلبات البقاء.

كاتب عراقية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب