ثقافة وفنون

الناقد المختص في مواجهة فوضى النقد الحديث

الناقد المختص في مواجهة فوضى النقد الحديث

رسول عدنان

بعد المأزق الكبير الذي وصلت إليه العملية النقديّة برّمتها، التي قادت إلى تكريس موت الناقد عمليا، أصبح من الضروري أن تكون هناك عملية لبلورة مفهوم أو مصطلح جديد قد يبثُّ بعض أمل في إحياء العملية النقدية، التي انتهت على يد الناقد الشمولي، وهذا المصطلح الذي أقترحه هو، الناقد النوعي، أو الناقد المختص في جنس أدبي بعينه، Specialized critic، ومثلما يوجد قارئ وقارئ نوعي، وطبيب وطبيب مختص، أصبح من الضروري أن يكون هنالك ناقد مختص بجنس أدبي معين، كأنّ يكون شاعرا ناقدا، أو روائيا ناقدا، أو كاتبا مسرحيا ناقدا، لأنّهم سيكونون أكثر دقّة وعلمية في تحليل النصوص من الناقد الشامل، وأوسع دراية في مجال إبداعهم، وأكثر قدرة للوصول إلى قصدية المؤلف، مثلاً أن الناقد الشاعر سيكون له قدرة على فهم القصيدة وتمييزها وتحليلها، بل تشريحها أكثر بكثير من الناقد الشامل، الذي سوف يطبق عليها ما تعلّمه عبر السنين من قوالب نقديّة جاهزة، ارتبطت بنظريات درسها ودرّسها، خاصة في ظل الفوضى والانفلات في عصر النقد الزوومي، الذي كرّس عملية موت الناقد، بعد أن حوّلت غالبية منصات الزووم النقاد والناقدات المهنيين الأكاديميين الشموليين إلى موظفين لديها وبلا أجر، أو وكلاء ووكيلات نقد، روبوتات آليّة تتحرك بالريمونت كونترول، فإنّ ما يكتبه الناقدُ الشاملُ لا أكثر من كونه نقد صحافة ينشر هنا أو هناك، ما هي إلا تحليلات انطباعية أو في أحسن أحوالها آراء شخصية، فإنني هنا أدعو إلى اختصاص الناقد، بعد أن انتهى عمليا دور الناقد الشمولي، بنعي موت الناقد، وبعد أن تحوّل هذا الناقد الشمولي إلى مروج ودعائي للأعمال الهابطة، لعدم إلمامه بعلمية التحليل المبنيّ على معايير نقدية دقيقة لكل جنس أدبي، حيث سقط بيدي أن الناقد الشمولي فعلاً يجهل معايير وقوانين وسمات الأجناس الأدبية، وهذا ما يقوده إلى الحديث عنها بشكل سطحي شمولي، وليس تفصيليا مهنيا مختصا. إن الاستعانة بالناقد المختص بجنس أدبي معين، يؤدي إلى قراءة دقيقة وجادة وأمينة للعمل الأدبي، ولا أجد في هذه الدعوة من ضرر، فقد كان الشاعر والناقد اليمني عبد العزيز المقالح، شاعرا وناقدا، وهو يعدُّ من النقاد العرب المهمين. وفي مجال الرواية مثلا هناك الروائي محمد برادة، لذلك أدعو إلى مفهوم الناقد المختص، وأن يترك الناقد الشمولي إلى النقد الصحافي، أما ما يخص الناقد الأكاديمي، فالأولى أن يختصر دوره إلى تدريس مادة النقد الأدبي، لأنّ دور الناقد الشمولي قد أنتهى نظريا وعمليا بموت الناقد الذي بني على مفهوم الناقد الشمولي. إن عملية الموت هذه بحاجة إلى ناقد مختص لإحيائها، بعد أن قادها الناقد الشمولي إلى نهاية مأساوية.
وبعد أن تابعت عن كثب كيف يتخبط هؤلاء النقاد الشموليون في تقييم النصوص وتحليلها وغالبيتهم، ممن يضعون أمام أسمائهم ألفا أو دالا، لدرجة انّهم لا يعرفون أبسط آليات أنواع الشعر أو الرواية، فهم يسقطون قوالبهم الجاهزة على كل قراءاتهم، وكل ما يهمهم هو أن يبثّ هذا التسجيل على اليوتيوب في ما يخصُّ منصات الزووم، أو يسارعون إلى نشره في صفحاتهم الشخصية على مواقع السوشيال ميديا والمجلات والصحف، ليحصدوا على التعليقات واللايكات من معلقين، لا يقرأون حرفا واحدا مما يكتبون، فالناقد الشمولي يتكلّم بشكل عام وبالأساليب ذاتها، التي لم تعد تنفع في قراءة النصوص، بينما الناقدُ المختصُّ بجنس أدبي، سيستخدم ثقافته الشعرية الإبداعية مع ثقافته المهنية في النقد، وهنا سوف يكون الحال مختلفاً بالنسبة للناقد الشمولي، الذي سيستخدم ثقافته المهنية فقط، والنتيجة إثنان إلى واحد، ورأيان خير من رأي واحد كما يقال.
ما دعاني إلى هذا المقال وهذه الدعوة، هو ما حصل أمامي في ندوتين على الزووم، في الأولى اكتشفت مدى الذهول الذي أصاب النقاد والناقدات الشموليين عندما اعترضت على الضيف وهو يصرّ على استخدام القافية التقليدية العمودية في قصيدة نثر، التي تكتب بلا وزن ولا قافية، وكيف كان موقف النقاد والناقدات من ملاحظتي هذه! الذين اتخذوا موقفا حادا مني في البداية، واستغربوا من اعتراضي، وبعد أن قمت بالشرح التفصيلي، أن قصيدة النثر تكتب بلا وزن ولا قافية، بدأوا يعوون دقة ملاحظتي وبدأوا بالاعتذار، وعند نهاية الندوة قاموا بالاتصال بصاحبة المنصة للإشادة بعلمية ودقة طروحاتي النقدية، فلم يوجد ناقد شاعر في هذه الندوة غيري، وبعد انتهاء الندوة قمت بقراءة دواوين هذا الضيف، لأكتشف في ما بعد أن غالبية نصوصه ولا أقول قصائده بالتقنية ذاتها، اي يستخدم القافية العمودية في قصيدة نثر، فضلا عن امتلائها بالأخطاء النحوية والصياغية، وهؤلاء النقاد والناقدات الشموليون كانوا يمرّون عليها مرور الكرام، دون أن يشيروا إليها، لعدم معرفتهم بآليات قصيدة النثر، أو بقواعد النحو الصارمة، حيث وجدت أن كل واحد من هؤلاء النقاد والناقدات الشموليين لديه ثلاث أو أربع دراسات عن نصوصه دون أن يشيروا أو يشخصوا هذه الخروقات، أمّا في الندوة الثانية، فوجدت أن النقاد لا يميزون بين قصيدة النثر والشعر الحر، ذلك الذي دعا إليه جبرا إبراهيم جبرا، وكتبه هو وتوفيق صائغ ومحمد الماغوط، وهو غير ما ادعته خطأ نازك الملائكة حيث أطلقت مسمى الشعر الحر على شعر التفعيلة free verse، بل وصل الأمر انّهم لا يعرفون أبسط آليات قصيدة النثر، سواء تلك التي وضعها ألويزيوس برتران Aloysius Bertrand «جاسبار الليل» Gaspard de la Nuit ثم جاء بودلير فواصل تطويرها في «سأم باريس» Le Spleen de Paris وتبعه رامبو بـ»الإشراقات»، ثم تلاه مالارميه في قصيدته «رمية نرد» Les Illuminations، ومن بعده جاء بضعة شعراء، أغلبهم فرنسيون، أو تلك التي كتبها عربيا حسين مردان وجماعة كركوك، ومن بعدهم جماعة مجلة «شعر» اللبنانية، إذن نحن أمام مشكلة حقيقية وواقعية تسمى أميّة الناقد أو الناقدة الشموليين، الذين لم تعد يهمهم غير الشهرة بأي وسيلة، وبكل سرعة ممكنة، وبأي طريقة كانت، وهذا ما أعاد مفهوم موت الناقد وموت النقد إلى الواجهة. إن العملية النقدية التي أصبحت بحاجة ماسة إلى الناقد المختص أو النوعي، الذي يدخل إلى تفاصيل وخفايا النصوص ويقوم بتحليلها وتفكيكها ومن ثمّ تشريحها، فهو أدرى باختصاصه وبالكيفية التي يدخل بها إلى النصوص، وإلى آليات هذه النصوص، فعلى سبيل المثال، الطبيب العام يعطيك رأيا عاما عن حالتك المرضية، لكن الأمر مختلف تماما عند الطبيب المختص، الذي يقوم بتشخيص دقيق لهذه الحالة، وبكل مهنية وعلمية، لأنّه سبق أن مرّت عليه حالات كثيرة مثل هذه وتراكم الخبرة قادته إلى هذه التشخيصات الدقيقة.
إنّ ما يحصل في غالبية منصات الزووم من تهريج نقدي شمولي، نسخة مما يحصل في لجان اختيار جوائز البوكر وغيرها في حقلي الشعر والرواية، فغالبية الدواوين والروايات التي فازت، لا تستحق هذا الفوز، لكنّ وجود لجان تقييم في هذه الجوائز يقودها نقاد شموليون لا علاقة لهم بعلمية التحليل أو دقته، قادت إلى أن تفوز نصوص شعرية وروائية مهلهلة النسيج، ركيكة الصياغة، ضعيفة اللغة، وبلا شك تلعب الوساطات والمحسوبيات والقطرية الضيقة دورها.

ناقد وشاعر عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب