
مافيش فايدة

إبراهيم عبد المجيد
راجت في مصر مقولة للزعيم سعد زغلول هي «مافيش فايدة»، تعليقا على أي شيء يرى من يقوم بالتعليق عليه، أو السؤال عنه، أنها الإجابة النهائية. تاريخيا لم يقل سعد زغلول ذلك تعليقا على النضال ضد الاستعمار البريطاني، لكن تعليقا على مرضه حين زاره أحد الأصدقاء وسأله عن تطور صحته. رغم ذلك، وأن هذا هو الأقرب إلى العقل، فقد راجت المقولة تعليقا على كثير من الأزمات.
تبدو شكلا إجابة نهائية، لكنها موضوعيا صارت مريحة لمن يقولها، ليبتعد عما يرى أنه لا قِبل له به، ولا قدرة له على المساهمة في حله. هذه الكلمة كثيرا ما أراها معلقة أمامي حين يسألني أحد عن أمر ما يخص حياتنا الثقافية، أو السياسية، لكنني أزيحها جانبا وأقوم بالإجابة، رغم أنني كثيرا ما أشعر أنه مافيش فايدة! خصوصا حين تتعلق الكتابة بما يجب أن تفعله الطبقة الحاكمة، التي اعتادت منذ نصف قرن أن تزيد في الأخطاء وتقلل من الجمال، خاصة في الصناعة والزراعة. اختلف الأمر قليلا في الثقافة، حين صار لها أيام حسني مبارك، مشروع عظيم مثل القراءة للجميع ومكتبة الأسرة، لكن هذا المشروع تقريبا انتهى، فالمشاريع في البلاد المركزية الحكم أو الديكتاتورية، لا تتسع ولا تكون لها قيمة، إلا إذا كان أحد رجال الحكم الكبار من رعاتها، وكانت سوزان مبارك هي راعية المشروع.
أقول إنه أحيانا يشملني هذا الإحساس، حتى إنني في كتاب صدر منذ قرابة العام، فيه شيء من مقالاتي، أعطيته عنوان «رسائل إلى لا أحد». رغم ذلك أظل أكتب ولا يضايقني في أي تعب صحي، غير أن يوقفني التعب عن الكتابة، لا ما أعانيه فيه من آلام، فأمر الصحة والعمر متروك لله. في الأيام الأخيرة وحتى كتابة هذه السطور، شغلت السوشيال ميديا حكاية كاتبة فائزة بالجائزة الأولى عن مجموعتها القصصية، في مسابقة السرد القصصي والروائي في المجلس الأعلى للثقافة، في دورة تحمل اسم الكاتب فتحي غانم. وكيف أنه في هذه المجموعة قصة قصيرة قيل إنها مسروقة من بوست سابق للكاتبة جلاء الطيري عن ابنتها، مع قليل من التحوير، بل إن الفائزة كانت قد سبق لها أن تقدمت بالقصة نفسها، إلى مسابقة للقصة القصيرة أقامها جروب مهم هو مكتبة وهبان، وتم استبعادها لاكتشافهم ذلك. في تلك المرة قالت الكاتبة إنها تأثرت بما كتبته جلاء الطيري وتعتذر لها. لكنها عادت وضمت القصة التي كتبتها إلى مجموعتها القصصية التي فازت.
لم أتوقف عند الأمر، فالسرقات تاريخ، وما يُنشر من قصص وروايات وقصائد، ينهمر مثل طوفان لا يمكن متابعته بدقة، ويحتاج جهدا كبيرا من النقاد قبل المبدعين. لا أحب أن أتحدث عن نفسي، وعن مشاهد بعينها تكررت عند البعض من قصصي ورواياتي في السينما أو الأدب، فقد فعلتها مرة منذ ربع قرن وتوقفت، لأني وجدت أنه مافيش فايدة! ووصلت الآن إلى درجة القناعة أنه سيأتي يوم أجد اسما آخر على رواية كاملة لي، ويساعد في ذلك الذكاء الاصطناعي. الذكاء الاصطناعي الذي سيعتمد عليه أنصاف وأرباع الموهوبين، أكثر من غيرهم في الإنتاج الأدبي، سيفعل ذلك. نحن ذاهبون إلى عالم عجيب يمكن أن يطلق فيه أنصاف الموهوبين الروبوتات تقتل الموهوبين!
بعد مسألة سرقة قصة جلاء الطيري، بدأ البعض يتحدث عن أن ذلك حدث معه. المدهش في هذا الحديث أن من يقول ذلك يعطي صفات للسارق دون أن يذكر اسمه، متصورا أن من يقرأ سيعرف، ويغيب السؤال كم من الكتاب يعرفهم أي كاتب في بلد مثل مصر بالصفات الشخصية. مصر فيها خمس وعشرون محافظة، وفي المحافظات أكثر من مئة قصر للثقافة، وأكثر من ثلاثمئة بيت للثقافة. في كل قصور الثقافة يوجد نادي أدب، ومن ثم صار عدد نوادي الأدب أكثر من مئة نادٍ، وفي كل نادٍ أكثر من عشرة كتاب. أنا هنا أضرب مثلا بأقل الأعداد الممكنة، فقصورالثقافة عددها أكبر، كما أن في بيوت الثقافة في القرى البعيدة عن المحافظة الرئيسية، نوادي أيضا للأدب. آخر مؤتمر لأدباء مصر جرى في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في محافظة المنيا في الصعيد، كان فيه أكثر من مئتي أديب، تم اختيارهم من كل المحافظات. طبعا يمكن أن تضيف الكثيرين لم يتم اختيارهم أو اعتذروا، أو لا يعجبهم المؤتمر. كان على من اتهم غيره بالسرقة منه أن يذكر اسم السارق وكتابه، أو نصه المسروق فيختصر الطريق.
ننتقل إلى الحديث عن الجوائز، الذي يتكرر مع كل جائزة، وكيف تحكمها اعتبارات شللية. والذي اشتعل هذه المرة أكثر من غيرها، بسبب القصة المتهمة صاحبتها بالسرقة، ومهما قلنا إن من يمنح الجائزة لجنة فيها عادة خمسة أفراد، ومن ثم من الصعب أن يكونوا شلة واحدة. وكيف سيتفق خمسة محكمين أو ثلاثة على إعطاء الجائزة لكاتبة متهمة بالسرقة، إلا إذا كانوا لم يقرأوا عن الأمر من قبل، خاصة وسط هذا السيل من الإنتاج القصصي. مؤكد، وإن كان هناك أحد لا يمكن أن يعلن ذلك، قد يكون هناك فرد على عداوة مع كاتب ما، فيبدأ في التقليل من شأن عمله المقدم للجائزة، لكن سيظل الأمر في دائرة نقاش العمل نفسه. لن يقول من يقلل من قيمة العمل أنه لا يحب الكاتب.. لم أكن أحب أن أنتقل إلى هذا الحديث عن الجوائز، لكنني وجدته مثارا أمامي بقوة، بسبب مسألة السرقة المذكورة في المجموعة القصصية الفائزة. لقد انتقل الحديث بالشبهات إلى كل الجوائز المصرية، التي تم الإعلان عنها في الأشهر القريبة، سواء من اتحاد الكتاب، أو من مؤتمر أدباء مصر، أو من المجلس الأعلى للثقافة. الأهم من ذلك كله سؤال، هل هناك فائدة في الكتابة أو الفن، وإذا كانت هناك فائدة، لماذا ينتحر بعض الفنانين أو يموتون كمدا، مثل ما قيل عن وفاة الموسيقار محمد رحيم كمدا، وهو الذي قدم أعمالا رائعة لمطربين مثل عمرو دياب أو نانسي عجرم أو شيرين أو تامر حسني أو غيرهم. الموت كمدا أو الانتحار، يمكن أن يأتي أيضا من الانتباه إلى الظلم، أو الإهمال للمبدع، فما الذي يمكن أن يُنجي المبدع من هذه النتيجة؟ أن يعتبر أن الفائدة المرجوة هي متعته بالإبداع. ربما لا تكون هناك فرصة لجني العائد المادي إلا الإبداع، كما هو في حالة الموسيقى أو الغناء، لكن في حالة الكتابة فهناك عمل آخر يمكن أن يعمله الكاتب، وهناك وظائف يمكن أن تساعد على الحياة. المهم أن لا ينغرز في صراعاتها فتشغله عن الكتابة. لم أقابل في حياتي في مصر كاتبا متفرغا للكتابة غير صنع الله إبراهيم، أو من توقفوا عن العمل الرسمي مثل محمد المنسي قنديل ومحمد المخزنجي، بعد أن قطعا رحلة طويلة في العمل في الكويت في مجلة «العربي»، أو كاتب المسرح السيد حافظ بعد عودته أيضا من الخارج. لا شك ساعدتهم أيام العمل في الخارج على ذلك. مؤكد هناك غيرهم، لكن كل من عرفتهم كانوا أصحاب وظائف أخرى في الصحف، أو في وزارة الثقافة، أو في الإذاعة والتلفزيون، أو في الجامعات، أو في شركات ومصانع ومؤسسات خدمية. ذكر الأسماء طويل جدا سيستغرق المقال. أنا شخصيا كنت موظفا في وزارة الثقافة لأكثر من ثلاثين سنة، لكنني كنت مغرما بالغياب أكثر من الحضور. وكلما اشتد الصراع حولي على منصب توليته، كنت أترك المنصب وأتفرغ للكتابة. والسؤال الذي يشغلني الآن، هل رؤيتي لشعار مافيش فايدة أمامي يساعدني على الاستمرار، أم سيكون له الأثر السيئ ويوقفني عن الكتابة؟ الحقيقة أنه عكس المتوقع، يريحني حقا، لكن يساعدني على الاستمرار، ويعجبني في عالم صارت التفاهة عنوانه.
كاتب مصري