هل لنا حق؟
د. ابتهال الخطيب
لي أيام أكتب وأمسح في هذه السطور، ساعة تأخذني مشاعر فرح عارمة بتحرر الشعب السوري من أسرة طاغية امتد حكمها ثلاثة وخمسين سنة، منذ تولي حافظ الأسد الحكم في 1971، وساعة يأخذني تأنيب ضمير الاحتفاء بما أضعف المقاومة الفلسطينية وخوف عارم بتشجيع ما يمكن أن يتحول إلى حكم إسلامي متطرف سيأخذ سوريا في اتجاه طالباني على أحسن تقدير. ساعة أقول لنفسي ألا تستحين التفكير فيما هو قادم والتحليل لما هو آت من علياء مكانك المرتاح الآمن الذي يمكنك من هذا التفكير والتحليل كما الأكاديمي المتعالي المنقطع عن الأرض والحدث، وساعة ألوم نفسي أن ألا تعقلي بدل الانجرار خلف مشاعر الفرح الآني فتلعبي الدور المفترض، مهما كان صغيراً، بقرع جرس إنذار تجاه ما يبدو أنه استبدال نظام ديكتاتوري بآخر، تجاه استبدال حليف لإيران بحليف لأمريكا، وكله على حساب الشعب السوري ومن ثم المقاومة الفلسطينية؟ لا أستطيع كبح مشاعر الفرح المعصور بالوجع في صباحات هذه الأيام وأنا أشاهد فيديوهات ضحايا النظام الحقير، وهم يخرجون من السجون ليرون النور بعد عقود وقد تبدلت بهم الحال بكل ما للكلمة من معنى متوحش وحارق، لتدخل صبيّة صغيرة السجن مثلاً وتخرج بعدها بثلاثة عقود وهي تحمل ثلاثة أطفال على كتفها دون أن تعرف مَن مِن مغتصبيها حملوها هؤلاء الأطفال، أو ليدخل شاب مثل مازن حمادة السجن مثلاً ليعذَّب عذاباً يفوق قدرة العقل على تصوره ثم لينجو بنفسه ويهاجر خارج سوريا ثم ليجتذبه النظام مرة أخرى للعودة ابتزازاً بأسرته، ليتم اعتقاله في المطار في رابع وآخر اعتقال له، والعثور عليه الآن جثة هامدة بعد سقوط نظام الفحش والقمع؛ أن نشهد فيديوهات خروج النساء المعتقلات من السجون لا يعرفن أين يولين وجوههن، وقد حل بهن رعب عدم الفهم أو التصديق والاسترابة بكل ما حولهن؛ أن نواجه تسجيلاً لهذا الشاب محوطاً بمن يحاولون معرفة اسمه بالكامل ومحل إقامته ليعيدوه لأهله، لكنه غير قادر على التعبير أو الكلام فيما يذكر تماماً بحالة أسير الاحتلال الصهيوني بدر، الذي بدا تائهاً غير قادر حتى على الرمش بعينيه؛ أن نرى كل هذه المشاهد المفجعة المسفرة عن أشخاص طحنهم النظام الفاحش السابق وتركهم حطاماً بفتات أرواحهم… ألا يحق لنا أن نفرح بحزن ونحزن بفرح على إنقاذ ما أمكن إنقاذه من هؤلاء الأبرياء؟
ثم يأتي الليل، فلا أستطيع كبح مشاعر الخوف وتأنيب الضمير، أقرأ التحليلات وأشاهد المقابلات وأُعمل المنطق الذي يتخدر بمشاعر الفرح طوال اليوم، فأرى مستقبلاً تتحول فيه سوريا إلى “طالبان” أخرى، بما أن أبو محمد الجولاني أقرب لهذا القالب منه لقالبي “القاعدة” و”داعش” المنشق هو عنهما، وقد تقسمت أرضها التاريخية وتشرذمت بقاعها الحضارية وحوصر أهلها الأحرار بحكم إسلامي قمعي يمسك زمامه من يجد نفسه مع الوقت وقد “اضطر” لفتح السجون والضرب بيد من حديد طبقاً لحجة كل ديكتاتور عبر تاريخنا البشري. يأتي الليل فأرى المقاومة الفلسطينية وقد تمزقت وتحولت إلى “أحزاب اجتماعية سلمية” بدءاً من “حزب الله” الذي سينضم تحت لواء الدولة اللبنانية (وهي بحد ذاتها خطوة ممتازة لولا ضعف الدولة اللبنانية غير القادرة على الصد عن نفسها، ولولا أن ذلك يعني إنهاء دور الحزب كذراع للمقاومة الفلسطينية وكشف الجنوب اللبناني)؛ إلى حماس التي قد تنطوي قسراً تحت مظلة فتح المتخاذلة؛ إلى الحكومة الإيرانية التي كانت تمد السلاح والعتاد للحزبين، “حزب الله” وحماس، والتي -أولاً- رفعت يدها بعد تنحي الموالي الروسي، وثانياً فقدت ممرها إلى “حزب الله” ومن ثم حماس، بعد مجيء سلطة جديدة لسوريا تبدو من خلال كل المؤشرات، بل ومن خلال متضمنات واضحة في السلوكيات والتصريحات، أنها موالية لأمريكا مؤتمرة بأمرها. يأتي الليل فتذهب السكرة وتأتي الفكرة، وبكل أنانية وكأن المشهد يعنيني وحدي، أحاسب نفسي: ماذا فعلت؟ هل وقفت الموقف الصحيح، أم أنني احتفيت بما سيعصر مجدداً الشعب السوري ويقضي على المقاومة الفلسطينية؟
الوقت ليس لصالح امتداد الفرح، ولكن لمَ؟ لم دوماً أفراحنا قصيرة، لم لا يحق لنا الاحتفاء بسقوط طاغية وتحرر الأبرياء من طغيان لربما هو الأفظع في منطقة الشرق الأوسط إبان القرن العشرين، لم يضاهه في بشاعته لربما سوى النظام العراقي الصدامي السابق؟
ثمن سقوط الطاغية كبير لا يحتمل احتفاء، ولكن لم؟ لم دوماً لا يتاح لنا سوى الاختيار بين السيئ والأسوأ، الاختيار بين طاغية سياسي أو متطرف إسلامي؟ وإذا كان هذان هما الخيارين الممكنين، فلم لا يحتفي الشعب حين يسقط أحدهما؟ هل كان من الممكن إسقاط نظام الأسد بأي يد أخرى غير يد الجماعات الإسلامية المتطرفة تلك؟ ألم تدر الشعوب العربية ظهورها للثورة السورية في 2011 وتركوها فريسة التدخلات الخارجية لتنهار ويدفع ثمنها الشعب السوري الضعف ضعفين؟ اليوم نأتي فنلوح أمام وجوههم المتعبة الشاحبة بعصي المنطق، بتحليلاته ومخاوفه القادمة، مش عيب سوي؟
ستنهار أذرع المقاومة الفلسطينية بانهيار نظام الأسد المفترس، وتلك النتيجة لربما هي حالياً أوجع مخرجات التحرر السوري من طاغيته. ولكن، لم يتحمل الشعب السوري وحده هذا الثمن؟ أين دور بقية الشعوب العربية؟ هل من العدالة تقييم المعاناة السورية ومدى “استحقاق” انتهائها من منظور القضية الفلسطينية؟ بلا شك، الاحتلال الصهيوني هو عدونا الأول وهو ما تتجه إليه أعيننا كل يوم، ولكن هل يصح أن يبقى كل في عقر داره آمناً محملاً الشعب السوري طاغية فوق رأسه ثمناً لاستمرار المقاومة؟ لربما نستطيع أن نحكم من مواقعنا المريحة على المشهد بعقلانية وتروّ، يمكننا أن نشاهد الخطة الأمريكية التركية وهي تحيك خيوطها على الأراضي السورية امتداداً للأراضي الفلسطينية، فتزرع حلفاء في سوريا، وتقضي على المقاومة الفلسطينية، ولكن هل يستطيع سوري الداخل الذي قضى عقوداً تحت التعذيب في سجون الطاغية رؤية ذلك؟ هل يحق لنا أن نطالبه بهذه الرؤية والعقلانية والمنطقية؟ وماذا عن الضرب الإسرائيلي لسوريا الآن؟ وماذا عن القصف المتوحش المستمر على غزة، الذي طرفت أعيننا عنه مع الأحداث السورية الأخيرة؟ من سيصد عن غزة بعد اليوم، بعد وقف المداد لحماس وانتهاء دور “حزب الله”؟ من سيصد عن سوريا بعد أن وقع جيشها الوطني (رغم أن الأخبار تقول إنه “لا كان يصد ولا يرد”) وبعد أن خرجت قوات “حزب الله” التي كانت تصد عن حدوده، وبعد القطع مع حليفه الإيراني الذي كان يمده بالسلاح؟ أي نموذج طالباني سيدفع به الجولاني في سوريا الآن، وإلى أي مدى سيذهب هو في تحالفه مع أمريكا وفي محاولته لتقديم نفسه منفصلاً عن ماضيه مع القاعدة، وعلى أنه مشروع مدني جديد قابل للوجود في المجتمع الدولي؟
تتوالى مشاهد قصف غزة فتنكمش الروح على فكرة أن لا قضية تسبق وقف هذه المجزرة الوحشية، تتوالى شهادات المعذبين على يد نظام الأسد فتنطوي أضلع الصدر على فكرة أن لا مخاوف تسبق أهمية إنقاذ هذا الشعب، تتوالى مشاهد مرعبة لممارسات فصائل المقاومة الإسلامية في “نشاطها” سابقاً فتفرغ الرئتين من الهواء لتنكمشا على فكرة أن لا تحرير يمكن أن يستقر بأياد مغمسة هكذا بالدماء. وهكذا تدور الأفكار، فكرة تلاحق أختها، ليأخذني نوم متوحش تنقلني كوابيسه لمشاهد تعذيب ومواقع تفجير وأطفال تلتحف بياض الأكفان، ومسلحين يلتحفون سواد بزات الحرب، ودنيا لا عدالة ولا سلام ولا منطق ولا إنسانية ولا معنى فيها ولها.
هل لنا حق في الفرح؟ هل لنا حق في التوجس والاسترابة والتخوف؟ هل لنا حق في النقد؟ هل لنا حق ربط مأساتَي سوريا وفلسطين؟ هل لنا حق في هذه الأسئلة؟