أصيلة المغربية جوهرة ساحلية تتنفس عبق التاريخ وجاذبية الثقافة
أصيلة المغربية جوهرة ساحلية تتنفس عبق التاريخ وجاذبية الثقافة
الطاهر الطويل
الرباط ـ أصيلة ليست مجرد مدينة ساحلية فحسب، بل هي أيضًا لوحة حية تشعّ بعنفوان التاريخ وجاذبية الثقافة والفن، وتجمع بين سحر الماضي وحيوية الحاضر، ما يجعلها وجهة لا غنى عنها للمسافرين الباحثين عن تجربة مغربية ذات نكهة متفردة.
وتعدّ المدينة العتيقة في أصيلة واحدة من أبرز معالمها الجاذبة. وتحيط بها أسوار ضخمة تعود إلى الحقبة البرتغالية، وتضم شوارع ضيقة ومبانٍ بيضاء مزينة بلوحات فنية نابضة بالألوان. وبذلك، توفر هذه الأجواء الهادئة التي تخلو من صخب المدن الكبرى، ملاذًا مثاليًا للباحثين عن الهدوء والإلهام.
أصيلة تترك دائمًا انطباعًا مميّزًا في قلوب زوارها، سواء بالتجول في شوارعها المزينة باللوحات الفنية، أو الاسترخاء على شواطئها البكر، أو الانغماس في مشهدها الثقافي الديناميكي. ففي هذه المدينة كل زاوية تحكي قصة، وكل لوحة تُلهم المتأمل فيها، وكل غروب شمس يترك أثرًا لا يُنسى. هي جوهرة ساحلية، وكنز يستحق الاكتشاف لمن يبحث عن مزيج متناغم بين التقاليد والحداثة.
تقع أصيلة في شمال غرب المغرب، على بعد 40 كيلومترًا جنوب مدينة طنجة، ما يجعلها وجهة سهلة الوصول للزوار، إذ توفّر القطارات والحافلات رحلات منتظمة بين المدينتين، كما يتيح قربها من مطار “طنجة ابن بطوطة” اتصالًا ممتازًا مع الوجهات الدولية. ويُجمع المؤرخون على أن قربها من رأس أشقار (أعلى نقطة في أفريقيا) ومدينتي طنجة وسبتة جعلها متأثرة بالأحداث التي تقع في هذه المناطق، كما أن قربها من مضيق جبل طارق، على غرار مدينة طنجة، جعلها مركزًا للتفاعلات الحضارية عبر القرون.
أصيلة الساحرة، الرابضة على الساحل الأطلسي للمغرب، تتميز بجمالها الطبيعي وتاريخها العريق وثقافتها الغنية، وتشتهر بجدرانها البيضاء المزينة بلوحات فنية نابضة بالحياة. الشيء الذي جعلها وجهة مفضلة للفنانين والمسافرين والمؤرخين على حد سواء. وبفضل مزيجها الفريد من التأثيرات الأندلسية والعربية والأمازيغية، تقدم أصيلة لمحة ساحرة عن التراث المغربي الذي يجمع بين التقاليد والحداثة.
محطات تاريخية
لا شك في أن زائر هذه المدينة تنفتح أمامه سيرتها التي تمتد عبر قرون خلت، من خلال كتب الرواة وأحاديث المؤرخين والباحثين وروايات الناس البسطاء، إذ يشكل تاريخ أصيلة لوحة نابضة بالأحداث والوقائع التي تعكس التحولات التي مر بها المغرب عبر العصور. من مدينة قديمة عاصرت الحضارات الكبرى إلى مركز مقاومة للاحتلال، تظل أصيلة شاهدًا على غنى المغرب الحضاري وثرائه التاريخي.
تمتد جذور هذه المدينة لآلاف السنين، وقد شكلتها حضارات مختلفة عبر التاريخ، إذ تأسست في الأصل على يد الفينيقيين في القرن العاشر قبل الميلاد كمركز تجاري مهم بفضل موقعها الاستراتيجي. وعلى مر القرون، حكمها الرومان والأمازيغ والعرب، وكل منهم ترك بصمته على ثقافتها ومعمارها.
في أواخر القرن الخامس عشر، سيطر البرتغاليون على أصيلة وجعلوها جزءًا من إمبراطوريتهم الساحلية الواسعة. وما تزال آثار التأثير البرتغالي واضحة إلى اليوم في الأسوار المحصنة التي تحيط بالمدينة العتيقة. وفي أواخر القرن السابع عشر، استعاد السلطان مولاي إسماعيل المدينة وأعادها إلى السيادة المغربية.
كانت أصيلة تُعرف قديمًا باسم زيليس، وقد عاصرت الحضارة القرطاجية، وتميّزت في عهد الملوك الموريتانيين بسك النقود. خلال الحقبة الرومانية تعرضت المدينة لتحولات كبيرة، بما في ذلك نفي سكانها الأصليين إلى إسبانيا وإحلال مستوطنين رومانيين محلهم، مع منحها حقوقًا قضائية ومالية خاصة، وفق دراسة لمؤرخ المملكة المغربية الراحل عبد الوهاب بن منصور.
مع دخول الإسلام إلى المغرب في القرن السابع الميلادي ـ يضيف المصدر نفسه ـ أعيدت تسميتها إلى أصيلة، وأصبحت مركزًا حضاريًا وثقافيًا مهمًا. في عهد الأدارسة، ارتبطت أصيلة ببعض أمرائهم، رغم وجود خلافات في المصادر التاريخية حول الشخصيات التي تولت إدارتها.
وشهدت أصيلة تطورًا ملحوظًا خلال العهدين المرابطي والموحّدي، لكنها تأثرت سلبيًا بعد معركة “العقاب” (سنة 1212) التي هُزم فيها الجيش المغربي أمام الإسبان، فأصبحت المدينة شبه خالية، ما دفع الفقيه أبو القاسم العزفي إلى هدم أسوارها خشية استيلاء الجيش القشتالي (الإسباني) عليها.
في وقت لاحق، أصبحت أصيلة مسرحًا للصراعات السياسية بين السلالات الحاكمة. وخلال الحكم المريني، ظهرت مجددًا كمركز استراتيجي، لكنها عانت من الغزو البرتغالي عام 1471 حيث احتلتها القوات البرتغالية بعد معركة دامية. في تلك الفترة، تحولت المدينة إلى قلعة عسكرية، واستُخدمت كنقطة انطلاق للغارات البرتغالية على المناطق المحيطة.
ومن ثم، شهدت أصيلة تحولات كبيرة خلال فترة الاحتلال البرتغالي والإسباني، ففي القرن السادس عشر، أصبحت نقطة انطلاق الملك البرتغالي سباستيان لحملته العسكرية الفاشلة التي انتهت بهزيمة البرتغاليين في معركة وادي المخازن عام 1578. بعد هذه الهزيمة، أعاد السلطان المغربي أحمد المنصور السيطرة على المدينة. وفي القرن السابع عشر، أجبر السلطان مولاي إسماعيل البرتغاليين على الانسحاب من أصيلة، وأعاد توطين المدينة بسكان جدد. وخلال القرن التاسع عشر، تعرضت لهجمات من الأسطولين النمساوي والإسباني، لكنها استعادت عافيتها تدريجيًا.
مع بداية القرن العشرين، خضعت مدينة أصيلة للنفوذ الإسباني ضمن الأقاليم الشمالية للمغرب. في عام 1906 استولى الزعيم القبلي أحمد الريسوني على المدينة وجعلها مقرًا لسلطته، لكن الإسبان تمكنوا لاحقًا من إخراجه. وقد لعبت المدينة دورًا رمزيًا في زيارة العاهل المغربي الراحل محمد الخامس عام 1947 إلى طنجة التي كانت خطوة بارزة في النضال من أجل استقلال المغرب.
جولة في المدينة العتيقة
وحين يضع الزائر قدماه على عتبات المدينة العتيقة، يجدها محاطة بأسوار وبوابات تاريخية بنيت في فترات مختلفة، أبرزها الفترة البرتغالية، وتضم بوابات مثل باب البحر وباب القصبة، كما تعتبر القصبة (أي القلعة) من أبرز المعالم التاريخية والثقافية، وهي منطقة داخل المدينة العتيقة تجمع بين الطابع الأندلسي والتأثير البرتغالي.
وتشتهر أصيلة أيضا بقصر الريسوني الذي بُني في أوائل القرن العشرين على يد أحمد الريسوني، وهو تحفة معمارية تطل على البحر، ويُستخدم حاليا مركزا ثقافيا ومكانا لاستضافة الأنشطة الفنية والمعارض. علاوة على ذلك، تضم المدينة أسواقًا تقليدية تبرز التراث المغربي من خلال الصناعات الحرفية، مثل السجاد والمجوهرات.
وإذا بحث المرء عن الجوانب الثقافية والعلمية لمدينة أصيلة، يصادفه الدور العلمي البارز لبعض العلماء من أمثال إبراهيم الأصيلي الذي كان له دور رائد في الفقه بالأندلس، حيث درّس في جامع قرطبة، ما يعكس مكانة المدينة كمحور للعلماء والفقهاء في العصور الإسلامية، بفضل موقعها الجغرافي والاستراتيجي الذي جعلها ملتقى للعلماء والتجار والمسافرين.
وذكرها الجغرافيون والمؤرخون المغاربة مثل الشريف الإدريسي وأبي عبيد البكري، اللذين سلطوا الضوء على أهميتها الجغرافية والحضارية. كما قام العلماء والفقهاء بالتوثيق لسكانها وأحداثها، خصوصًا في الحقبة الأندلسية. بجانب ذلك، تدلّ النقود المكتوبة بحروف بونية في العصور القديمة على ثقافة توثيقية واقتصادية مبكرة.
وتضم المدينة العديد من المساجد العريقة، مثل المسجد الأعظم الذي يُعدّ مركزًا للعبادة والتعليم الديني، كما اعتبرت المدارس القرآنية التقليدية جزءًا من المشهد الروحي والتعليمي للمدينة. أما في ما يتعلق بالحرف التقليدية والفنون، فإن مدينة أصيلة مركز لإحياء الحرف التقليدية مثل التطريز والنسيج والفخار، حيث يمكن للزوار شراء منتجات محلية أصيلة.
وعلى الرغم من سحرها التاريخي، احتضنت أصيلة الحداثة بطريقة تحافظ على تراثها؛ فقد أسهمت مشاريع البنية التحتية، بما في ذلك توسعة الطرق وإنشاء أماكن إقامة، في تعزيز جاذبيتها كوجهة سياحية. كما أولت المدينة اهتمامًا كبيرًا للسياحة المستدامة، لضمان ألاّ يأتي نموها على حساب بيئتها أو هويتها الثقافية، وتبرز مبادرات مثل الفنادق الصديقة للبيئة ومشاريع السياحة المجتمعية التزام أصيلة بالحفاظ على طابعها الفريد.
شاطئ كهف الحمام
وإلى جانب جاذبيتها التاريخية والمعمارية، تتمتع أصيلة بمناظر طبيعية خلابة تأسر القلوب، إذ تضم بعض أجمل الشواطئ في المغرب التي يقصدها المصطافون خلال فترة الصيف، بما في ذلك شاطئ كهف الحمام ويعرف أيضا بشاطئ الرميلات، وهو شاطئ منعزل يمتد برماله الذهبية محاطًا بالخضرة، ويمكن الوصول إليه بسهولة بالسيارة أو على ظهر الجمال، وهو مكان مثالي للاسترخاء أو ممارسة الأنشطة المائية. وتتوفر المدينة كذلك على شواطئ أخرى، كالشاطئ البلدي، وشاطئ الميناء الطيقان، وشاطئ أقواس برييش، وشاطئ المركب الأزرق، وشاطئ سيدي امغايث.
ويُعدّ غروب الشمس في أصيلة لحظة أسطورية، حيث تكتسي السماء بدرجات من اللونين البرتقالي والوردي، ما يضفي سحرًا خاصًا على الأجواء، وتُعتبر أسوار المدينة، خاصة برج قريقية، مكانًا مثاليًا للاستمتاع بهذا المشهد اليومي.
وبما أن تقاليد الطبخ تشكل جزءا من تراث الشعوب، فإن المطبخ الأصيل في أصيلة يعكس موقعها الساحلي وتأثيراتها الثقافية المتنوعة. ومن هنا، يجد الزائر نفسه منجذبا إلى المأكولات البحرية الطازجة التي تمثل جزءًا أساسيًا من المائدة، حيث تشتهر المدينة بأطباق لمختلف الأسماك. فضلا عن الأطباق المحلية، مثل الحريرة (حساء تقليدي) أو البيصارة (حساء يتكون غالبا من الفول المجفف) أو البريوات وهي معجنات مقرمشة محشوة بحشوات مالحة أو حلوة. وتوفر العديد من المطاعم تجربة تناول الطعام في الهواء الطلق، مما يتيح للزوار الاستمتاع بنسيم البحر والإطلالات الخلابة أثناء تناول وجباتهم.
منصة للحوار الثقافي
وشهدت أصيلة نهضة حديثة في أواخر القرن العشرين، بفضل جهود محمد بن عيسى، الوزير المغربي السابق وأحد أبناء المدينة ورئيس مجلسها البلدي، إذ قاد هذا الرجل منذ حوالي خمسة عقود، بمعية نخبة من أبناء المدينة، مشاريع تنموية ثقافية وبنية تحتية، حولت أصيلة إلى مركز للفنون والتبادل الفكري ومنصة للحوار الثقافي والحضاري، تعكس تاريخها العريق وفي الوقت نفسه انفتاحها الخلاق على مختلف الثقافات والحضارات.
وتتميز الحياة الثقافية في أصيلة بأحداثها السنوية، وعلى رأسها موسم أصيلة الثقافي الذي انطلق عام 1978 واكتسب شهرة عالمية، حيث يجذب الفنانين والكتّاب والمفكرين من مختلف أنحاء العالم. كما يضم الموسم وُرَش عمل في التعبير الأدبي والكتابة للطفل، وأخرى في الرسم والنحت والحرف التقليدية، بالإضافة إلى معارض للفن المعاصر والكلاسيكي.
ويشتهر الموسم أيضا ببعده الفكري، حيث تُعقد ندوات ومحاضرات حول القضايا العالمية الملحة، ما يجعله منصة للدبلوماسية الثقافية. وتحضر الفنون الأدائية في موسم أصيلة الثقافي، من خلال عروض موسيقية ورقصات، تجمع بين المواهب المغربية والعالمية. وبذلك، ساهم هذا الاحتفال في تعزيز مكانة أصيلة كمنارة ثقافية، تُبرز التراث المغربي الغني وتُشجع الحوار بين الثقافات المختلفة.
وتتميز المدينة العتيقة بجدرانها المزخرفة باللوحات الفنية المتجددة باستمرار. وخلال موسم أصيلة الثقافي الصيفي، يأتي الفنانون من جميع أنحاء العالم لرسم لوحات جديدة، ما حوّل الجداريات إلى جزء من الهوية البصرية للمدينة، وأيضا إلى معرض فني مفتوح يتغير طيلة العام.
ومن بين الفضاءات الثقافية التي تزخر بها أصيلة “مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية” وهو مؤسسة تهدف إلى تعزيز الحوار الثقافي بين المغرب والعالم، ويستضيف ندوات فكرية وثقافية خلال موسم أصيلة الثقافي، إلى جانب فعاليات أخرى على مدار العام.
كما تتوفر المدينة على معلمة ضخمة تتمثل في مكتبة الأمير بندر بن سلطان وهي مكتبة حديثة تهدف إلى دعم الثقافة والتعليم في المدينة، إذ تحتوي على مجموعة غنية من الكتب والمراجع، وتُعدّ وجهة مهمة للطلاب والباحثين.
«القدس العربي»: