ماكرون يختار حليفه بايرو: حكومة ما قبل الانتخابات المبكرة
ماكرون يختار حليفه بايرو: حكومة ما قبل الانتخابات المبكرة
لندن | اختار الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، حليفاً قديماً له، هو السياسي المخضرم فرانسوا بايرو (73 عاماً) لتشكيل حكومة جديدة، في أحدث محاولاته للتعامل مع الأزمة السياسية التي تمسك بخناق فرنسا، بعدما أنتجت انتخابات عامّة مبكرة كان دعا إليها، في حزيران الماضي، برلماناً منقسماً بشدّة من دون أغلبية لأحد. وحكومة بايرو المنتظرة هي الرابعة في أقلّ من عام واحد، وذلك بعد سقوط حكومة رئيس الوزراء السابق، ميشيل بارنييه، في تصويت بحجب الثقة عنها في البرلمان، إثر خلافات مع الكتل السياسية في “الجمعية الوطنية” حول موازنة عام 2025، والتي لم تُقرّ بعد وستتربّع تالياً على قمة جبل من القضايا سيتعيّن على بايرو التعامل معها.
وجاء إعلان تكليف بايرو بعد اجتماع مطوّل عقده مع ماكرون، واستمرّ لنحو ساعتين في قصر الإليزيه، ما دفع صحف باريس إلى التكهّن بوجود مساحات خلاف مع الرئيس الذي يعاني ضعفاً سياسياً شديداً في ولايته الثانية (تنتهي في عام 2027) بعدما خسرت كتلته الليبرالية الوسطية أغلبيتها في البرلمان. وقال رئيس الوزراء المكلّف، في أول تصريح له بعد تعيينه: “يعلم جميع الفرنسيين صعوبة المهمّة الملقاة على عاتقي، ويعلم الجميع أيضاً أن هنالك طريقاً شائكاً أمامنا، لكنه طريق للمضيّ قدماً يوحّد الناس بدلاً من تقسيمهم”. ويجمع بايرو، عمدة مدينة باو الجنوبية الغربية والوزير السابق الذي رُشّح لرئاسة الوزراء ثلاث مرات في تاريخه من دون أن يتولّى المنصب ونافس الرئيس ساركوزي في انتخابات رئاسة الجمهورية، بين التوجّه الليبرالي للأسواق مع تدابير تلفيقية لضمان حدّ أدنى من العدالة الاجتماعية – مثل فرض الضرائب على الأثرياء -، وهو كان أحد أوائل مؤيّدي ماكرون وداعميه للفوز في الانتخابات الرئاسية في عام 2017، وشغل قادة حزبه، “الحركة الديمقراطية”، مناصب وزارية رئيسية في حكومات ماكرون المتعاقبة. ووفقاً لفيليب فيجييه، أحد نواب “الحركة الديمقراطية” في البرلمان، فإن “قوة شخصية بايرو وعلاقاته السياسية عبر الأطياف ستساعده في حشد تأييد أوسع وسيتحدّث إلى الجميع، ويبني على الروابط الوثيقة التي بناها على مدى عقود”. لكنّ حزب المعارضة الرئيسي، “التجمع الوطني”، بادر إلى انتقاد خيار ماكرون الأحدث، ووصف رئيسه، جوردان بارديلا، الرئيس الفرنسي بأنه “كَمَن يعيش معزولاً في مخبأ، وينبغي لرئيس وزرائه الجديد أن يأخذ في الاعتبار الوضع السياسي الجديد في فرنسا (إن هو أراد الاستمرار في منصبه)”، في إشارة منه إلى الصعود المتعاظم في التأييد الشعبي لقوى أقصى اليمين.
يطمح ماكرون أن يجنّب بايرو مصير بارنييه عبر توفير مظلّة ثقة له، من دون الاعتماد على أقصى طرفَي معادلة البرلمان
وإذا كان بارنييه قد استغرق ثلاثة أشهر كاملة من دون أن يتمكّن من الحصول على تأييد البرلمان، فإن بايرو لا يمتلك ترف الوقت، إذ يتعيّن عليه أن يسارع إلى تشكيل حكومة، ومن ثم العمل على بناء توافقات عبر الكتل البرلمانية لتمرير موازنة للعام المقبل قد توقف نزيف ثقة المستثمرين، وتخفّف من إيقاع الارتفاع الصاروخي في تكاليف الإقراض الحكومي، وتساعد الجمهورية على التعامل مع ارتفاع البطالة، والتضخّم المفرط، وعجز الموازنات العامة.
وتتعرّض فرنسا – ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي بعد ألمانيا – إلى ضغوط من بروكسل (مقر المفوّضية الأوروبية) لتقليص عجز موازنتها البالغ 6% من الناتج القومي بحلول نهاية العام، وهو أعلى بكثير من سقف الاتحاد الأوروبي البالغ 3% من الناتج المحلي الإجمالي للدول الأعضاء.
وتتلخّص استراتيجية ماكرون تالياً، أقلّه وفق محادثاته مع زعماء أحزاب ممثّلة في البرلمان خلال الفترة القليلة الماضية، في استكشاف فرص بناء صيغة عدم اعتداء متبادل مع عدد من الكتل البرلمانية المعتدلة حول وسط الطيف السياسي، على نحو يسمح بحماية بايرو ويضمن بقاءه حتى ولو لستة أشهر أخرى، حين يمكن دستوريّاً لماكرون الدعوة مجدداً (في حزيران 2025) لحلّ البرلمان وإجراء انتخابات عامة مبكرة جديدة. ومن شأن ذلك أن يفرض على الرئيس تقديم مزيد من التنازلات المؤلمة لتلك الكتل.
ويطمح ماكرون أن يجنّب بايرو مصير بارنييه عبر توفير مظلّة ثقة له، من دون الاعتماد على أقصى طرفَي معادلة البرلمان الحالي: حزب “التجمع الوطني” (أقصى اليمين)، أكبر حزب منفرد في “الجمعية الوطنية” بـ124 مقعداً من أصل 577؛ وحزب “فرنسا الأبية” (أقصى اليسار)، بـ71 مقعداً. وتقاطع الخصمان الأيديولوجيان، “التجمع” و”فرنسا الأبية”، على سحب الثقة من ميشيل بارنييه، وأسقطا حكومته بدعم 331 نائباً. وسيتطلّب ذلك، إضافةً إلى ضمان تجانس الكتلة الوسطية التي تضمّ إلى حزب “النهضة” المؤيّد للرئيس (98 مقعداً)، حزب بايرو (36 مقعداً)، استقطاب نواب من “الحزب الجمهوري” (يمين الوسط – 51 مقعداً)، وعدد من مكوّنات تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة” اليساري الأقرب إلى الوسط وتحديداً الاشتراكيين، الذين يشغلون 66 مقعداً، وربما “الخضر” (38 مقعداً)، والشيوعيين (17 مقعداً).
ويتكهّن المراقبون بأن هذه المظلّة العريضة التي سيحاول ماكرون نسجها، ستكون أقلّ بكثير من ائتلاف حاكم، وأشدّ هشاشة من تحالف تقاسم السلطة الذي أبرمه حزب “النهضة” مع “الجمهوري” اليميني لتعويم حكومة بارنييه السابقة، وستستند أساساً إلى قائمة من السياسات التوافقية التي ينبغي دعمها بين الشركاء المحتملين مع الاتفاق على عدم الاتفاق بينهم حول القضايا الأكثر إثارة للجدل وتنحيتها جانباً على المدى القصير، كي يتسنى للحكومة الجديدة إنجاز المهمة الملحّة المتمثّلة بتمرير موازنة 2025. على أن مراقبين قالوا إن رهان ماكرون على كسر أواصر تحالف اليسار (الجبهة الشعبية) قد يكون مجرّد مقامرة أخرى خاسرة من سلسلة مقامرات فاشلة متلاحقة أنزلته منزلة رئيس ضعيف محاصَر، في وقت تتعدّد فيه الاستحقاقات المحلية – بما في ذلك الموازنة المعلّقة، والأزمات الاقتصادية، وصعود قوى أقصى اليمين، وتراجع النفوذ الفرنسي عبر العالم -، والأوروبيّة – مع تصاعد احتمالات انهيار الجبهة الأوكرانية والسقوط شبه المحتم لحكومة أولاف شولتس في برلين تالياً -، والعالمية – مع انتقال مفاتيح البيت الأبيض إلى إدارة الرئيس دونالد ترامب العازم على إشعال حرب تعرفات جمركية سيدفع الفرنسيون ثمنها كما غيرهم من الأوروبيين -. ويضاف هذا كلّه إلى احتمال أن يلجأ البرلمان، في حال فشل بايرو، إلى التصعيد ضدّ ماكرون، ومحاولة عزله قبل انتهاء ولايته الدستورية.
وعلى الرغم من أن أركان “الجبهة الشعبية الجديدة” (فرنسا العصية، والاشتراكي، والخضر، والشيوعي) ليسوا على قلب رجل واحد، وبينهم خلافات جذرية أحياناً حول بعض المسائل، إلّا أن وحدتهم – إلى الآن – سمحت لهم بعبور عدة استحقاقات مفصلية، وثمة تفاهم ضمني في ما بينهم على أن ماكرون ردّ لهم معروف دعم جبهته الجمهورية في وجه أقصى اليمين في جولة الإعادة خلال الانتخابات الأخيرة بخيانة تامّة من خلال كسره عرف تكليف رئيس وزراء من بينهم، بوصفهم الكتلة الأكبر في البرلمان، لمصلحة بارنييه الجمهوري – رابع أكبر أحزاب البرلمان -، ولذلك، فقناعتهم أنه لا يُؤمن جانبه. وتقول صحف فرنسية إن سياسيين من أحزاب اليسار أبلغوا ماكرون، عندما التقاهم الأسبوع الماضي، بأنهم لن يدعموا فرانسوا بايرو، ما يترك الأبواب مشرّعة على أقصاها لتمديد عمر ومفاعيل الأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد.