دفاعاً عن الحركة الإسلامية في سوريا
دفاعاً عن الحركة الإسلامية في سوريا
لم يكن انتقال حقل الدراسات الإسلامية من اللاهوت المقارن إلى الدراسات الشرق أوسطية أمراً عابراً في الأكاديميا الغربية البتة. يتفق كثير من الباحثين في كون أقسام الدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية اليوم، هي الوريث الجديد للاستشراق القديم. فمنذ عام 1952، أي منذ أن أصدرت حكومة أيزنهاور مرسوماً يحث الجامعات على افتتاح أقسام للدراسات العربية والإسلامية، بدأ الاستشراق الجديد يخط ملامحه مع غوستاف غرونباوم، هاملتون جب، وبرنارد لويس. نهاية عصر الفلسفة القارية دفع بهذه الظاهرة على نحو أكبر. ميشال فوكو في كتاباته عن الثورة الإيرانية، أوليفييه روا، ثم أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تبعها من تخصيص الموازنات لدراسات الإسلاميين، كلها جعلت حقل الدراسات الإسلامية حقلاً خاضعاً لمنظور الاستشراق الجديد ونظرته الفوقية للمسلمين وللإسلام السياسي. ومع ذلك ليست المشكلة في الغرب أو الأكاديميا الغربية (أصلاً لا أتوقّع من هذه الأكاديميا أن تتعاطى مع المسلمين كندٍّ معرفي بعد كل هزائم المسلمين على امتداد القرنين الفائتين). المشكلة في كثير من مثقفينا وأهل الرأي منا ممن يتعاطون مع الإسلاميين وتجاربهم الجهادية من منظور محض استشراقي. ورغم أن كثيراً من أهل الرأي ينتقد الاستشراق، إلا أنه يعيد المكرورات والتصورات الاستشراقية نفسها عن الحركة الإسلامية. فبنفس ما قسمت شيريل بينارد – على سبيل المثال لا الحصر – الإسلاميين إلى معتدلين وأصوليين وتنويريين، يتعاطى كثير منا مع الإسلاميين بهذه القسمة الاستشراقية نفسها دون أن يكلف نفسه عناء البحث في طبيعة هذه «الظاهرة» من داخلها ومن داخل الفواعل/ الروافع المنتِجة لها سياسياً.
إن سياسات الدولة الأمنية التي رأت في السلفية الجامية موئلاً وبديلاً عن الإسلام السياسي منذ أوائل الثمانينيات، لم تعمل على فهم الحالة الإسلامية بقدر ما عملت على شراء الوقت بإرجاء الأزمات المستحقة ولو عادت تلك الأزمات بأثر رجعي مضاعف
يعود الأمر في جنبة منه إلى نمو حقل الدراسات الاجتماعية في منطقتنا في كنف اليسار. اليسار نفسه لم يفض ثوب الاستشراق ولا مثقلات الأخير عن كاهله. حتى عندما درس اليساريون الإسلام والظاهرة الإسلامية، أوغل «الرفاق» في دراسة الإسلام في عهده الأول هرباً من حيثيات الظاهرة الإسلامية اليوم (كتاب حسين مروة «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» كان النموذج الصارخ)، وظل الواقع الإسلامي رهين نظرة اختزالية تعتبر الميل الديني نتاجاً لسياسات التنمية المختلّة؛ «المتديّن شخص بسيط» هرب إلى الآخرة لأن مقولاته غير تاريخية. ورغم من أن الشباب الإسلامي قاوم، وقاتل، وأصاب، أخطأ (كحال أي جماعة بشرية)، وأنتج أدمغة لامعة في حروب العصابات وفي الكمائن والحروب الهجينة (راجعوا تجربة أحمد شاه مسعود في أفغانستان، وعماد مغنية في الحرب الهجينة في لبنان، وخالد الشيخ محمد في تجربته الأمنية في باكستان، وأبو خالد السوري في حرب العصابات) إلا أن النظرة الاختزالية له ظلت حبيسة السرديات الوظيفية، طائفية كانت أم أكاديمية، موطوءة بمفعول رجعي غربي، تحرص على تقديم هذه الحركات بعنوان مختزل: جماعات أصولية وتكفيرية.
في إمكاننا اعتبار أدبيات سيد قطب بُعيد عام 1952 (مع بدء نشره سلسلة مقالات «نحو مجتمع إسلامي») بمنزلة مانيفيستو الحركة الإسلامية المعاصرة على اختلاف توجهاتها. ورغم الحضور الكبير للمسألة الاجتماعية والضد كولونيالية في ثنايا كتاباته جرت العادة على اختصار سيد قطب في كتابه «في ظلال القرآن» وفي تكفير الرجل للدولة والمجتمع. وإلى اليوم، لم تُدرس الظاهرة القطبية بما هي ظاهرة مجتمعية مركبة، دافع فيها المجتمع المحلي عن نفسه في مواجهة دولة مارست كل صنوف العنف والتغريب الثقافي والسياسي والعمراني، بل قُدّمت كتابات قطب باعتبارها عنفاً ثقافياً من طرف واحد. وبالمثل، لم تُقرأ تجربة الإخوان المسلمين خارج عباءة سيد قطب وأدبيات المودودي (وميراثنا الاستشراقي في قراءتهما) رغم عظيم ما قدمته هذه الحركة حتى أواخر الخمسينيات. في إمكاننا في هذا الإطار العودة إلى أدبيات المرشد العام للإخوان المسلمين، الشيخ مصطفى السباعي (رحمه الله) في تجربته السياسية السورية. فلقد ترأس السباعي الكتلة الاشتراكية الإسلامية بعيد انتخابه عضواً في البرلمان عام 1949، ثم اللجنة السوفياتية السورية الداعية إلى تسليح الجيش السوري بسلاح سوفياتي بعد فضيحة التسليح في حرب عام 1948 (مع امتناع الغرب عن تلبية طلبات سوريا للتسلح). وهذا كله قبيل إصداره كتاب «اشتراكية الإسلام» عام 1959، والذي شرّع فيه الإصلاحات الزراعية التي أثارت حفيظة إقطاعيي المدن والمؤسسة الدينية التقليدية.
مرة جديدة، أنا لست إزاء مدح الحركة الإسلامية أو قدحها، بقدر ما أتطلع لاستقرائها من داخلها باعتبارها حركة تخطئ وتصيب، وباعتبارها شريحة مجتمعية تؤثر وتتأثر بمفرزات الأنظمة وسياساتها التي عاثت عبثاً بمجتمعاتنا. حتى عند صدام الإسلاميين العنيف مع الدولة، لم يكن هذا الصدام منبت الصلة عما أسست له أنظمتنا من قسمة طالت بنى المجتمع وأسسه.
في إمكاننا اعتبار صبيحة 25 نيسان/ أبريل 1967 تاريخ بدء الصدام الرسمي بين الدولة والإسلاميين في سوريا، مع نشر إبراهيم خلاص مقاله «الطرق لخلق إنساننا العربي الجديد» في مجلة «جيش الشعب» صبيحة ذلك النهار. ورغم أسبقية المواجهة بين مروان حديد و«البعث» منذ عام 1964 (عندما أسس حديد لـ«جيش محمد»)، إلا أن نص خلاص كان بمنزلة النص الأول والمؤسس للصدام مع المجتمع وقيمه المحافظة. في إمكاننا قراءة الصدام العلماني الإسلامي كصدام بين شريحتين منتميتين إلى أسفل هرم الطبقة الوسطى؛ واحدة ريفية وجدت طريقها إلى «الوظيفة» عبر السلك العسكري، وأخرى مدينية ذَوَت وانكفأت إلى وعي دون مديني محافظ مع انكسار تجربة الوحدة بين مصر وسوريا بين عامي 1958 و1961، ومع تزايد شعورها بالإقصاء عن الانخراط في أجهزة الدولة. للأمر صلة بواقع العلاقة المتوترة بين الريف والمدينة تاريخياً، والذي يعود بتاريخه إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. واقع الأمر، لم يكن الصدام العلماني الإسلامي في سوريا مسألة فكرية أو صداماً بين اتجاهين ثقافيين، بقدر ما كان صداماً يختصر علاقة متوترة بين شريحتين اجتماعيتين منفصلتين عن بعضهما البعض، وقد التبس عليهما منطق الدولة ودورها ومؤداها. وكل ما تلى تلك الأزمة في الحقيقة لم يكن غير تكرار للأزمة المدينية – الريفية وضعف الدولة عن إيجاد فضاء جامع للسوريين. حتى عندما اصطدم الجيش بالإخوان المسلمين بعد حادثة مدرسة المدفعية في حزيران 1979، لم تكن الحادثة في عمقها غير تعبير عن علاقة متوترة بين المدينة والسلطة الجديدة بعدما خيب «الأسد الأب» أمل المدينة في انتهاج سياسات أكثر ليبرالية كان التجار يتطلعون إليها (لفهم أمل تجار المدن بحافظ الأسد يكفي استذكار يافطات «طلبنا من الله المدد فجاءنا حافظ الأسد» التي عُلقت على مداخل أسواق دمشق عشية وقوع الحركة التصحيحية في تشرين 1970)، ثم بدخوله لبنان عام 1976 وما أحدثه هذا الدخول من صدوع في وعي الطبقة الوسطى المدينية تجاه القومية والاشتراكية.
مرة جديدة، لست أمام محاكمة للحركة الإسلامية، دفاعاً عنها أو إدانة لها. لكني أجد نفسي أمام ضرورة استقرائها على نحو مختلف. إن سياسات الدولة الأمنية التي رأت في السلفية الجامية موئلاً وبديلاً عن الإسلام السياسي منذ أوائل الثمانينيات، لم تعمل على فهم الحالة الإسلامية بقدر ما عملت على شراء الوقت بإرجاء الأزمات المستحقة ولو عادت تلك الأزمات بأثر رجعي مضاعف. وبدلاً من المضي بمحاولة التفاهم مع الإسلاميين وفهم هواجسهم ومطالبهم، كان النظام يعمل على موازنة «مخاطر» الإسلاميين عبر اللعب على تناقضاتهم، فدعم «معهد الفتح» و«مجمع أبو النور» مرة، و«جماعة زيد» مرات أخرى، ثم الشيخ البوطي مرة، وعلماء الميدان مرات أخرى. الأمر نفسه قام به في البيئة الشيعية بدعمه الحوزة الشيرازية مرة والحوزة المدعومة من إيران مرات أخرى (وهذا بذاته يحتاج إلى شرح مطول لسنا بصدده الآن). وهكذا، لم تكن حالة جيش الإسلام – كمثال – في الغوطة منبتة الصلة عن سياسات مارسها النظام لعقود عزز فيها التوجهات السلفية من منطلق «الإسلام السعودي خير من الإسلام الإخواني السياسي». كما لم يكن وجود «فيلق الرحمن» منبت الصلة عن بيئة «جماعة زيد» (تحديداً الشيخ سارية الرفاعي) التي رعاها النظام في مدة من المُدد للحد من نفوذ الشيخ البوطي في البيئة الشامية الأشعرية. وهكذا، كانت إدارة المخاطر والإكراهات بالنسبة إلى النظام تفضي دوماً إلى خلل في إدارة الأزمات وتفاقمها بدلاً من حلها. بالتأكيد، لن يسعفني هذا المقال في شرح ما ألمّ بالحركة الإسلامية وما نزل بها. وقد يحدو بي الأمر للكتابة عن سوريا والحركة الإسلامية فيها الكثير من «المقالات السورية». لكني، وحتى «يقضي الله أمراً كان مفعولاً» سأبقى أدافع عن الحركة الإسلامية في سوريا باعتبارها نسيجاً ومفرزاً طبيعياً و«طيباً» من مفرزات التراب السوري، وأدعو إلى إعادة قراءة تجربة الإسلاميين في سوريا بعيداً عن مسبقات الأجوبة الناجزة غير الصالحة لتفسيرها أو فهمها من داخلها.
* كاتب