يد الأمم المتّحدة ملطّخة بدماء أجيالٍ من الفلسطينيّين
يد الأمم المتّحدة ملطّخة بدماء أجيالٍ من الفلسطينيّين
على الرغم من أنها غالبًا ما تُرى كهدف للعدوان الإسرائيلي، إلا أنّ للأمم المتحدة دورًا حاسمًا في قمع الفلسطينيين على الدّوام…
مع تكشّف الفترة الأكثر فظاعة على الإطلاق في تاريخ للفلسطينيين –والتي قُتل فيها ما لا يقل عن 44 ألف شخص، بما في ذلك 17 ألف طفل– أمام أعيننا، أصبح من الضروري الخوض في مسألةِ مَن يتحمل المسؤولية التاريخية والحالية عن الوضع الذي تعيشه فلسطين اليوم. وثمّة مكان واحد يمكننا أن نبدأ منه: الأمم المتحدة.
تفتخر الأمم المتحدة بأنها أكبر منظمة في العالم، وتزعم أن هدفها هو «الحفاظ على السلام والأمن الدوليين». تعدّ الأمم المتحدة، من الناحية النظرية، بمثابة السلطة العالمية المختصة بحقوق الإنسان، وهي الآلية التي يتم من خلالها إنشاء القانون الدولي وإنفاذه (على البعض أكثر من غيرهم).
كان دور الأمم المتحدة في حالة فلسطين، وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، كارثيًا. في حين يُنظر إليها عالميًا على أنها ضحية للقيود الإسرائيلية، وخاصة مع التخفيضات الشديدة في التمويل لوكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين، إلا أنها في الواقع عملت تاريخيًا بوصفها أداةً لتحقيق الطموحات الإمبريالية والاستعمارية للقوى العالمية التي اخترعتها. ولعل المثال الأكثر رعبًا على ذلك ما حدث في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947، عندما وافقت الأمم المتحدة رسميًا على خطة لتقسيم فلسطين، الأمر الذي أعطى الميليشيات الصهيونية الضوء الأخضر لتمزيق الدولة ضد إرادة شعبها والعالم العربي.
تشارك بعض القوى نفسها التي أنشأت الأمم المتحدة «لمراقبة العالم» في نهاية الحرب العالمية الثانية الآن في الإبادة الجماعية المروعة التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة، وساعدت في تنظيم العقود السبعة الماضية من المحو والتطهير العرقي وسرقة الأراضي والقتل وتدمير شعب بأكمله. وإذا كانت أحداث الأشهر الاثني عشر الماضية قد علمتنا أي شيء، فهو أن الفلسطينيين لا يقاتلون فقط الأنظمة الأقوى في العالم أو حلفائهم العرب الأشرار في المنطقة. بل إنهم يقاتلون من أجل بقائهم ضد النظام السياسي العالمي بأكمله الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية.
كانت الأمم المتحدة من بنات أفكار الولايات المتحدة كوسيلة لتأمين مصالحها ومصالح حلفائها –المملكة المتحدة وروسيا (الاتحاد السوفييتي آنذاك) والصين. أطلقت المجموعة على نفسها اسم «رجال الشرطة الأربعة» للعالم. مع إضافة فرنسا، أصبحت هذه القوى العالمية اليوم تشكل الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والمعروفة باسم «الدول الخمس الدائمة العضوية». وباعتباره الجهاز الأكثر حيوية وتأثيرًا في الأمم المتحدة، عمل مجلس الأمن مشرفًا أساسيًا على الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي الذي أحدث دمارًا هائلًا في حياة الملايين من الفلسطينيين والعالم العربي الأوسع.
ورغم أنه لا ينبغي اعتباره نقطة البداية للاستعمار الصهيوني، فإن خطة التقسيم التي أقرتها الأمم المتحدة –والتي يشار إليها بالقرار 181– تظل تشكل عنصرًا مركزيًا في خريطة وواقع فلسطين اليوم. لقد كانت هذه الحرب بمثابة المحفز الذي أطلق عملية التطهير العرقي العنيف المنظم والممنهج لفلسطين بين عامي 1947 و1949، وأعدّت المسرح للسياسات نفسها على مدى العقود السبعة التالية.
كما كان قرار التقسيم هو السبب الرئيسي لإنشاء وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، مما أدى إلى ترسيخ وجود الفلسطينيين بوصفهم مجموعة من اللاجئين تعتمد على المساعدات الأجنبية. وهذا هو السبب أيضًا وراء معاناة فلسطين من «أطول أزمة لاجئين دون حل في العالم».
ارتكبت الميليشيات الصهيونية في الأشهر الستة بين إقرار خطة التقسيم في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947 و15 مايو/أيار 1948 بالفعل بعضًا من أفظع مجازرها، وطردت نصف العدد الإجمالي للفلسطينيين الذين سيتم تهجيرهم في نهاية المطاف خلال النكبة. وعلى الرغم من أن الاعتراضات الفلسطينية والدولية على الخطة كانت عالية وواضحة، إلا أن القوى العالمية فرضتها على أي حال.
«ينطوي التقسيم على تقسيم الأراضي وتدمير سلامة دولة فلسطين. لا يحقّ للأمم المتحدة التصرف في الأراضي أو التنازل عنها، ولا تستطيع حرمان أغلبية شعب فلسطين من أراضيهم ونقلها إلى الاستخدام الحصري لأقلية في البلاد»، هذا ما قالته لجنة فرعية مكونة من أفغانستان وكولومبيا والعراق ولبنان وباكستان والمملكة العربية السعودية وسورية واليمن، في المداولات التي سبقت التصويت على خطة التقسيم. وأضافت اللجنة أن «تسوية الحكومة الفلسطينية المستقبلية هي مسألة تخص الشعب الفلسطيني وحده».
«ما السلطة التي تملكها الأمم المتحدة لفعل هذا؟ ما السلطة القانونية والقضائية التي تملكها للقيام بهذا الأمر، وجعل دولة مستقلة خاضعة إلى الأبد لإدارة الأمم المتحدة؟» هذا ما قاله وزير خارجية باكستان آنذاك، السير تشودري ظفر الله خان، في خطاب ألقاه في الأمم المتحدة. وأضاف «بعد أن نقسم فلسطين بهذه الطريقة، فإننا نضع جسدها النازف على الصليب إلى الأبد. هذا لن يكون مؤقتًا، هذا أمر دائم. فلسطين لن تكون ملكا لشعبها، بل ستبقى ممدودة على الصليب».
وتحدى المندوب السوري لدى الأمم المتحدة الجهود التي تبذلها القوى الغربية لحل الأزمة في أراضيها –أي الإبادة الجماعية واضطهاد اليهود في جميع أنحاء أوروبا– من خلال تدمير وطن شعب آخر. وقال «إن قضية فلسطين مستقلة تمامًا ومنفصلة عن قضية الأشخاص المضطهدين في أوروبا. العرب في فلسطين ليسوا مسؤولين بأي حال من الأحوال عن اضطهاد اليهود في أوروبا».
وقال عسّاف علي السفير الهندي لدى الولايات المتحدة آنذاك، في 15 مايو/أيار 1947، أي قبل عام واحد من النكبة «أصبحت فلسطين بمثابة الاختبار الحقيقي للضمير الإنساني. وستجد الأمم المتحدة أن مستقبل البشرية سوف يعتمد على قرارها، وما إذا كانت البشرية سوف تستمر في المضي قدمًا بالوسائل السلمية أو ما إذا كانت البشرية سوف تتمزق إربًا. إذا صدر قرار خاطئ من هذه الجمعية، فإنني أؤكد لكم أن العالم سوف ينقسم إلى نصفين ولن يكون هناك سلام على الأرض».
ليست هذه سوى مقتطفات من الاعتراضات التي أُبديت على خطة تقسيم فلسطين والتحذيرات من تداعيات مثل هذا القرار. ورغم الظلم الشديد الذي نشأت بسببه إسرائيل، فإن الأمم المتحدة أضافت الملح إلى الجراح من خلال تمرير قرار يمنح إسرائيل العضوية في المنظمة، ويصفها بأنها «دولة محبة للسلام»، وبالتالي إضفاء الشرعية على الاستعمار الاستيطاني والعنف كوسيلة لتحقيق غاياتها. وبينما واصلت إسرائيل قتل ونهب وتشريد الفلسطينيين منذ إعلان الدولة، هناك سبب يجعل الفلسطينيين لم يروا العدالة أبدًا، ولماذا، على الرغم من الدعوات العالمية لوقف إطلاق النار في غزة، لم يتم الاستجابة لمطالبهم؟
وذلك لأن الأنظمة الغربية التي أنشأت الأمم المتحدة وتسيطر عليها من خلال مجلس الأمن هي نفسها الأنظمة التي دعمت إنشاء إسرائيل. إنهم يستثمرون في وجودها كموقع عسكري واستيطاني لحماية مصالحهم في المنطقة، بغض النظر عن مقدار الضرر الذي تسببه للفلسطينيين.
وبما أن وجود إسرائيل يقوم على التطهير العرقي وتدمير فلسطين، فإن الأمم المتحدة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالقتل المستمر للفلسطينيين. من تقسيم فلسطين إلى إضفاء الشرعية على مستعمرة المستوطنين والمساعدة في الحفاظ عليها على مدى السنوات الـ 76 الماضية مع انتهاكها لكل قانون دولي تم إنشاؤه، أدّى مجلس الأمن، إلى جانب دول أخرى مستثمرة مثل ألمانيا وأستراليا، دورًا رئيسًا في تمكين إسرائيل من انتهاكات القانون الدولي.
وفي هذا السياق، فإن هؤلاء الفاعلين متواطئون تمامًا مثل إسرائيل في الإبادة الجماعية المستمرة، والتي تسعى في حملتها الإقصائية في قطاع غزّة إلى إبادة ثلث إجمالي السكان الفلسطينيين البالغ عددهم 6 ملايين نسمة بين النهر والبحر. ويجب محاكمة صناع القرار في حكومات الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، بدءًا من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، ليس فقط على الدماء التي تلطخت أيديهم اليوم، بل وأيضًا على أدوارهم التاريخية في قرار التقسيم غير العادل لفلسطين وعواقبه المدمرة.
دعت منظمة أوكسفام، من بين منظمات أخرى، إلى إصلاح نظام الأمم المتحدة في الأشهر الأخيرة، مشيرة إلى أن الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن «تستغل سلطاتها الحصرية في التصويت والتفاوض بما يتناسب مع مصالحها الجيوسياسية». وقالت المجموعة إن «التناقضات في تصرفهم كقضاة ومحلفين لتحالفاتهم العسكرية ومصالحهم ومغامراتهم تتعارض مع عالم يسعى إلى السلام والعدالة للجميع»، موضحة أن القوى الخمس عرقلت التقدم في سورية وأوكرانيا وفلسطين أكثر من أي مكان آخر.
أصبحت الأمور صعبة بشكل غير مسبوق على مدار العام الماضي بالنسبة للفلسطينيين، ليس في قطاع غزّة فحسب، بل في جميع الأراضي المحتلة عسكريًا في الضفة الغربية والقدس. ويشمل ذلك الهجمات المنظمة القاتلة التي يشنها المستوطنون والجيش، والتي تؤدي إلى القتل والإصابة بشكل منهجي، وسرقة الأراضي على نطاق واسع والتطهير العرقي، وحصار المدن والقرى الفلسطينية، والاعتقالات، والاحتجاز التعسفي، والتعذيب، والحرمان الشديد من حرية التنقل، على سبيل المثال لا الحصر. يواجه الشعب الفلسطيني الإبادة ليس فقط من قبل إسرائيل، بل من قبل قوى النظام العالمي. إذا لم يتم إيقاف هذه الأنظمة من الداخل عبر التعبئة الشعبية، فإن الإبادة الجماعية في قطاع غزّة ستكون مجرد البداية.