77 عاما على قرار التقسيم: من حركة العصيان العبري 1945 حتى بعد لجنة “موريسون- چريدي” 1946 (32/7)
77 عاما على قرار التقسيم: من حركة العصيان العبري 1945 حتى بعد لجنة “موريسون- چريدي” 1946 (32/7)
وقفت بريطانيا أمام معضلة صعبة، حيث إن الأمور تزداد تعقيدًا بدل أن تقترب من حلّ منطقي، لذلك كان عليها أن تحاول للمرّة الأخيرة أن تجد ما يتفق عليه طرفا الصراع بالإضافة إلى الولايات المتحدة
في خطاب له أمام مئات المراهقين في القدس، وذلك في 24 أيار / مايو 1939، أي بعد أسبوع واحد من نشر الكتاب الأبيض، قال رئيس الوكالة اليهودية “بن غوريون” بأن الصهيونية قد مرت حتى الآن بفترتين مختلفتين، الأولى تبدأ في ثمانينات القرن التاسع عشر، والتي سماها “حب صهيون”، حيث إن هجرة اليهود إلى فلسطين كانت بدون أي أساس قانوني. أما الفترة الثانية، فقد استندت إلى وعد بلفور، وسماها بالصهيونية السياسية، حيث إن اليهود استفادوا فيها من مساعدة دولة الانتداب. ادعى “بن غوريون” في خطابه هذا، أن الفترة الثانية انتهت عندما أقرّت بريطانيا كتابها الأبيض، الذي تنصلت فيه من وعودها للحركة الصهيونية، مما اعتبره “بن غوريون” بداية الفترة الثالثة، والتي بدأت قبل أسبوع من خطابه، وسماها بالصهيونية المحاربة. واستمر في خطابه قائلًا “إن استمرار عملياتنا الصهيونية ستتم فقط بواسطة الحرب”. كانت كلماته هذه إعلانا ببدء مرحلة جديدة من علاقات الحركة الصهيونية بالحكومة البريطانية، وهو بذلك أطلق الشرارة الأولى لما أطلق عليه فيما بعد بالعصيان العبري أو التمرد العبري. ولكن هذه الشرارة لم تشتعل نار التمرد في الفئة الغالبة من الحركة الصهيونية، والذي يقف على رأسها “بن غوريون” نفسه، و”حاييم وايزمان” الذي كان من المعارضين بشدّة لأي عمل معادٍ للحكومة البريطانية، كونه اعتقد، وبحق، أن هذه الحكومة هي من وفرت كل الوسائل والسبل إلى قدوم المستوطنين اليهود إلى فلسطين، وسيطرتهم على الأرض وبناء المستوطنات الاستعمارية، وهي التي ساعدتهم على تطوير مؤسساتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية على أرض فلسطين، ولذلك فإن هذه الحكومة لن تقوم بالتنصل من التزامات وعد بلفور وصكّ الانتداب اتجاه الحركة الصهيونية.
كانت منظمة “الهجاناة” العسكرية وذراعها الضارب “البلماح” تنضوي تحت لواء الوكالة الصهيونية وتنفذ مآربها، لذلك لم تنفذ هذه المنظمة أي عملية عسكرية ضد الحكومة البريطانية في فلسطين بعد صدور الكتاب الأبيض عام 1939، بعكس منظمتي “الايتسل” و”الليحي” العسكريتين اللتين انفصلتا عن “الهجاناة” سابقًا، ونفذتا بعض التفجيرات والأعمال الإرهابية ضد العرب والبريطانيين، قبل بدء الحرب العالمية الثانية، ولكنهما أوقفتا كل نشاطاتهما العسكرية ضد بريطانيا مع نشوب الحرب العالمية الثانية في أيلول / سبتمبر 1948، على اعتبار أن ألمانيا هي العدو الأكبر لليهود، ولذلك ستقف كل الفئات والحركات الصهيونية مع بريطانيا ودول الحلفاء في حربهم ضد ألمانيا النازية.
“بن غوريون” يعطي الأمر ببدء العصيان
ما إن وضعت الحرب العالمية أوزارها في أوروبا في أيار / مايو 1945، حتى أعلنت منظمة “الايتسل” أنها ستعود إلى تنظيم عمليتها العسكرية ضد بريطانيا، حيث أصدرت في 12 أيار / مايو 1945، بيانًا طالبت فيها حكومة الانتداب “بإخلاء كل مكاتبها وعماراتها وبيوت مسؤوليها من المدنيين والأطفال والنساء”، وذلك لأن منظمة “الايتسل” ستقوم بقصف المؤسسات الحكومية، مثل فندق الملك دافيد” وعدة مراكز شرطة براجمات القنابل. لكن هذه الخطة لم تخرج إلى حيّز التنفيذ بسبب تبليغ “الهجاناة” عن ذلك للسلطة البريطانية. لم يمنع هذا منظمة “الايتسل” من تنفيذ عمليات تخريب أخرى في أعمدة الهواتف والتلغراف في 16 و 18 و 22 من الشهر ذاته، ونجاحها في ذلك. لكنها فشلت في محاولتين قامت بهما من أجل تخريب أنابيب النفط.
من جهة أخرى، وفي الأول من آب / أغسطس 1945، انعقد مؤتمر صهيوني عالمي في لندن، وذلك بعد أن فاز حزب العمال البريطاني في الانتخابات التي أجريت في 5 تموز / يوليو 1945. كان حزب العمال قد وعد خلال الحملة الانتخابية بتنفيذ الوعد لليهود في فلسطين، وكان لدى الصهاينة أمل كبير في إلغاء سياسة الكتاب الأبيض. في المؤتمر شدّد “بن غوريون” مرّة أخرى على ضرورة التمرد على الحكومة البريطانية في فلسطين إذا لم يتم إلغاء القيود على الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وحذر من أن الحكومة الجديدة من الممكن أن تقوم بتغيير سياستها اتجاه الاستيطان اليهودي، لأن “هناك فرق بين حزب معارض وحزب في السلطة، ولا يوجد ضمان بأن سياسة حزب العمال لن تتغير”. وفي نهاية خطابه وجه “بن غوريون” خطابه إلى “أصدقاء اليهود” في إنجلترا: “أو أننا نقف على أعتاب إقامة دولة يهودية، أو أننا في الطريق إلى صراع مرير وحادّ، يشارك فيه خيرة أبناء الشعب اليهودي، مهما كان الثمن”.
خلال شهر أيلول / سبتمبر 1945، قام ممثلو الوكالة الصهيونية، وعلى رأسهم “حاييم ڤايتسمان” و”بن غوريون” و”موشي شرتوك”، بإجراء اتصالات حثيثة مع ممثلي الحكومة البريطانية الجديدة، على أمل التوصل إلى حل أو اتفاق بالنسبة للمطالب الصهيونية، ولكن هذه الاتصالات لم تؤدي إلى شيء، لأن وزير المستعمرات قال إن حكومته ما زالت جديدة ولديها الكثير لتقوم به، ولذلك على الوكالة الصهيونية أن تتحلى بالصبر، وأن سياسة الكتاب الأبيض بشأن الهجرة اليهودية لن تتغير في القريب العاجل.
بعد فشل الوكالة الصهيونية في التوصل إلى ما تريده من الحكومة البريطانية، اجتمعت قيادة حزب “مباي”، وهو الحزب الأكبر صهيونيًا، في 27 أيلول / سبتمبر 1945، وخلال الاجتماع طرح بعض المندوبين فكرة العمل المشترك مع منظمتي “الايتسل” و”الليحي” من أجل تنفيذ عمليات عسكرية ضد المصالح البريطانية في فلسطين، ولكن هذا الاقتراح لاقى معارضة من فئات واسعة في إدارة الوكالة الصهيونية وحزب “مباي”. كان “بن غوريون” يحمل رأيًا آخر، فقد كان مصرّاً على مقاطعة الاتصالات مع حكومة لندن بشكل فوري، وعلى تصعيد الصراع معها إلى أعلى الدرجات في فلسطين، وحتى اللجوء إلى عمليات عدائية ضدّها، ولو كان ذلك بالتعاون مع التنظيمات الصهيونية الانفصالية.
في 1 تشرين الأول / أكتوبر 1945، أرسل “بن غوريون” برقية مشفّرة إلى “موشي سنيه” في البلاد، يطلب منه البدء في حركة العصيان بقيادة تنظيم “الهجاناة”، ومحاولة التوصل إلى صيغة تعاون وعمل مشترك مع تنظيمي “الايتسل” و”الليحي”، وبدون الحصول على تصريح بذلك من المؤسسات الصهيونية الرسمية، وفقط في 6 كانون أول / ديسمبر 1945 قررت إدارة الوكالة الصهيونية أن ترفع التصعيد مع حكومة الانتداب، وفي 11 كانون أول / ديسمبر قررت ذلك اللجنة التنفيذية الصهيونية المصغرة.
تأسيس حركة العصيان العبري عام 1945
في 4 تشرين الأول / أكتوبر 1945، تجدد البث الحيّ لمحطة الإذاعة “صوت إسرائيل” في إشارة إلى بدء العصيان على بريطانيا. في 6 تشرين الأول / أكتوبر 1945، حاول ضابطان بريطانيان أن يقتربا من 53 يهوديًا متسللًا من لبنان إلى فلسطين، ولكنهم طُردوا على يد أعضاء كيبوتس “كفار چلعادي” الواقع على الحدود مع لبنان، ولم تنجح النجدة البريطانية من الوصول إلى المتسللين الذين أصبحوا داخل الكيبوتس. حتى الساعة 15:00 بقي الكيبوتس محاصرًا حتى قدمت إليه مجموعة من اليهود سكان “تل حاي” والتي نجحت في النهاية من دخول الكيبوتس، رغم جرح 9 من أفرادها على يد الجيش البريطاني. في اليوم التالي، استغلت إدارة “الييشوڤ” اليهودي هذا الحدث لتعلن إضرابًا عامًا، ونظمت مظاهرات صاخبة تدعو إلى تمزيق الكتاب الأبيض والتخلص من سياسته.
كان هذا هو الحدث الأول الذي استطاع فيه اليهود فرض قبول مستوطنين جدد، مع أن هذا يتناقض مع سياسة الكتاب الأبيض.
في ليلة 9-10 تشرين الأول / أكتوبر 1945، نفذ “البالماخ”عمليته الأولى في إطار العصيان العبري، عندما قامت قوة منه بإخراج 208 من المحتجزين اليهود في معسكر “عتليت”، والذين احتجزتهم بريطانيا بسبب قدومهم الغير قانوني إلى البلاد.
نفذت “الهجاناة” هذه العملية بدون أن تطلع شركاءها الجدد، “ايتسل” و”ليحي” على نيتها القيام بهذه العملية، رغم أن القيادة المشتركة من التنظيمات الثلاثة كانت قد تكونت في شهر أيلول / سبتمبر 1945. بحيث كانت قيادة العصيان العبري على شكل لجنة عمليات مشتركة، أطلق عليها لجنة “X” التي كان عليها أن تتولّى مهمة اقتراح وتنظيم عمليات ضد أهداف بريطانية. كان أعضاء اللجنة هم: “يسرائيل چليلي” و”موشي سنيه” رئيس اللجنة من “الهجاناة”، و”مناحيم بيچن” من “الايتسل”، و”ناتان فريدمان-يلين” من “الليحي”. وفي حال الموافقة على تنفيذ أي عملية، كانت تحولها هذه القيادة إلى لجنة تنفيذية، مكونة أيضًا من التنظيمات الثلاثة، من أجل التخطيط لها وتنفيذها تنسيقيًا بين التنظيمات الثلاثة.
كان “بن غوريون” يطالب لجنة X بتنفيذ عملية كبيرة في المرحلة الأولى، وعدم الاكتفاء بعملية “عتليت”، وذلك بالرغم من عدم المصادقة حتى ذلك الوقت على حركة العصيان والتعاون مع التنظيمات الانفصالية في المؤسسات الصهيونية. كان “بن غوريون” مصرًا على إحداث ضجة كبيرة تزعزع حكومة الانتداب.
عمليات حركة العصيان العبري
في ليلة 31 تشرين الأول / أكتوبر – 1 تشرين الثاني / نوفمبر 1945، قامت 50 خلية من “البالماخ” بعمليات تخريب في 153 موقعًا على طول السكك الحديدية في فلسطين. وقامت قوة أخرى بتخريب ثلاث سفن لخفر السواحل البريطاني في ميناء حيفا وميناء يافا. كذلك تسللت قوة من “الايتسل” و”الليحي” إلى محطة القطارات في اللد، وقامت بتفجير ثلاث مقطورات وتخريب منشآت حيوية فيها. هذه القوة تبادلت إطلاق النار مع جنود بريطانيين مما أدى إلى قتل جنديين، وأربعة من العاملين في المحطة، مما تسبب في زيادة الضجة من العملية. سميت هذه العملية بليلة القطارات أو حملة “مسيبا”.
بعد هذه العملية طلب “بن غوريون” بالتوقف لفترة عن العمليات حتى توضح صورة الوضع مع الحكومة في لندن، والتي قررت على لسان وزير خارجيتها في 13 تشرين الثاني / نوفمبر 1945، بمطالبة أميركا على إقامة لجنة أنجلو أميركيّة تبحث الوضع في فلسطين، مع التصريح بإصرار بريطانيا على الاستمرار في سياسة الكتاب الأبيض، حتى تنشر اللجنة استنتاجاتها، وإن أي محاولة لاستعمال القوة من قبل المنظمات اليهودية، ستقمع بقوة وبيد من حديد. مما زاد من غضب القيادات الصهيونية على حكومة بريطانيا.
في ليلة 24-25 تشرين الثاني / نوفمبر 1945، قام “البالماخ” بتفجير محطتي شرطة إحداهما في مستعمرة “چڤعات أولجا” والأخرى في سيدنا علي، والسبب لذلك هو ان خفر السواحل كان قد احتجز سفينة تحمل معها أكثر من مئتي قادم جديد إلى فلسطين. وفي 27 كانون أول / ديسمبر 1945، قام “الايتسل” و”الليحي” بمهاجمة محطتي الشرطة في القدس ويافا.
أما عندما اقترب موعد وصول اللجنة الأنجلو أميركية، فقد قامت حركة العصيان العبري بثلاث عمليات متتابعة خلال خمس ليالٍ مما أدّى إلى حدوث بلبلة في حكومة الانتداب. العملية الأولى تم تنفيذها في ليلة 21-22 شباط / فبراير 1946، حيث قامت قوة من “البالماخ” بتفجير جهاز الرادار الموجود في “ستيلا مارس” بقرب شاطئ مدينة حيفا. في الليلة التالية (22-23 شباط / فبراير) هاجمت أربع وحدات من “الهجاناة” أربعة مراكز شرطة في نفس الوقت، محطة شرطة شفاعمرو، وجنين، و”كفار ڤيتكين”، و”سارونا” في تل أبيب. خلال هذه العمليات قتل أربعة من أعضاء “الهجاناة”. سميت هذه العملية ليلة مراكز الشرطة أو حملة “پوليس”. وفي ليلة 25-26 شباط / فبراير قامت ثلاث مجموعات من تنظيمي “الايتسل” و”الليحي” بالهجوم على مطار اللد، ومطار “كاستينا” ومطار “كفار ڤيتكين”، ونجحت هذه المجموعات بتدمير 37 طائرة، حسب مؤرخي “الايتسل” و 12 طائرة حسب بيان الحكومة البريطانية في اليوم التالي.
معارضة صهيونية للجنة الأنجلو أميركيّة 1945
كان الاقتراح البريطاني ينص على أن يكون عدد أعضاء اللجنة الأنجلو أميركيّة 12، على أن يمثل كل دولة ستة مندوبين. كانت أهداف اللجنة حسب ما أراد الرئيس الأميركيّ هي: فحص الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في فلسطين ومدى تأثيرها على هجرة اليهود من أوروبا إليها، وفحص وضع اليهود الأوروبيين من ضحايا النازية، ومعرفة عددهم وبالأخص أعداد الذين يريدون الهجرة إلى فلسطين. وكان التفويض الذي أخذته اللجنة يحتّم عليها إنهاء أعمالها خلال 120 يومًا، وكان هذا شرط وضعه الرئيس الأميركيّ “ترومان”، حتى لا يقوم الصهاينة باتهام اللجنة بالمماطلة والتأخير في اتخاذ قرار بشأن الهجرة اليهودية من أوروبا إلى فلسطين. أثار إعلان “ترومان” عن إعطائه الضوء الأخضر للمشاركة أميركيّة في اللجنة، مباشرة بعد الإعلان عن اللجنة من قبل وزير الخارجية البريطاني في 13 تشرين الثاني / نوفمبر 1945، ردود فعل سلبية في نيويورك، واعتبرها قسم من النواب الأميركان إنها مجرد وسيلة بريطانية أخرى للتهرب من مسؤولياتها، وأن الهدف منها هو المماطلة، حتى تتوصل في النهاية إلى الاستنتاجات الذي يفضّلها “بيفن” وزير الخارجية البريطاني، بل ووصفها النائب الأميركيّ “إيمانويل سيلر” بأنها فخ بريطاني وقع فيه الرئيس الأميركيّ. أما الصهاينة فقد طالبوا الولايات المتحدة بعدم التدخل في اللجنة، وكان ذلك على لسان “إسرائيل جولدشتاين” رئيس المنظمة الصهيونية في أميركا، في مؤتمر المنظمة في 18 تشرين الثاني / نوفمبر 1945. أما “حاييم وايزمان” فقد أعرب في نفس المؤتمر عن اختلافه العميق مع اللجنة الأنجلو أميركيّة وبينما اعتقد بأن الكتاب الأبيض سيصبح مجرد تاريخ، يرى أن اللجنة ستضيف وثيقة أخرى تسعى إلى نبذ العهد الرسمي البريطاني عام 1917 لليهود، وكان يقصد وعد بلفور. كذلك قام الحاخام “آبا هيلل سيلفر” بمهاجمة “ترومان” على قبوله لما أسماه “البديل البائس المتمثل في لجنة تحقيق، والتي هي أداة للتأخير والتحايل، على حكم الرئيس السديد بمهاجرة 100 ألف يهودي من أوروبا إلى فلسطين بشكل فوري”. واقترح هذا على الرئيس أن يمتنع عن تقديم مساعدة اقتصادية لبريطانيا حتى موافقتها على الهجرة الحرة إلى فلسطين. كان هناك موقف موحّد للحركة الصهيونية بأكملها، المعتدلين منهم والمتشددين، في رفض إقامة اللجنة الأنجلو أميركيّة لكن ذلك لم يعدل الرئيس الأميركيّ عن قراره بالمشاركة في اللجنة المقترحة، حيث إن البيت الأبيض أعلن في نهاية الأسبوع الأول من شهر كانون أول / ديسمبر 1945 عن تشكيل لجنة التحقيق الأنجلو أميركيّة.
ترأس اللجنة القاضي البريطاني “سير جون سنچلتون”، قاضي المحكمة العليا البريطانية، وترأس المجموعة الأميركيّة القاضي المحافظ “جوزيف هاتشيسون” صديق الرئيس “ترومان. كان الأعضاء البريطانيون هم: “ويلفريد بي كيرك” المستشار الاقتصادي لبنك ميدلاند، و”ريتشارد إتش إس كروسمان” عضو البرلمان البريطاني، واللورد “روبرت موريسون” عضو البرلمان، والسير “فريدريك ليجيت” النائب في مجلس وزراء حزب العمال، والرائد “ريجينالد أي”. أما الأعضاء الأميركيّون فهم: “فرانك دبليو بوكستون” محرر صحيفة بوسطن هيرالد، و”جيمس جي ماكدونالد” المفوض السامي السابق لرابطة الامم لشؤون اللاجئين، والمحامي “بارتلي سي كروم”، و”ويليام فيليبس” السفير السابق في الهند وإيطاليا.
عمل اللجنة الأنجلو أميركيّة 1946
ابتدأت اللجنة عملها في واشنطن بتاريخ 7 كانون ثانٍ / يناير 1946. قبل أن تبدأ جلسات الاستماع دعي الرئيس “ترومان” اللجنة إلى البيت الأبيض، حيث قال لأعضائها أن “أكثر مشكلة تهمه هي مصير الأشخاص المشردين”، وأن من “واجب العالم الديموقراطي ان يمنح هؤلاء الناس الفرصة في إعادة بناء حياتهم”. ابتدأت جلسات الاستماع في واشنطن بعرض قدمه “إيرل هاريسون” الذي أعاد التأكيد على الاستنتاجات التي توصل إليها في تقريره عن وضع اللاجئين اليهود. بعدها استمعت اللجنة إلى شهادات من ممثلي الحركة الصهيونية الحاخام “ستيفن رايز”، والزعيم الصهيوني “إيمانويل نيومان” و”ألبرت أينشتاين”، وكانت كل هذه الشهادات موجهة ضد بريطانيا وسياسة الكتاب الأبيض وإصرار حكومة العمال على الاستمرار فيها، حتى إن “كروسمان” عضو اللجنة البريطاني، اعتبر الشهادات الصهيونية بأنها بمثابة “اتهام ضخم لبريطانيا العظمى”.
فيما بعد انتقلت اللجنة إلى لندن، وعقدت جلساتها من 25 كانون ثانٍ / يناير حتى الأول من شباط / فبراير 1946، واستمعت هناك أيضًا إلى شهود يمثلون السياسة الصهيونية والبريطانية، والتقت اللجنة مع وزير الخارجية البريطاني “إرنست بيڤن”، والذي وعد أعضاء اللجنة أنه سيقوم بتبني أي اقتراحات تأتي بها اللجنة، وسيعمل كل جهد من أجل تنفيذها، إذا وصلت إليها اللجنة بالإجماع. كذلك استمعت إلى الأمير السعودي فيصل، والذي كان حازمًا في رفضه لدخول أيّ يهودي آخر لفلسطين، والمندوب السوري فارس الخوري الذي اعتبر أن الدولة اليهودية ستتحول إلى قوة إمبريالية تهدد العالم العربي بأسره، وتوجه إلى رئيس الوفد الأميركيّ قائلًا: “لماذا لا تمنح اليهود جزءاً من تكساس؟”.
بعدها قامت اللجنة بتقسيم أعضائها إلى مجموعات صغيرة، قامت بزيارة مخيمات اللاجئين اليهود في بولندا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا والنمسا وإيطاليا واليونان، ثم اجتمعت اللجنة في فيينا في شهر شباط / فبراير 1946، وتوصلت إلى ما نتيجة مفادها أن عدد اليهود الذين بأمسّ الحاجة إلى التوطن في فلسطين هو 98،000 شخص، وهو معادل للرقم الذي توصل إليه “إيرل جي هاريسون” المندوب الذي أرسله ترومان لفحص هذا العدد.
من أوروبا توجهت اللجنة إلى القاهرة من أجل سماع شهادات ممثلي الدول العربية، الذين أجمعوا على عدم وجود أي حق لليهود في فلسطين، ما عدا أن يعيشوا فيها كأقلية في كنف أغلبية عربية. ولما قال أعضاء من اللجنة على أن العرب واليهود ساميّون ومن نفس الأصول، ولذلك حريّ بالعرب أن يتحملوا وأن يستقبلوا اليهود برحابة صدر، أجابهم عبد الرحمن عزام، الأمين العام لجامعة الدول العربية، “بأن اليهودي الذي كان ابن عمنا، وقد تركنا منذ آلاف السنين، وها هو يعود كيهودي بولندي، أو يهودي ألماني أو إنجليزي، هذا القادم من بعيد يختلف تمامًا عن أولاد عمنا، ويحمل معه أجندات إمبريالية واستعمارية. ببساطة نقول لا، لن نسمح بأن تسيطر علينا لا أمم كبيرة ولا أمم صغيرة، ولا حتى أمم متناثرة في أنحاء العالم”.
في 6 آذار / مارس 1946، وصلت اللجنة إلى فلسطين، وظلت فيها حتى نهاية الشهر للاستماع إلى شهادات الهيئة العربية العليا والمكتب العربي في القدس، وشهادات اليهود. بعدها انقسمت اللجنة إلى ثلاثة أقسام، الأول زار دمشق وبيروت، والثاني زار بغداد والرياض، أما الثالث فزار عمان. بعد ذلك انتقلت اللجنة إلى القدس، ونزل أعضاؤها في فندق الملك داوود. في مقر جمعية الشبان المسيحية استمعت اللجنة إلى شهادات “حاييم وايزمان” و”بن غوريون” من الحركة الصهيونية، وجمال الحسيني من اللجنة العربية العليا. أخيرًا توجهت إلى مدينة لوزان في سويسرا، ووضعت تقريرها في 1 أيار / مايو 1946.
توصيات اللجنة الأنجلو أميركيّة 1946
توقع أعضاء اللجنة أن بإمكانهم التوصل إلى حلّ توافقي يمثل موقفاً مشتركاً للفريق الأميركيّ والفريق البريطاني. ولكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، حيث إن الخلافات التي نشأت بين الأعضاء الأميركيين والبريطانيين كانت كبيرة إلى درجة أنها كانت من الممكن أن تؤدي إلى تفكك المجموعة، حيث كتب عضو الكونغرس “إيمانويل سيللر” إلى الرئيس “ترومان” بأن “البريطانيين عازمون على السيطرة الكاملة على هذا التحقيق، وأنهم كانوا قد أعدوا تقريرهم الخاص في لندن، دون انتظار باقي المندوبين”. وكانت النقاط الخلافية هي موضوع الدولة الثنائية القومية، وعدد المهاجرين المسموح بهم، ودور الهاجاناة والوكالة الصهيونية، وقضية التقسيم. لكن رئيس اللجنة عمل على مدار الساعة حتى يقرب وجهات النظر حتى توصل الأعضاء إلى نتيجة مشتركة.
كان توصيات اللجنة التي، وافق عليها بإجماع جميع الأعضاء، عبارة عن تحقيق لمطالب الرئيس الأميركيّ “ترومان” من حكومة “أتلي”، حتى إن الرئيس قام بإرسال رسالة شكر للجنة، أعلن فيها عن سعادته بقبول طلبه بالسماح لمائة ألف يهودي بالهجرة إلى فلسطين. وبالفعل كان البند الأول ينص على التوصية بإصدار مائة ألف تصريح لإدخال اليهود إلى فلسطين، تمامًا كما أراد “ترومان” للحصول على دعم اليهود في أميركا. كذلك طالبت اللجنة بأن تصدر التصاريح كلها في عام 1946، إذا كان بالإمكان فعل ذلك، حيث إن اللجنة “لا تعرف بلدًا غير فلسطين تستطيع الأغلبية الكبرى منهم الذهاب إليه”. كما أن اللجنة أكدت أنه يجب أن لا يسيطر العرب على اليهود، أو اليهود على العرب. وأن فلسطين لن تكون دولة يهودية أو دولة عربية. كما رأت اللجنة بضرورة إنشاء حكم ذاتي بضمانات وتعهدات دولية، تحمي الأماكن المقدسة للطوائف جميعًا في فلسطين. أما الدستور فلا يجب أن يجعل الكلمة العليا للشعب صاحب الأغلبية العددية، بل إن القرارات يجب أن تكون مشتركة بين العرب واليهود.
وأوصت اللجنة باستمرار الانتداب البريطاني، حتى يتسنى وضع اتفاق تكون حسبه فلسطين تحت وصاية الأمم المتحدة. وعلى هذا على الدولة المنتدبة أن تعمل على تطوير العرب اقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا، حتى يصلوا إلى مستوى الحال عند اليهود. كما أن الدولة المنتدبة أو اتفاق الوصاية الأخذ بعين الاعتبار إدارة فلسطين وفقًا لصكّ الانتداب، عليه أن يعمل على تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين. وأوصت كذلك، بإلغاء نظام نقل الأراضي لسنة 1940، وإقامة نظام يتيح حرية بيع الأراضي وتأجيرها واستعمالها بدون تمييز بين العنصر أو الطائفة أو الدين، وذلك لأن “نظام انتقالات الأراضي لعام 1940 هو تحيز ضد اليهود”.
كذلك اعترفت اللجنة بأن الوكالة اليهودية هي عبارة عن حكومة داخل حكومة الانتداب، وتمتلك قوة عسكرية قوامها 60 ألف من “الهجاناة”. وأشارت إلى الرفض الفلسطيني الكامل لإدخال حتى يهودي واحد إضافي إلى فلسطين، واعتبار الدول العربية بأن إقامة كيان صهيوني في فلسطين هو خطر على المنطقة، لأن هذا الكيان سيكون ميّالًا إلى التوسع والاعتداء ضد الدول العربية. ورأت اللجنة أيضاً أن حل بالتراضي بين العرب واليهود أمر لا يمكن تحقيقه، لذلك يجب فرض الحلّ بالقوّة، ولكن بريطانيا وأميركا لم تريدا تولي هذا الأمر بنفسهما، خشية تضرر مصالحهما في البلدان العربية.
ردود الفعل البريطانية والأميركيّة على توصيات اللجنة
أعلن رئيس وزراء بريطانيا “أتلي” في نفس يوم نشر توصيات اللجنة، بأنه مستعد للموافقة على هجرة 100 ألف يهودي، بشرط أن تنزع التنظيمات الصهيونية في فلسطين أسلحتها، وأن تساعد الوكالة الصهيونية بذلك، وكذلك تقوم حكومة الولايات المتحدة بأخذ كامل المسؤولية المالية والعسكرية لتنفيذ هذا الأمر، بينما ترسل بريطانيا قوات إضافية إلى فلسطين من أجل تنفيذ توصيات اللجنة. كان “اتلي” يرى أن توصيات اللجنة يجب أن تؤخذ على أنها رزمة واحدة، ولا يمكن تنفيذ مطلب الهجرة لوحده دون الأخذ بعين الاعتبار كل التوصيات الأخرى للجنة، وخاصة موضوع الدولة ثنائية القومية. يجدر القول هنا، أن هناك سببًا آخر جعل الحكومة البريطانية غاضبة على الوكالة الصهيونية عندما تم نشر توصيات اللجنة، ولذلك قام “أتلي” بتصريحاته بشأن تجريد التنظيمات الصهيونية من سلاحها، والسبب هو عملية قامت بها منظمة “الليحي” قبل خمسة أيام من نشر تقرير اللجنة الأنجلو أميركيّة، حيث قامت وحدة من “الليحي” بالهجوم على موقف سيارات عسكرية بريطانية، وقتلت سبعة جنود ممن كانوا يحرسون الموقف، مما أثار غضبًا شديدًا لدى الأوساط السياسية البريطانية.
أما الرئيس الأميركيّ “ترومان”، فقد أعرب عن سعادته الفائقة بقرارات اللجنة، وأصدر تصريحًا يطالب فيه بالعمل فورًا على تحقيق التوصية بهجرة 100 ألف يهودي، وينبغي الآن “أن يتم نقل هؤلاء الأشخاص التعساء بأسرع ما يمكن”. وأعرب عن سعادته بتوصية اللجنة بإلغاء الكتاب الابيض عام 1939. كان إعلان “ترومان” “أكثر أهمية من تقرير اللجنة الأنجلو أميركيّة حيث إن تقرير اللجنة يعتبر توصية فقط، لكن بيان “ترومان” يعد بيانًا لسياسة الولايات المتحدة”، كما كتب الصحافي “جيمس رستون”.
لم يذكر “ترومان” في تصريحه التوصيات الأخرى للجنة، مما كان يعني أن دولته لن تألُ جهدًا في تنفيذ التوصيات بالمشاركة مع بريطانيا، مما أثار حفيظة “أتلي” رئيس الوزراء البريطاني، ووزير خارجيته “بيفن”. وهنا ابتدأت سلسلة تصريحات من الطرفين، البريطاني والأميركيّ بشأن تنفيذ توصيات اللجنة، حتى أرسلت لندن مذكرة إلى وزارة الخارجية الأميركية، في 26 أيار / مايو 1946، تتضمن 45 سؤالًا بشأن تنفيذ قرارات اللجنة، وبالذات شددت هذه الأسئلة على دور أميركا في موضوع المهاجرين، وكيفية تنفيذ ذلك.
استمرت الرسائل بين الطرفين حتى قام “ترومان” بتأليف لجنة وزارية ذات سلطة واسعة للقيام بالاتصالات الضرورية من أجل تنفيذ ما أوصى به تقرير اللجنة الأنجلو أميركيّة فقررت اللجنة الوزارية إيفاد لجنة فنية إلى لندن. من ناحيتها أعلنت بريطانيا عن تأليف فريق خبراء بريطاني من أجل مناقشة الأمر مع الوفد الأميركيّ. وصلت اللجنة الفنية الأميركيّة إلى لندن في أواسط تموز / يوليو 1946.
تجدد العمليات الصهيونية ضد بريطانيا 1946
رحب قسم كبير من قيادة الوكالة الصهيونية بتوصيات اللجنة الأنجلو أميركيّة وعلى رأسهم “حاييم وايزمان”، كذلك قام حزب “مباي” بإصدار بيان، في نفس يوم نشر التوصيات، وقبل تصريحات “اتلي” بشأن بخصوص قرارات اللجنة، يعرب فيها عن رؤيته الإيجابية لتقرير اللجنة، وخاصة الطلب بمهاجرة 100 ألف يهودي حالًا إلى فلسطين، والمطالبة بإلغاء قانون عدم نقل الأراضي لليهود. ولكن الطرفين، أي الوكالة الصهيونية وحزب “مباي”، أعربا عن خيبة أملهما من عدم وجود بند صريح بإقامة الدولة اليهودية المنشودة. كان هذا النقص في توصيات اللجنة، حسب وجهة النظر الصهيونية، سببًا في إعلان قيادات هامة رفضها لتوصيات اللجنة، مثل “بن غوريون” و”موشي سنيه” قائد حركة العصيان العبري، ناهيك عن التنظيمات الانفصالية مثل “الايتسل” و”الليحي”.
ومما زاد الطين بلّة، لدى الصهاينة وخاصة الجناح المتشدد، هو تصريحات رئيس الوزراء البريطاني حول نزع سلاح التنظيمات الصهيونية العسكرية، كشرط لتنفيذ توصيات اللجنة، مما أدّى إلى أن يقوم “بن غوريون” بإعطاء الأمر ل”موشي سنيه” بتفعيل حركة العصيان العبري مرة أخرى، بعد أن كانت هذه قد أوقفت عملياتها العسكرية ضد بريطانيا بعد وصول اللجنة الأنجلو أميركيّة إلى فلسطين، وحتى ان قيادتها لم تجتمع منذ بداية آذار / مارس 1946.
في 10 حزيران / يونيو 1946، انتهى وقف إطلاق النار من قبل حركة العصيان العبري، لذلك قامت منظمة “الايتسل” بتدمير ثلاث قاطرات موجودة على خطوط مركزية، مما تسبب بضرر مالي قدره 100 ألف ليرة فلسطينية، ومقتل شرطي عربي واحد. كانت هذه العملية إيذانًا بعودة العمليات التخريبية المنظمة ضد أهداف حكومية.
في ليلة 16-17 حزيران / يونيو 1946، قام “البالماخ” بمهاجمة 11 جسرًا حيويًا تقع على طول الحدود الفلسطينية مع الأردن ولبنان وسورية ومصر. كانت هذه أكبر حملة تنفذها حركة العصيان العبري، وسميت بليلة الجسور او حملة “مركولت”. استطاعت قوات “الهجاناه” من تدمير 10 جسور من أصل 11 الذين كانوا ضمن الخطة. في هذه الحملة قتل 13 عنصرًا من “البالماخ” في انفجار جسر في الزيف.
كان الردّ البريطاني على هذه العملية ردًّا شديدًا في صورة حملة عسكرية سميت حملة “أچاثا”، بينما يطلق الصهاينة عليها اسم السبت الأسود، لأن الحملة انطلقت يوم السبت 29 حزيران / يونيو 1946، حيث خصصت بريطانيا لهذه الحملة ما يقرب 17 ألف جندي، مزودين بدبابات وسيارات مصفحة. قام هؤلاء الجنود بالتفتيش عن قيادات صهيونية وأعضاء تنظيمات عسكرية، في المدن التي يعيش فيها اليهود، خاصة تل أبيب، والمستوطنات والكيبوتسات. كما قطعت كافة خدمات الهاتف من أغلب المناطق اليهودية. استطاعت الحكومة القبض على 2،718 يهوديًا، منهم 200 مقاتل من “البالماخ”، وحصلت على وثائق كثيرة.
استمرت الحملة حتى 11 تموز / يوليو 1946، بدون إصابة صهيوني واحد، فمهما كانت قسوة هذه الحملة إلا أنها لم تصل بالمرّة إلى المستوى القمعي الذي وصلت إليه بريطانيا ضد العرب في ثورة 1936-1939.
بعد هذه العملية، توقفت حركة العصيان العبري عن تنفيذ أي عمليات مشتركة، ما عدا عملية تفجير القسم الجنوبي الغربي من فندق الملك “دافيد” في القدس، حيث كان مقر حكومة الانتداب، وذلك في 22 تموز / يوليو 1946، على يد منظمة “الايتسل”. وتسبب التفجير بقتل 91 شخصًا منهم 28 بريطانيًا و 41 عربيًا. وكما كان في السابق، كان رد فعل الحكومة البريطانية أقل بكثير مما توقعته قيادة حركة العصيان العبري، حيث إنها حاصرت تل أبيب لمدة أربعة أيام، واعتقلت 800 مشتبه، منهم “يتسحاق شوير” مدير عمليات “الليحي”. أما القيادات الصهيونية فقد قررت حل لجنة التنسيق بين التنظيمات العسكرية، ووقف الهجمات العسكرية على المصالح والمؤسسات الحكومية، حيث إن الجسم الأكبر وهو “الهجاناة” انسحب من الموضوع نهائيًا.
موقف العرب من توصيات اللجنة الأنجلو أميركيّة
أثار تقرير اللجنة الأنجلو أميركيّة حالة من الغضب الشديد لدى العرب، بسبب تراجع بريطانيا عن الكتاب الأبيض 1939، والتدخل الأميركيّ لصالح الصهيونية والهجرة اليهودية. أعلن الإضراب العام في فلسطين احتجاجًا على توصيات اللجنة، أما الزعماء العرب فقد أرسلوا برقيات الاستنكار والاحتجاج إلى الملك البريطاني والرئيس الأميركيّ “ترومان”. ونظمت مظاهرات في العالم العربي، وحتى لدى المسلمين في الهند.
عقد الزعماء العرب مؤتمرًا في إنشاص في مصر، في 28-29 أيار / مايو 1946، من أجل بحث الوضع في فلسطين، عقب توصيات اللجنة الأنجلو أميركييّة، وحضر المؤتمر ملكا مصر والأردن (الملك فاروق والملك عبد الله)، ورئيس جمهورية سورية ولبنان (شكري القوتلي وبشارة الخوري)، والوصي على العرش في العراق (عبد الإله)، وولي عهد السعودية (الأمير سعود)، ونجل ملك اليمن (الأمير سيف الإسلام). وكانت قرارات المؤتمر حازمة بالنسبة لفلسطين، حيث اعتبرها المؤتمر “قلب المجموعة العربية”، وأن مصيرها مرتبط بمصير باقي الدول العربية، وأن الصهيونية تشكل خطرًا على الأمتين العربية والإسلامية، لذلك يجب وقف الهجرة اليهودية فورًا، ومنع انتقال الأراضي العربية لليهود. ودعا المؤتمر إلى استقلال فلسطين فورًا وتشكيل حكومة تمثل كل سكان فلسطين. واعتبر المؤتمر أن تنفيذ توصيات اللجنة الأنجلو أميركيّة يعتبر عملًا عدائيًا موجهًا ضد العرب، وقال المؤتمر إنه يجب الدفاع عن فلسطين بكل الوسائل المتاحة. وأجمع الزعماء العرب على ضرورة دعم فلسطين ماديًا من أجل الدعاية والمحافظة على الأراضي العربية.
أصدر مؤتمر إنشاص بيانًا رسميًا يتضمن الموقف العربي، الذي توصل إليه الزعماء العرب، ويطالب بريطانيا وأميركا بعدم اتخاذ أي تدابير تمسّ بحقوق العرب الفلسطينيين، وإلا فإن هذا سيضرّ بالصداقة العربية مع هاتين الدولتين.
كذلك اجتمع مجلس الجامعة العربية في بلودان في سورية، في 8 حزيران / يونيو 1946 حتى 12 من نفس الشهر، من أجل اتخاذ قرارات بشأن توصيات اللجنة الأنجلو أميركيّة وتوصل المجلس إلى القرارات التالية: نقد تقرير اللجنة وتقديم مذكرة تفند توصياتها لتقديمها للحكومتين الأميركيّة والبريطانية، وتقديم طلب لبريطانيا من أجل إجراء مفاوضات تؤدي إلى استقلال فلسطين، وإنشاء مكتب للمقاطعة في كل دولة تتعاون اقتصاديًا مع المؤسسات الصهيونية، ورفض أي شكل من أشكال التقسيم في فلسطين، وإنشاء لجان دفاع عن فلسطين في كل دولة عربية، ووضع قوانين في كل دولة عربية تمنع تسريب الأراضي العربية لليهود.
بالإضافة للقرارات العلنية كانت هناك قرارات سرية تجاه بريطانيا وأميركا وخُوِّل عزام باشا، أمين الجامعة، أن يلمّح بوجود القرارات السرية للدولتين في حال احتاج إلى ذلك. وكانت هذه القرارات عبارة عن عقوبات اقتصادية، بعدم منح امتيازات جديدة لهاتين الدولتين، أو حتّى القيام بإلغاء كل الامتيازات لأيّ منهما إذا اقتضت الحاجة إلى ذلك.
لم ينفذ العرب أيّ من قراراتهم بمؤتمر بلودان ما عدا الدعم المالي حيث تبرعت هذه الدول حتى شهر أيلول / سبتمبر 1947، بما قيمته 143 ألف جنيه فلسطيني للجنة العربية العليا، أما التبرعات الشعبية الفلسطينية فقد بلغت، في نفس الفترة 156 ألف جنيه فلسطيني. يجدر ذكره هنا أن إيرادات الوكالة الصهيونية، في عام 1947، كانت قد بلغت ما يناهز 90 مليون جنيه فلسطيني.
برنامج اللجنة المختصة – “موريسون” – “چريدي” 1946
وصلت اللجنة الفنية الأميركيّة التي انتدبها الرئيس الأميركيّ “هاري ترومان” إلى لندن، في 11 تموز / يوليو 1946، وكان على رأسها السفير الأميركيّ في بريطانيا “هنري چريدي”. كانت اللجنة تضم خبراء من وزارات الخارجية والدفاع والمالية. في الناحية البريطانية عيّن وزير الخارجية البريطاني نائبه “هربرت موريسون” ليترأس لجنة الخبراء البريطانية. كان الهدف من اللجنتين هو البحث في طرق حلّ القضية في فلسطين، على أثر توصيات اللجنة الأنجلو أميركيّة المرفوضة على كافة الأطراف.
بعد أسبوعين من التداول، توصلت اللجنة المشتركة إلى صيغة حل جديد شامل، وافقت عليه الحكومة البريطانية ولذلك تم نشر توصياتها في 30 تموز / يوليو 1946، بانتظار موافقة الرئيس “ترومان” عليها.
كان اقتراح التسوية الشاملة التي وصلت إليها لجنة “موريسون-چريدي” بالإجماع، تفيد بإقامة اتحاد فدرالي بين ولايتين إحداها عربية والأخرى يهودية، ومنطقة ثالثة واقعة تحت سيطرة الحكومة المركزية. وحسب المقترح، يجب إعطاء حكم ذاتي واسع للولايتين، وأن يكون موضوع الهجرة في أيدي الحكومة المركزية، التي تسيطر على منطقة القدس والنقب الجنوبي، والسماح بهجرة مائة ألف يهودي إلى الولاية اليهودية، ورفع القيود عن انتقال الأراضي لليهود، ومنح الولاية العربية قرضًا قيمته 50 مليون دولار من أجل تحسين المستوى الاقتصادي لهذه الولاية.
عُرض المشروع على مجلس العموم البريطاني في 31 تموز / يوليو 1946، وتمت المصادقة عليه. أما الكونغرس الأميركيّ فقد هاجم الاقتراح بشدّة ورفضه الرئيس “ترومان”، بالرغم من أنه اقتراح الخبراء الذين أرسلهم إلى لندن، وبرغم حماس “جريدي” للخطة، حيث إنها “تستحق دراسة وقبولًا سريعين”، كما صرح “جريدي”. وكان سبب رفض “ترومان” للخطة هو عدم شعبيتها في الولايات المتحدة، حيث قام العديد من النواب الأميركيّين بالذهاب إلى البيت الأبيض ليعربوا عن احتجاجهم على ما أسموه “إنشاء حي يهودي في فلسطين”، كما أن رئيس اللجنة الديموقراطية في نيويورك “بول فيتزباتريك”، أرسل برقية إلى الرئيس “ترومان” يعلمه فيها أنه إذا أصبحت خطة “موريسون- جريدي” سياسة الولايات المتحدة بشأن فلسطين، “فسيكون ترشيح الديموقراطيين للانتخابات هذا العام ليس مجديًا”. هناك رواية أخرى يرويها “دين أتشيسون” السياسي الديموقراطي المخضرم، عن أسباب رفض “ترومان” للخطة، حيث إنه يدعي أن لجنة وزارية فرعية تتألف منه ومن “روبرت باترسون” وزير الحربية، و”جون سنايدر” وزير المالية، كانت قد أقرت الموافقة على خطة “موريسون-جريدي” لأنها تشكل حلًا قابلًا للتطبيق، رغم أنها ستؤدي إلى احتجاج الصهاينة. حسب “أتشيستون”، وافق “ترومان”
على توصية اللجنة الفرعية، ولكنه تلقى حينها رسالة من وزير خارجيته “جيمس بيرنز” فيها موقف مخالف لموقف اللجنة الفرعية، مما أدى بترومان إلى تغيير رأيه، وإعلانه لرفض الخطة في اجتماع مجلس الوزراء، الذي ذهب إليه فور تلقيه رسالة وزير الخارجية.
لم يكتفِ “ترومان” برفض الخطة، بل أرسل في 14 آب / أغسطس 1946 إلى الحكومة البريطانية رسالة تتضمن اقتراح تقسيم جديد، شبيه باقتراح لجنة “بيل” إلا أنه أضاف النقب إلى الدولة اليهودية. أرسل “أتلي”، في 18 آب / أغسطس 1946، رسالة إلى “ترومان” يعرب فيها عن خيبة أمله من موقف الرئيس الأميركيّ وأنه سيطرح خطة الخبراء المشتركة في مؤتمر يدعو إليه العرب واليهود. لكن “ترومان” لم يهتم بهذا الرأي، بل أعلن في رسالة ل”أتلي” في 24 آب / أغسطس أن رفضه للخطة نهائي ولا رجعة عنه.
كان رفض خطة “موريسون-چريدي” شاملًا، حيث رفضت الخطة بشكل قاطع من الوكالة الصهيونية، مع أن “چريدي” كان يعتقد أن اليهود يجب أن يكونوا راضين عن الخطة، لأنها “تعطيهم أفضل الأراضي في فلسطين، وكل الحمضيات والصناعات تقريبًا، ومعظم الساحل وميناء حيفا”. ورغم اعتقاده بأن الخطة لا تنصف العرب. وقد اعتبر “حاييم وايزمان” الخطة على أنها خيانة للشعب اليهودي، وأن بريطانيا تعلن بهذا الحرب على المستوطنين اليهود”. أمّا العرب فقد كانوا بعيدين عن توصيات هذه اللجنة، وكذلك اللجنة الأنجلو أميركيّة بعد الشمس عن الأرض، حيث إن النقاط الأساسية الثلاثة في صراعهم مع الصهيونية، ما زالت تقترح كتوصيات لصالح اليهود في كل لجنة وهذه النقاط هي: الهجرة والتقسيم وانتقال الأراضي، لأن أي واحدة من هذه النقاط سيسرع في إقامة الدولة اليهودية على حساب الدولة العربية المستقلة.
وقفت بريطانيا الآن أمام معضلة صعبة، حيث إن الأمور تزداد تعقيدًا بدل أن تقترب من حلّ منطقي، لذلك كان عليها أن تحاول للمرّة الأخيرة أن تجد ما يتفق عليه طرفا الصراع بالإضافة إلى الولايات المتحدة. وكان هذا الحلّ حسب رأي وزير خارجيتها، هو عقد مؤتمر في لندن يدعى إليه ممثلو العرب واليهود، علّ وعسى أن يتفقوا على ما لم يتفقوا عليه منذ عشرات السنين.
عرب 48