
سارتر ونابوكوف وجها لوجه

فالح الحمراني
لم يطق الفيلسوف والأديب جان بول سارتر (1905-1980) والأديب الروسي / الأمريكي فلاديمير نابوكوف ( 1899- 1977) بعضهما البعض الآخر. وحقا، ما يمكن أن يكون مشتركًا بين أشهر أديب روسي مهاجر وبين المفكر الوجودي الذي تبنى للأفكار اليسارية ببعدها الإنساني؟ ناهيك عن حقيقة انعدام القواسم المشتركة في المقاربات الأدبية لقد كان جان بول سارتر على النقيض تمامًا من نابوكوف سواء في مبادئه الجمالية أو في نظرته للعالم، فسارتر داعية التزام الأدب بقضية، على الأقل النثري، ونابوكوف لا يري في الأدب سوى قيمته الجمالية/ الفنية، رافضا الأعمال ذات المضامين الاجتماعية والعقائدية بكل أشكالها.
وقد عبّر الكاتبان عن كراهيتهما المتبادلة بطريقة ذكية للغاية: من خلال تبادل مراجعات سلبية لروايات بعضهما الآخر، مشحونة بتلميحات للطعن بالآخر. وأثار جان بول سارتر المواجهة في مقالة نقدية له بعنوان «اليأس»، التي كرسها لرواية تحمل نفس الاسم نابوكوف: قال فيها:» يبدو لي أن هذا الإصرار على التحليل الذاتي والتدمير الذاتي يميز أسلوب نابوكوف الإبداعي تمامًا. إنه كاتب موهوب للغاية – ولكنه كاتب قصاصات». وفسر « أنا إذ أوجه هذا الاتهام، فإنني أشير إلى آباء نابوكوف الروحيين، وقبل كل شيء إلى دوستويفسكي: لأن بطل هذه الرواية الغريبة الكارهة يشبه إلى حد كبير شخصيات روايات دستويفسكي»المراهق» و»الزوج الأبدي» و» مذكرات من بيت ميت» – كل هؤلاء المجانين المحنكين العنيدين» الذين يلهون في جحيم العقل، يسخرون من كل شيء وينشغلون باستمرار بتبرير الذات – بينما يمكن للمرء أن يرى من خلال النسج غير المحكم لاعترافاتهم المتغطرسة والمزيفة الرعب والعجز عن الدفاع عن النفس. الفرق هو أن دوستويفسكي كان يؤمن بأبطاله، بينما لم يؤمن نابوكوف بأبطاله – أو بالأحرى بفن الرواية بشكل عام».
وتابع: «ن انفصال نابوكوف عن التربة، … انفصال مطلق. فهو غير مهتم بالمجتمع – ولو لمجرد التمرد عليه – لأنه لا ينتمي إلى أي مجتمع. وهذا هو ما يقود بطل روايته «الياس» كارلوفيتش[ في النهاية إلى جريمته المكتملة، وهذا ما دفع كارلوفيتش في النهاية إلى ارتكاب جريمته، وأجبر نابوكوف على تقديم مضمون فارغ باللغة الإنجليزية».
لم يظل نابوكوف صامتا وتكلم في أول فرصة أتيحت له لتصفية حساباته مع سارتر. وكان ذلك عندما تلقى عرضًا لمراجعة رواية سارتر. لذا فإن اللهجة القاسية التي اتسمت بها مراجعة نابوكوف كانت نابعة من رغبته في الانتقام من مراجعة سارتر السلبية للترجمة الفرنسية لروايته «اليأس» واتضح ذلك بجلاء من خلال مراجعته للترجمة الإنجليزية لرواية سارتر « الغثيان»: قائل» ما إذا كان الأمر يستحق، من وجهة نظر الأدب، ترجمة «الغثيان» على الإطلاق، فهذا سؤال آخر. فالرواية تنتمي إلى ذلك الصنف من الأعمال التي تبدو درامية ولكنها في الحقيقة ركيكة للغاية، والتي قدمها مجموعة من الكتاب من الدرجة الثانية – باربوس وسيلين وأمثالهما» . وعلاوة على ذلك، «عندما يفرض المؤلف خياله الفلسفي العبثي والمتعمد على شخص عاجز اخترعه لهذا الغرض، فإنه يحتاج إلى موهبة كبيرة لإنجاح الحبكة. لا أحد يجادل روكانتين بشكل خاص عندما يقرر أن العالم الخارجي موجود. ولكن كان من الصعب على سارتر أن يجعل العالم الخارجي موجودًا كعمل فني». وعلاوة على ذلك: «عندما يفرض المؤلف خياله الفلسفي العبثي والمتعمد على شخص عاجز اخترعه لهذا الغرض، فإنه يحتاج إلى موهبة كبيرة لإنجاح الحيلة.
يتنقل روكنتان بين مقهى ومكتبة عامة، ويتعرف بالصدفة على مثلي الجنس ثرثار، وينغمس في التفكير، ويكتب مذكراته، وأخيرًا يجري محادثة طويلة ومملة مع زوجته السابقة، التي أصبحت المرأة المدبوغة. عالمي تعلق أهمية كبيرة على الأغنية الأمريكية التي تُسمع من أسطوانة الحاكي في أحد المقاهي: «قريبًا يا عزيزي، ستتركني». يود روكوينتين أن يكون على قيد الحياة مثل هذا التسجيل بأغنية «أنقذت اليهودي (الذي كتبها) والمرأة السوداء (التي غنتها)»، ومنعتهما من «التورط في الوجود».
إنه يتخيل ملحنًا: أحد سكان بروكلين، حليق الذقن، ذو «حاجبين أسودين» و»حلقات على أصابعه»، يسجل نغمة في الطابق الحادي والعشرين من ناطحة سحاب. حرارة رهيبة. ولكن سيظهر سيظهر توم (صديق على ما يبدو) مع قارورة مسطحة (اللون المحلي)، وسيسكرون (في نسخة السيد ألكساندر الفاخرة: «املأ أكوابهم بالويسكي»). لقد قررت أن هذه أغنية حقيقية كتبها الكندي شيلتون بروكس وغنتها صوفي تاكر.
ربما تكون اللحظة الأساسية في الكتاب هي البصيرة التي يتمتع بها روكنتان، والتي ونتيجة لها اكتشف أن «غثيانه» هو نتيجة التأثير القمعي للعالم الخارجي السخيف وغير المتبلور، ولكنه مادي للغاية. لسوء الحظ بالنسبة للكتاب، فإن كل هذا يظل مجرد تخمين، وكان من الممكن أن تكون طبيعة هذا الاكتشاف أي شيء آخر، على سبيل المثال، أناني، وهو ما لم يكن ليؤثر على بقية الرواية على الإطلاق. عندما يفرض المؤلف خياله الفلسفي الخامل والمتعمد على شخص عاجز اخترعه لهذا الغرض، فإنه يحتاج إلى موهبة كبيرة لإنجاح الخدعة. لا أحد يجادل حقًا مع روكينتين عندما يقرر وجود العالم الخارجي. لكن سارتر لم يتمكن من جعل العالم الخارجي موجودا كعمل فني.
وكما كتب نابوكوف: «ارتبط اسم سارتر، كما أعلم، بالفلسفة التي أصبحت موضة الآن والتي نشأت في المقاهي الباريسية، وبما أن لكل من يسمون» الوجوديين»عدداً لا بأس به من” السكتولوجيين (اعذروا المصطلح المنمق)، فلا بد أن تكون هذه الترجمة الإنجليزية لرواية سارتر الأولى ”الغثيان“ (التي نشرت في باريس عام 1938) قد لاقت بعض النجاح. من الصعب أن نتخيل (إلا في الملهاة) أن يقوم طبيب أسنان بخلع الأسنان الخاطئة باستمرار. ومع ذلك، يبدو أن الناشرين والمترجمين يحصلون على شيء من هذا القبيل. يضطرني ضيق المساحة إلى الاقتصار على الأمثلة التالية».
وعُرض على نابوكوف بعد ذلك بفترة قصيرة، أن يكتب مراجعة لمجموعة مقالات سارتر «ما هو الأدب؟» لكن الكاتب رفض: « لقد قرأت النسخة الفرنسية الأصلية وأعتقد أنها تافهة. وبصراحة، لا تستحق المراجعة“. بشكل عام، كان نابوكوف يعتقد أن سارتر «أسوأ من كامو». و عموما كان نابوكوف يرى أن سارتر «أسوأ من كامو» (ووصف نابوكوف كامو بـ «المقرف»).
كاتب مترجم من العراق