ثقافة وفنون

عمامة رشيد رضا: فصول من تاريخ اللباس في دمشق والقاهرة

عمامة رشيد رضا: فصول من تاريخ اللباس في دمشق والقاهرة

محمد تركي الربيعو

نشر في السنوات والعقود الماضية، كم كبير من الدراسات والكتب حول أفكار الإصلاحي رشيد رضا. وقد يخال للقارئ أحيانا، أو حتى للدارسين، أنه لم تبقَ هناك نقطة إلا وقرأت في نتاج هذا المثقف. إلا أن هذه النتيجة قد تتراجع للوراء قليلا، أمام عدد من الحفريات الجديدة في تاريخ هذا الرجل، والمرحلة التي عاش فيها. وكمثال هنا أشير إلى كتاب المؤرخة الأمريكية اليزابيت تومبسون، التي قدمت قراءة جديدة لحياة رضا في الفترة بين 1918ـ 1920، فخلال هذه الفترة لعب رضا دورا سياسيا كبيرا في سوريا، في ظل فترة حكم الأمير فيصل.. وهناك بدا رضا شيخا ليبراليا، لا مانع لديه من أن يكتب الدستور السوري بصيغة حديثة. كما ظهر يومها أكثر تركيزا على فكرة ولادة علاقة جديدة بين الحاكم والشعب، فمن خلال ترؤسه للمجلس النيابي، بدا وكأنه ينتمي إلى جيل جديد من المجددين المسلمين، الذين كانوا يعتقدون أن الاسلام لا يؤيد الملكية المطلقة، وإنما يطلب من القادة أن يتشاورا مع الشعب.
ويمكن القول إن تومبسون استطاعت في كتابها إخراج رضا من مدونته الكتابية، لنرى كيف يمارس السياسة، وأيضا كيف يهرب لاحقا من دمشق بعد دخول الفرنسيين، وهو حدث مثّل تحولاً كبيرا في حياته، ودفعه نحو تبني أفكار أقل إصلاحية، حسب البعض. وبموازاة هذا الكتاب، يمكن القول أيضا، إنه بات بإمكان القارئ العربي، الاطلاع على رؤية أخرى جديدة، ومختلفة عن حياة رضا وإنتاجه الفكري. إذ غالبا ما ركزت الدراسات أيضا على دراسة أفكار رضا بمعزل عن محيطه الاجتماعي والسياسي الذي عاش فيه، وهو ما استطاعت تومبسون تجاوزه من خلال تركيزها على سنتين من حياته.
إلا أن هذه المهمة، ستبدو أكثر وضوحا مع كتاب الباحث ليور هاليفي «محاكمات بدائع التحديث»، ترجمة محمد كمال، مركز نماء للبحوث والدراسات، إذ حاول ليفي في هذا الكتاب المضي بنا قدما أكثر نحو عالم رضا الاجتماعي والثقافي، ومن خلال هذا البحث وصل ليفي لنتيجة مختلفة تماما عن نتاج الرجل، فبدلا من تصوير رضا والسلفية الإصلاحية باعتبارها حركة أنشأتها النخب الفكرية، فإنه يعتقد أن هؤلاء الإصلاحيين، رضا بالأخص، كانوا أيضا نتاج وجود فاعلين آخرين، خاصة طالبي الفتوى، الذين لعبوا دور الملهم لرضا للنظر في قضاياه المعاصرة، وبالتالي ما يرغب بقوله هاليفي، أن أي كتابة لتاريخ أفكار رضا، تتطلب قراءة العامة والناس العاديين، والنخب في ذلك الزمن، الذين غالبا ما كانوا يرسلون رسائل لجريدة «المنار»، للسؤال عن عدد من القضايا اليومية، ما يعني أن رسائل الناس لرضا، كانت هي السبب الرئيسي في تحريضه ودفعه لإصدار كم كبير من الفتاوى، وأن هؤلاء الفاعلين الاجتماعيين المتنوعين، والكثير منهم أشخاص عاديون، ممن كتبوا لرضا، لم يكونوا مجرد قراء في حالة انتظار وترقب، بل كانوا صانعين أساسيين لتاريخ رضا الفكري.
ولتوضيح هذه الفكرة حول علاقة الناس العاديين بفتاوى رضا، عمل هاليفي على البحث في الفتاوى التي أصدرها رضا في عدد من القضايا، من استخدام فرشاة الأسنان، إلى الاستماع للقرآن من خلال الفونوغراف، وحتى ارتداء السراويل الضيقة. وربما من باب توضيح فكرة المؤلف، سنحاول التركيز فقط على فكرة اللباس في فتاوى رضا، قبل وبعد الحرب العالمية الأولى. فمن بين جميع أنواع السلع التي ربطها المسلمون بأوروبا في سنوات مجلة «المنار»، لم يكن أي منها يثير الكثير من الجدل مثل الملابس. كانت الملابس مهمة اقتصاديا لأنها كانت إحدى المواد الرئيسية للتجارة الدولية.

ولد رضا عام 1865 في قرية القلمون بالقرب من مدينة طرابلس الشام، وكانت طرابلس مدينة منفتحة على التجارة. وهو انفتاح سيتغير بشكل أكبر لاحقا مع توسع الرأسمالية العالمية وتطور الطاقة البخارية. كانت البواخر الفرنسية والبريطانية والروسية تفرغ حمولاتها في الميناء، وتحمل بضائع مثل السكر والبن والنحاس والحديد والأقمشة والجلود والأثاث والكماليات الأوروبية المتنوعة، ولذلك فقد ولد رضا في عالم مادي من السلع، بدا مرتبطا ارتباطا وثيقا بالتجارة الأوروبية. وعندما غادر طرابلس عام 1897 إلى القاهرة، بدت له المدينة قبلة للاستهلاك، وهو ما كان واضحا مثلا من خلال شركة «فريد فيليبش وشركاه» (شركة الملابس الاستعمارية) في شارع قصر النيل، التي كانت تتفاخر ببيع الأقمشة الإنكليزية بأفضل جودة وأحدث تصميم.
قراء «المنار» كانوا بشكل أساسي من نخبة من الرجال المسلمين المهتمين بالتغيير الحاصل في ثياب الرجال المسلمين، من أصحاب المكانة الاجتماعية المرموقة، ولذلك غالبا ما ناقشوا مع رضا أسئلة تتعلق باللباس الأوروبي من الأحذية السوداء إلى القبعات الطويلة، وهنا نرى أن فتاوى رضا عن الثياب الأوروبية تكشف كيف تغيرت أحكام مفتٍ مسلم في سياق انتقال طويل من ثقافة تصالحت مع الهيمنة الأجنبية إلى ثقافة مجدت الاستقلال الوطني. كما تكشف لنا الفتاوى أن هذا المزاج لم يكن متعلقا فقط بتجربة رضا خلال الحربين، بل عبر أيضا عن تغير في مزاج الناس والنخب أيضا، التي حاول التعبير عنها في فتاواه. فقبل الحرب العالمية الأولى وجد رضا أسبابا عديدة لإباحة تثاقف المسلمين مع الثياب والألبسة الأوروبية. وأصدر فتاوى متساهلة نسبيا، في ما يتعلق بـ»البرانيط» وأربطة العنق والبرانس، بالإضافة إلى تزيين شعر الرأس والأثاث، التي ارتبطت بأوروبا أيضا. وأكد رضا مرارا وتكرار، أن الإسلام لم يكلف الناس أن يلبسوا لباس معينا، بكيفية مخصوصة، إلا في الإحرام بالحج أو العمرة، وقد قال قبل الصحوة الوطنية في فترة ما بين الحربين «إن الإسلام لم يشرع للناس لباسا خاصا، ولم يحظر عليهم زيا من الأزياء، فلكل فرد أن يلبس ما يحب ويختار».
وعلى الرغم من أنه أقر بأن الشريعة تمنع ارتداء الملابس الفخمة، التي تحدد الفروق في الرتب، وكذلك الملابس غير المحتشمة المصممة للشهرة، لكنه كشف أن الدولة العثمانية أخذت ملابسها الرسمية عن الروم. وكان مثال ثياب النبي سابقة جوهرية يجب أن يتأملها المعاصر عند الحكم على مظهر الرجال في أوروبا. وقد أوضح رضا لمستفتٍ جزائري آخر، هو مصطفى أباجي، أن النبي «لبس الجبة الرومية من أزياء الروم والطيالسة الكسروية من أزياء المجوس، ولم يقصد تقليد القوم، وإنما جيء بذلك فلبسه». كانت الحجة الرئيسية في التفكير في اتخاذ الأشياء الأجنبية، أو تبني الآداب الغربية، هو تحديد النية في إطار علاقات القوة بين المسلمين والآخرين. فمن يقصد بتزيين شعره تقليد الإفرنج فهو وضيع ضعيف العقل والنفس. ومع ذلك، إذا لم تكن التبعية هي المصدر، فلا توجد مشكلة في تزيين الشعر، سواء وافق ما عليه الإفرنج أو خالفهم.
إلا أن موقف رضا، كان قد تغير تجاه اللباس في المراحل التالية، ففي عام 1928 سأله إبراهيم اللاذقي من بيروت عن حكم ارتداء البنطلون الأفرنجي، وكانت هذه السراويل هي الصيحة الجديدة في عاصمة الانتداب الفرنسي، وهي ثياب وصفها اللاذقي بالقول، إنها ثياب حازقة، يظهر منها جرم العورة كالقبل والدبر، وأنها مثيرة للشهوة. وقد وجد رضا أن لبس الثياب الحازقة الضاغطة مكروه لضررها بالبدن، وشرعا لضررها ومضايقتها للمصلي، حتى إن بعضها يتعذر السجود على لابسها، «فإذا أدى لبسها إلى ترك الصلاة حرم قطعا ولو لبعض الصلوات. وقد ثبت أن أكثر من يلبسونها لا يصلون، أو قليلا كالمنافقين، حتى إن منهم من يعتذرون عن الصلاة بأنها تحدث في السراويل البنطلون تجعدا يشون منظره»، ولذلك نصح المسلمين بمراعاة نهي عمر بن الخطاب عن لبس ضرب من قباطي مصر الضيقة.
وفي سياق تفسيره لهذا الموقف، يعود بنا هاليفي إلى الحملة المصرية من أجل الاستقلال التي بدأت مع ثورة 1919، وشكلت منعطفا جديدا في سنة 1922، نحو سياسة المقاومة الاقتصادية. ففي هذا العام، أطلق المصريون حملة مقاطعة استهلاكية للسلع البريطانية، وتشجيع الإنتاج الوطني، وقد استهدف المقاطعون في القاهرة الملابس الجاهزة بشكل أساسي، وأيد المقاطعون التمييز في السوق، من خلال إضفاء المعنى السياسي على عملة شراء السلع الإمبراطورية. ويبدو أن رضا تأثر بهذا المزاج، خاصة أن تجربة هروبه من سوريا، كانت قد أحدثت شرخا كبيرا في نفسه تجاه العلاقة بالغرب، بالإضافة لذلك، يبدو أن سياسات العلمنة التي انتهجها كمال أتاتورك في تركيا، وربطه الطربوش واللباس التقليدي بالتخلف، دفع أيضا برضا إلى أخذ موقف أكثر صلابة من اللباس الإفرنجي، ولذلك أصدر فتوى في نهاية عام 1925 أبدى فيها انتصارا للجبة والقباء والعمامة، ويبدو أنها جاءت أيضا كإجابة عن أسئلة مستفت من بيروت سأل رضا عن جواز صلاة الرجل المسلم وهو يلبس البدلة الإفرنجية. والحاصل أن رضا وبقدر ما كان يقرأ واقعه، إلا أن أفكاره وفتاواه لم تكن نتاجاً لهذه القراءة فحسب، بل أيضا لنزعات من الأسفل، عبّر عنها قراء مجلة «المنار»، وسعوا من خلال رسائلهم أيضا لدفعه للخوض فيها بشكل أكبر، والتأثير في فصل من تاريخ اللباس في المدينة العربية.

كاتب سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب