توفيق الرؤوس في الحرام
د. ابتهال الخطيب
هل الدولة الثيوقراطية أفضل من الشمولية السياسية؟ هل تحالفات الدولة الدينية “أنظف” من تلك التي للديكتاتورية العلمانية؟ تقدم إيران المثال الأقرب جغرافياً، ولربما ثقافياً بعض الشيء، على هذا التساؤل إذا ما تم طرحه حول محيط الدول العربية والشرق الأوسط. لقد انتقلت إيران من ديموقراطية حقيقية كان محمد مصدق يحاول تشكيلها، وذلك بعد أن تصادم الأخير مع شاه إيران الذي كان هو رئيساً لوزرائه، ما قاد مصدق إلى تخفيض مخصصات القصر الملكي ومن ثم منع الشاه من التواصل مع السفراء الأجانب، وهي الأحداث التي قادت بدورها لعزل الشاه بعد أن حصل مصدق على تأييد عارم من الشارع الإيراني مما دفعه لطموح خطر بتأميم النفط الإيراني، أقول انتقلت إيران من هذا الحراك الديموقراطي إلى ديكتاتورية علمانية، إن صح التعبير، ولو أن العلمانية لا يفترض بها أبداً أن تأخذ منحى ديكتاتورياً الذي يفرغها حقيقة من معناها وأثرها، وذلك حين تدخل شيطان العالم، أمريكا، بالتعاون مع بريطانيا، للإطاحة بمصدق وذلك تحديداً لمنعه من تنفيذ فكرة تأميم النفط.
انتقلت إيران بعد مصدق من ديكتاتورية إلى أخرى مدعومة بتحالفات متسقة سياسياً ومضطربة أيديولوجياً. فقد جثم الشاه محمد رضا بهلوي، الذي تسلم السلطة في إيران خلفاً لوالده على أرواح الإيرانيين لمدة ثمانية وثلاثين عاماً، كان إبانها حليفاً مخلصاً للأمريكان، سياسياً وثقافياً، وهو التحالف الذي أطاح به في نهاية الأمر، حيث أن أسلوب حياته “المتفرنج” ساهم في نفور الشعب منه، كما أن وكالة استخباراته “السافاك” التي تأسست بمساندة أمريكية ما عدمت الفرصة للتنكيل بالشعب الإيراني، كل ذلك التقى بانتهاء منفعة الشاه للحليف الأمريكي، ما أدى إلى عزله واستبداله بحليف ديني جديد للأمريكان اعتقدوا أنه سيسهل تسييسه. وهكذا ارتفع حكم الشاه الديكتاتوري العلماني عن أرواح الإيرانيين ليحل مباشرة حكم المرشد الديني على أرواحهم، حيث يقول التاريخ إنهم لم يرتاحوا من النمط الديكتاتوري ولا حتى أياماً من بعد الثورة الدينية تلك.
تقول شيرين عبادي، في كتابها المهم “إيران تستيقظ”، ما معناه أنها شعرت بأول صفعة على وجهها بعد الثورة حين ذهبت مع لفيف من الناشطين، حيث كانت إبانها قاضية في المحاكم الإيرانية ومن أهم المعارضين والمناضلين لإسقاط نظام الشاه، للمباركة لأحد كبار المسؤولين الجدد في الدولة. تقول عبادي، إنها حين ذهبت للسلام على هذا المسؤول وتهنئته، كان كل ما رد به عليها هو ضرورة الالتزام بالحجاب. تقول عبادي: قمنا بثورة وأطحنا بحكم قمعي، وكل ما يفكر به هذا الرجل هو الحجاب.
وهكذا استبدلت إيران بحاكم ديكتاتور حليف لأمريكا حاكماً ديكتاتوراً آخر حليفاً لروسيا، وهو الحلف ذو المفارقة الفكاهية من حيث توفيقه لمصلحة بين رأسين “في الحرام” لا يفترض بهما أبداً أن يتوافقا لا بالحلال ولا بالحرام، وهما صاحبا المسار الديني واليساري المتضادان بالطبيعة والاتجاه. تبدو هذه المفارقة التحالفية واضحة الآن في الشأن السوري مع الاختلاف الكبير في التاريخ والطبيعة المجتمعية والتوجه الديني بالطبع. إلا أنه يبقى أننا كبشر، ننحو المناحي ذاتها، ولو بطرق مختلفة، ونرتكب ذات الأخطاء ولا نتعلم سوى القليل وبعد جهد جهيد. فهل سيتعلم ثوار سوريا الدرس أم سيعيدون القصة؟
لقد غادر الديكتاتوري القمعي الحليف لروسيا غير مأسوف عليه بعد أن جثم هو ووالده على أرواح السوريين طوال ثلاثة وخمسين عاماً، أذاق إبانها الشعب السوري الأمرين ضرباً بالكيماوي وقصفاً واعتقالاً وتعذيباً ونهباً للخيرات وتحالفاً مع حلفاء مشبوهين ما خدموا سوى مصالحهم في المنطقة. وعليه، لا يمكن سوى الاحتفاء برحيل هكذا وحش، ولكن لا بد كذلك، تعلماً من تاريخنا الطويل، أن نتوجس من القادم أياً كان. لقد استبدل نظام إيران حليفه الأمريكي بالحليف الروسي، فهل الشعب مرتاح وآمن ومستقر اقتصادياً ومسموع سياسياً، وسعيد؟ وها هو النظام السوري يستبدل بالحليف الروسي الحليف الأمريكي، فهل سيكون الشعب مرتاحاً وآمناً ومستقراً اقتصادياً، وهل سيكون مسموعاً سياسياً، وسعيداً؟
مما لا شك فيه أن النقلة كانت مستوجبة، سواء لإيران أو لسوريا، كان لا بد للديكتاتور القمعي الذي فتح السجون وأغلق باب الحريات من أن يسقط، وكان لا بد أن يسقط بأي ثمن، لتشرع بعدها المقاومات بالسيطرة على وحصر التلف ومحاولة تقنينه وإصلاحه، ولتقوم الشعوب بعدها باختبار هذه المقاومات بحد ذاتها وتعديل مسارها وإصلاح أي خلل فيها. الشعب الإيراني تأخر كثيراً، وهو مستكين تحت حكم المرشد، ولربما تتحول إيران إلى قوة شبه عظمى ببرنامجها النووي وتصديها الحقيقي للقوى الأمريكية المجنونة وخلقها الصوري لبرلمان يشتمل على كل أطياف المجتمع، لها كلها يد في استمرار هذا النظام. إلا أن هذا النظام يبقى يحتاج لتصحيح عميق للمسار مجدداً، ولتكفير حقيقي عن الخطايا، ليس أقلها خطيئة الدور الذي لعبه في سوريا والذي سيدفع ثمنه غالياً إن آجلاً أم عاجلاً.
في عارض رده عن السؤال حول فرض الحجاب في سوريا، يقول محمد الشرع (مع بعض التعديل) إن “المشكلة السورية أكبر من هذه المواضيع، نصف الشعب هُجر خارج سوريا ورمي بالقنابل والبراميل الغبية، الشعب السوري تعرض لأكثر من 250 ضربة كيماوية، المجتمع السوري غرق الكثيرون منه في البحار. هناك قضايا عامة أهم بكثير. هذه التفاصيل محلها الدستور وليس محلها رأي الأشخاص، أنا أتمنى الكثير من الأشياء. لكن في النهاية، المطاف هو ما يتوافق عليه السوريون من قانون ودستور، مهمتنا هو التطبيق، الحفاظ عليه وصيانته”. والحق يقال أن السؤال بحد ذاته معيب تماماً بعد سنوات من القمع “الأسدي”، كما يشير أدهم الشرقاوي في مقاله “هل ستسمحون للناس بشرب الخمر”، تماماً كما كان تعليق المسؤول الإيراني معيباً بعد عمل مضن لإنجاح الثورة الإيرانية. أبعد تفجير الشعب السوري وحرقه بالكيماوي تهجيره واعتقاله وتعذيبه وإنقاذه من كل ذلك، يكون السؤال المتسيد هل ستفرضون الحجاب؟ هل التخوف من سيطرة القوى الثيوقراطية ينحصر في فرض الحجاب أو منع الخمر؟ في العموم، تبعث كلمات الشرع على الكثير من الأمل، وتوحي بأن الدرس وصل، وأن إسلاميي اليوم، أيديولوجياً وسياسياً هم غير إسلاميي الأمس، على العكس من ليبراليي اليوم الذين لا يتعلمون الدروس في منطقتنا العربية على ما يبدو مطلقاً، فالبراغماتية التي تفرضها المصالح ويفسح لها معتقد الضرورة التي تبيح المحظور ربما تخدم الوضع السوري وربما تغير المصير.
الخوف قائم من التوافق الأمريكي مع المعارضة السورية، ومتى كان في التحالف مع الأمريكان أي خير أو أمان؟ والخوف قائم من الأيديولوجية المتطرفة، ومتى نَحَتْ أي أيديولوجية دينية أصولية منحى ديموقراطياً؟ سوريا تُقصف وسط صمت مريب من فصائل المعارضة بمعية التحالف الأمريكي، والحديث الآن عن تطبيق الشريعة تعلو رنته بمعية القوى الأصولية، فهل ستنجح سوريا في ترويضهما؟ شخصياً، مؤمنة أنا بسوريا وأصرخ بكل صوتي تشجيعاً لها، ومبروك مجدداً حريتك يا سوريا.
كل الأعين تبقى على غزة..