كتب

الاتحاد الأوروبي يفقد بوصلته الجيوسياسية في أوكرانيا والأخلاقية في فلسطين ويعيش كابوس اليمين المتطرف

الاتحاد الأوروبي يفقد بوصلته الجيوسياسية في أوكرانيا والأخلاقية في فلسطين ويعيش كابوس اليمين المتطرف

حسين مجدوبي

نتيجة تقدم اليمين القومي المتطرف، أصبح الاتحاد الأوروبي في سياسته الخارجية موزعا بين دول تؤمن بأوروبا قوية مثل إسبانيا وفرنسا وألمانيا، ودول تراهن على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

 تعهد الاتحاد الأوروبي سنة 2023 بتبني استراتيجية تجعل من هذا التكتل يؤكد حضوره في القضايا الدولية ومنها التي تمس مباشرة حدوده وأمنه القومي، لكن هذه السنة تنتهي وحدوده الجنوبية والشرقية مشتعلة أكثر من أي وقت مضى بحرب في الشرق الأوسط وغياب الاستقرار في الضفة الجنوبية ثم تفاقم الحرب الروسية-الأوكرانية، وبقي حبيس ملفات ثانوية مثل الهجرة، بينما تصاعد اليمين القومي المتطرف يهدد وحدته.

وفي ظل الصراع الذي يشهده العالم لاسيما احتمال اندلاع حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة والصين، لم يعد للانتخابات المحلية في كل بلد أوروبي أهمية باستثناء معرفة مدى تقدم اليمين القومي المتطرف، ولم يعد للنمو الاقتصادي أهمية تذكر، وإنما ما محل الاتحاد الأوروبي من الإعراب في عالم يتغير بسرعة لصالح قوى جديدة؟ في هذا الصدد، تجري على حدود الاتحاد الأوروبي حربان تهددان بالتحول إلى حرب أوسع وأشمل. الأولى، وهي تطورات الشرق الأوسط منذ 7 أكتوبر أو طوفان الأقصى، والثانية هي الحرب الأوكرانية-الروسية. طيلة السنة التي أشرفت على نهايتها، ورغم أن الأولى اندلعت سنة 2022 وتمس العمق الأمني لأوروبا، إلا أن سنة 2024 أظهرت بالملموس الضياع الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي. فمن جهة، لا تمتلك العتاد العسكري الكامل لدعم أوكرانيا في مواجهة القوات الروسية، وتستمر في الارتباط بقرارات البنتاغون والبيت الأبيض، ومن جهة أخرى، لا يمكن للاتحاد الأوروبي الرهان على السلام بنوع من الحفاظ على الشرف. وعلاقة بهذه النقطة، كان قادة الاتحاد الأوروبي خلال شباط/فبراير 2022 عند اندلاع الحرب، يهددون بما اعتبروه «تركيع روسيا» عسكريا واقتصاديا لكي تندم هذه لمغامرتها العسكرية، ومرت ثلاث سنوات تقريبا، ولم يتحقق أي شيء من هذا بل أصبح السائد وسط قادة الاتحاد الأوروبي أن السلام يمر أساسا عبر إقناع كييف بالتخلي عن كل الأراضي التي تسيطر عليها روسيا شرق أوكرانيا، وهذا ليس حبا فقط في أوكرانيا بل لتجنب مزيد من التقدم الروسي نحو الوسط الأوكراني وما يشكله ذلك من استنزاف الآلة الحربية الأوروبية. ويؤكد ضياع الاتحاد الأوروبي خلال السنة التي نودعها في الملف الأوكراني واستمرار فقدان هذا التكتل البوصلة الجيوسياسية، رغم أن الممثل الأعلى لسيادة الدفاع والشؤون الخارجية جوزيب بوريل الذي انتهت مهامه منذ ثلاثة أسابيع، سخر السنوات التي شغل فيها المنصب لإقناع الأوروبيين بضرورة توحيد الصناعة العسكرية والقرار السياسي الخارجي. وطيلة 2024 تحول الاتحاد الأوروبي إلى متفرج سلبي في تطورات الشرق الأوسط، ومجرد كومبارس جيوسياسي للولايات المتحدة رغم ما يجري من تغييرات جذرية في منطقة يعتبرها حساسة لنفوذه وأمنه القومي. ولعل هذا يعود إلى عاملين، الانقسام الكبير في صفوفه بين دول تنادي بتطبيق القانون الدولي مثل إسبانيا وإيرلندا في القضية الفلسطينية بل وانضمت إلى دعم دعوى بجرائم ضد الإنسانية ضد إسرائيل، ودول انحازت بشكل فج إلى جرائم الإبادة مثل فرنسا والمانيا وهولندا.
وتبقى القضية الفلسطينية ترمومترا لمعرفة مدى التزام الاتحاد الأوروبي بمعايير أخلاقية، حيث نجد أقصى الالتزام في حالة رئيس حكومة إسبانيا بيدرو سانشيز الذي لم يتردد نهائيا في وصف ما يجري في فلسطين بجرائم الحرب، وبين الانحياز الذي يكاد يصل إلى مستوى دعم الإرهاب من طرف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعدما وجه نداء لتشكيل جيش دولي ضد حركة «حماس» ثم تبرير عدم تطبيق أو استثناء رئيس الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو من مذكرة الاعتقال الدولية التي صدرت عن محكمة العدل الدولية.
لقد برهن الاتحاد الأوروبي على ضوء ما صدر عنه سنة 2024 أن الآليات التي أرساها للحوار مع دول جنوب البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط مثل «الاتحاد المتوسطي» ما هي إلا آليات بروتوكولية لا تنفع إبان الأزمات، حيث تخلى عن جميع التزاماته الأخلاقية في نزاع الشرق الأوسط وخاصة الفلسطينية. عند تأسيس الاتحاد المتوسطي الذي كان يحمل اسم مسلسل برشلونة، تعهد الأوروبيون بسياسة إنصاف في الملف الفلسطيني إذا ما قبل العرب بعضوية إسرائيل، وها هو الآن يمارس الانحياز التام. وقد يكون هذا ليس بالمفاجئ نظرا لتأثير برلين وباريس على قرارات المفوضية الأوروبية، ثم أن هذه المفوضية برئاسة فان لاير تعد الأكثر محافظة ويمينية مقارنة مع باقي المفوضيات السابقة.
يرفع الاتحاد الأوروبي شعار تعزيز مكانته في الساحة العالمية ليصبح ندا لكل من الصين وروسيا والولايات المتحدة، غير أنه يتعرض لما يمكن تسميته «بالتسوس» الداخلي. لعل المؤشر الدال على المأزق الحقيقي للاتحاد الأوروبي هو الانتخابات التشريعية للبرلمان الأوروبي التي جرت خلال حزيران/يونيو 2024. فقد منحت تقدما ملموسا لليمين القومي المتطرف الذي أصبح القوة السياسية الثالثة، إلا أنه تحول إلى القوة السياسية الأولى في فرنسا، البلد المؤسس للاتحاد والذي يدافع عن أوروبا موحدة. فقد حصلت أطياف اليمين القومي المتطرف على 40 في المئة من الأصوات قرابة 32 في المئة منها لصالح التجمع الوطني «الجبهة الوطنية» سابقا. وارتفعت أصوات سياسيين من طينة رئيس الحكومة الأسبق دو فيلبان رئيس حكومة إسبانيا الأسبق فيلبي غونثالث تحذر من التماهي مع المتطرفين وعدم وغياب التفكير في مستقبل الاتحاد الأوروبي. ويترتب عن اقتحام اليمين المتطرف الساحة الأوروبية فقدان دول ذات وزن سياسي كبير وهي فرنسا وألمانيا لغياب الاستقرار الداخلي نتيجة شغب اليمين. إذ تعيش فرنسا أسوأ فتراتها الحكومية منذ الانتخابات التشريعية الأخيرة، أدت إلى حل حكومة ميشيل بارنييه والبحث عن حكومة جديدة برئاسة فرانسوا بايرو. ويدق اليمين المتطرف أبواب الحكومة الألمانية خلال سنة 2025 ونتيجة تقدم اليمين القومي المتطرف، أصبح الاتحاد الأوروبي في سياسته الخارجية موزعا بين دول تؤمن بأوروبا قوية مثل إسبانيا وفرنسا وألمانيا، ودول تراهن على الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب أو ما يمكن تسميته «الترامبية» مثل حالة إيطاليا، ودول ترى في الحوار والتقارب مع روسيا مثل حالة هنغاريا.
بينما فشل الاتحاد الأوروبي في تحقيق توازن وتقدم في القضايا الاستراتيجية الكبرى مثل الصناعة العسكرية والقرار الخارجي الموحد، وبينما ترسم الصين خريطة عمل للتحرك من أجل تعزيز ريادتها للعالم مستقبل، وتسعى الولايات المتحدة إلى الحفاظ على نفوذها العالمي كقوة لا منازع لها، يستمر الاتحاد الأوروبي حبيس ملفات ثانوية وهامشية مثل محاربة الهجرة السرية وكيفية التعامل مع المهاجرين القانونيين.

كاتب مغربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب