2024: عام الأحزان المستباحة والفرح المكسور
مريم مشتاوي
كان العام 2024 مسرحًا لمأساة سوداء لم تخطئ طريقها إلى أي بقعةٍ على وجه الأرض، وكأنّه كان العام الذي اختارت فيه الأقدار أن تصبَّ جام غضبها على البشرية بأسرها.
في غزة، تلك المدينة التي صارت مرادفًا للأنقاض، عاد الموت ليصبح جزءًا من روتين الحياة اليومية. البيوت تهدمت، وصوت الأذان الذي كان يرفع رايات الصمود بات يتداخل مع أصوات الانفجارات، بينما الأطفال يتعلمون الحساب بعدد الأيام التي تفصلهم عن القصف المقبل. النساء ينتحبن، والأطفال يبكون، والرجال ينظرون إلى السماء دون جدوى، وكأنّها لم تعد تسمعهم. سرطان العصر، ذلك الذي يسمى بـ»إسرائيل»، يواصل تمدده كوحشٍ لا يشبع، يلتهم غزة قطعةً تلو الأخرى، في ظل عالم يراقب بصمتٍ متواطئ، عالم كشفته غزة للعراء، وأثبتت أن كل ما يتبجح به من قيم إنسانية وأخلاقية، وما يدعيه من مبادئ حول حقوق وكرامة الإنسان لم تكن سوى أقنعة يغطي بها وجهه البشع.
سموات مباحة
إلى الشمال قليلاً، كان لبنان يغرق في ظلماتٍ أشدّ سوادًا. القرى الجنوبية التي لطالما كانت رمزًا للمقاومة، مسحت من الأرض بدم بارد، ومرة أخرى أمام العالم الذي فقد ضميره الإنساني والأخلاقي. الأرض التي كانت تنبض بالحياة أضحت صامتة، والأشجار التي كانت تروي قصص الأجداد صارت رمادًا.
وبينما يحمل أهل الجنوب صور شهدائهم الجدد ويعلقونها بجوار صور شهداء الماضي، عاشت بيروت اغتصابًا لا يمكن وصفه بالكلمات. الأحياء التي كانت ذات يوم فضاء واسعاً للحياة ملؤها الفرح والمرح، صارت مسرحًا للجريمة، لقد دمرت بالكامل أمام أنظار الجميع. الشوارع التي كانت تضجّ بالحياة باتت خاوية، والمباني التي شهدت على تاريخها تهدمت، تاركةً المدينة جسدا بلا روح. انتهت الحرب على لبنان، ولكن السماء بقيت مستباحة. الطيران الإسرائيلي يمر متى شاء، كأنه يؤكد للجميع أن السلام الذي ظنوا أنهم نالوه ليس إلا هدنة مقنعة للحرب، وأن اليد التي كانت تضغط على الزناد ما زالت تمسك عنق الوطن.
سوريا تستعيد ذاتها
ولكن وسط هذا الظلام الدامس، كان هناك بصيص أمل مع سقوط نظام الأسد في سوريا. خُيّل للأمهات أنّ الأحلام التي دفنوها مع أبنائهن ستُبعث من جديد، واندفعن نحو السجون ليحتضنّ أبناءهن الخارجين من غياهب المعتقلات. شاهدنا سوريا، وهي تبدأ باستعادة ملامحها الضائعة. ولكن الفرحة سرعان ما تحول بعضها إلى صدمة. حكايات سجن صيدنايا، ذلك المكان الذي تجاوزت فيه الوحشية حدود الخيال، بدأت تتكشف. السجناء الذين خرجوا من هناك لم يعودوا أحياءً تمامًا، بل كانوا أشبه بأشباحٍ حملت معها ذكريات الألم والقهر. لم تكن صيدنايا سجناَ، بل مصنع للموت، آلة جهنمية قل مثيلها للسلخ والذبح، والتفنن في تحويل الكائن البشري إلى كومة أشلاء.
وفي لحظة سقوط نظام الأسد، كانت إسرائيل تراقب المشهد عن كثب، وكأنها تنتظر ذلك الحدث لتقضم المزيد من الأراضي السورية. هكذا احتلت قواتها أراضي سورية جديدة.. مرتفعات الجولان التي كانت جرحًا قديمًا بدأت تتوسع، والأرض التي حلم السوريون أن تُبعث فيها حياة جديدة تحولت إلى ساحة أخرى لجشع الاحتلال. كان سقوط النظام بالنسبة لإسرائيل فرصة ذهبية، لنشر سرطانها.
خنساء الوجع
وسط الحكايات المأساوية، برزت امرأة تبحث عن أخيها المفقود. وقفت أمام السجن تحمل صورته، تتأمل الوجوه الخارجة، ولكنّه لم يكن بينهم. دموعها كانت تسيل كجداول من الحزن، وصوتها يرتفع بمناجاة تقطر ألمًا: «باب الحبس سكروا بابو… وبيها السبع يصرخ بنابو. يا جمار قلبي عليك وعلى سوريا.. يا خويا». كلماتها لم تكن مجرد مناجاة، بل شهادة على حجم الكارثة. كانت تصرخ باسم جميع النساء اللواتي فقدن أحباءهن، وباسم وطنٍ فقد كل شيء خلال حكم الأسدين الرهيبين.
كان عام 2024 خليطاً من المشاعر المتناقضة، بين الحزن والفرح، بين الأمل واليأس. ورغم فرحنا الكبير بسقوط نظام الأسد، الذي طالما جثم على صدور السوريين، ورغم عودة الكثير من المهاجرين إلى بلادهم، ولقاء الأحباء بعد سنوات طويلة من الغياب، وخروج عدد كبير من المعتقلين أحياء من السجون التي ظنوا أنهم لن يغادروها أبدًا، إلا أن هذا الفرح كان مكسوا بالخجل. كيف نفرح، ونحن نعلم أن غزة كانت وما زالت تنزف؟ كيف نتبادل التهاني، ونحن نرى أشلاء أطفالها بين الأنقاض ونساءها يصرخن مستنجدات بالعالم ولا من مجيب؟ كيف نبتسم، وهناك أراضٍ سورية تُحتل وأجواء لبنانية تُنتهك، والقهر يتجدد في كل لحظة؟
فرحتنا بسوريا الجديد تبقى ناقصة، ما دامت غزة ما تزال تنزف، والوحش يجول بكل حرية في بقاع أرضنا المنكوبة.
في ختام هذه السنة السوداء، نقف أمام سماءٍ مثقلة بالأحزان، نرفع أيدينا بالدعاء متمنين أن تكون السنة الجديدة سنة خير لكل البلدان العربية، أن تنتهي فيها المآسي، أن تنطفئ نيران الحروب، أن يعود الحق لأصحابه، وأن تُفتح أبواب الفرح التي طال انتظارها. أملنا بسيط، أن يكون الغد أفضل، وأن تجد الأمة العربية طريقها إلى السلام والحرية والكرامة التي تستحقها.
كاتبة لبنانيّة