مقالات

 سوريا والتحديات الكبرى -كلمة طليعة لبنان-

كلمة طليعة لبنان

 سوريا والتحديات الكبرى
طليعة لبنان
خلال اقل من اسبوعين ، انقلب المشهد السياسي في سوريا رأساً على عقب في مايشبه الزلزال الذي لم يكن احد يتوقعه بالسرعة التي حصل فيها ، ناقلاً سورياً من موقعٍ الى اخر بعدما تهاوى النظام الذي حكم سوريا بالحديد والنار على مدى قارب ستة عقود ،وكانت تداعياته شديدة الوطأة على جماهير سوريا التي صودرت حرياتها العامة وخاصة حرية العمل السياسي ، بقدر ماكانت شديدة الوطاة على الامة العربية التي لم تكن جماهيرها تهضم وتستوعب دوران سوريا في غير فلكها القومي نظراً لما يختزنه تاريخها من ارث عروبي ، ولما شكل موقعها من مركز محوري في استراتيجيات العمل القومي . فسوريا كانت طيلة الفترة التي سبقت امساك النظام الذي تهاوى في الثامن من كانون الاول ، اما طالبة لعمل وحدوي واما مطلوبة. ولهذا لم يكن غريباً عليها ريادتها في تجييش الشارع العربي حول قضايا الامة وفي الطليعة منها قضيتي الوحدة وفلسطين ، وهذا مادفع عبد الناصر لان يكرمها بوصف عاصمتها بقلب العروبة النابض ، وهو الذي كان شديد الحرص ان يحتفي بذكرى اعلان الوحدة في دمشق ، حيث كانت ساحة الامويين تغص بالجماهير المحتشدة القادمة من كل المدن والحواضر السورية كما بالقادمين من لبنان والاردن وفلسطين والعراق في تجسيد لتفاعل جماهيري رائع في كل مرة تتم فيها احياء ذكرى الانجاز القومي الاهم في التاريخ العربي الحديث.
ان سوريا ، الذي تفتح الوعي الجماهيري العربي ، على دورها العروبي الرائد ، والتي منها انطلقت حركة النضال العربي المنظم الذي تقوده حركة قومية تقدمية تحررية اعلنت عن نفسها في مؤتمرها التأسيسي في السابع من نيسان ١٩٤٧ ، عاشت فترة طويلة مغرّبة عن حقيقتها القومية الاصيلة ، ليس على مستوى الموقف وحسب ، وانما على مستوى نسج التحالفات مع قوى تناصب العروبة العداء وتتحين الفرص للا نقضاض على الامة وتخريب واقعها السياسي والمجتمعي. لهذا وجدت هذه القوى في ظل النظام الحاكم الفرصة المؤاتية لتوظيف امتيازاته الجوسياسية في توفير مرتكزات المشروع الشعوبي المعادي للعروبة بكل ماتنطوي عليه من منظومة قيمية وتحديدٍ لهوية الامة القومية.
إن سوريا التي عاشت عقوداً وهي مغربة عن واقعها القومي ، ما كان لها ان تستعيد مكانتها وحضورها في سياقات العمل العربي في ظل نظام سياسي توفرت له تغطية دولية من طرفين نقيضين ، ونسج تحالفات وارتبط بتفاهمات مع قوى اقليمية وبشكل خاص مع ايران لتنفيذ اجندة اهدافها الخاصة ، وتحديداً مع الانكشاف الذي واجهته الامة العربية بعد العدوان على العراق واحتلاله واسقاط نظامه الوطني، وقبله باحتواء مصر وتعطيل دورها كرافعة للنضال العربي في مواجهة المشاريع المعادية المهددة للامن القومي العربي.
والتركيز المعادي اذ اشتد على سوريا ،فلأنها تشكل واحدة من اضلع الهرم العربي ، وتمثل واحدة من مرتكزات القوة المادية في البنيان القومي ، حيث هي الاقوى في دول “الجبهة الشرقية ” في مواجهة المشروع الصهيوني الاستيطاني التوسعي ، والافعل في دفع مسيرة النضال العربي ببعديها التوحيدي والتحريري ، ولهذا كان استهدافها لتوظيف معطى واقعها الجوسياسي في الاتجاه المعاكس للمشروع القومي العربي بكل ابعاده.
من هنا ، ماكان بالامكان تغيير هذا الواقع في ظل النظام الذي مارس التقية احياناً والتآمر احياناً اخرى في تعامله مع القضية الفلسطينية ،في نفس الوقت الذي شرّع ابواب سوريا للتغول الا يراني الذي وظّف معطى هذه الساحة في الحد الاقصى من الانتفاع منه ومتصرفاً مع دمشق باعتبارها تحت سيطرته وهو الذي لم يخفِ ذلك ، يوم اعلن في لحظة “فورانه السياسي” وتمدده بان هذه العاصمة هي واحدة من اربع عواصم عربية باتت تحت سيطرته.
لكن هل سقوط النظام السياسي الذي جعل من سوريا موقعاً مرتهنا للمشروع الايراني ، يعني بأن الامور ستعود الى سياقاتها الطبيعية بشكل سلس ؟
ان الاجابة السريعة على هذا التساؤل المشروع ، مرهون بمدى قدرة حركة التغيير وقواها على تجاوز التحديات الكبرى التي تواجه عملية التحول السياسي والانتقال بسوريا من مدار الى اخر . وهذه التحديات بعضها تحكمه العلاقة مع الخارج وبعض اخر تحمكه عملية اعادة البناء الداخلي بجوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إن اول التحديات الذي يواجه النظام الجديد ، هو تحدي الاحتلال الصهيوني. فالعدو الصهيوني الذي يحتل مساحات من الارض السورية ،وسّع مؤخراً رقعة احتلاله بعد سقوط النظام مستهدفاً اعادة احتلال كل المناطق التي احتلت في حرب ال ٦٧ والتي سبق وانسحب من بعضها بموجب اتفاقية فك الارتباط ١٩٧٤، وهو لم يكتفِ بذلك ، بل اقدم على شن هجوم شامل طال كل المواقع العسكرية البرية من مطارات ومقرات قيادة وسيطرة ومرفأ اللاذقية حيث تم تدمير الاسطول البحري وعلى “مرمى حجر” من القاعدة الروسية في حميميم . وهذا مايتطلب تحديد موقف لا يرقى اليه اي التباس ، وهو ان الاحتلال الصهيوني يشكل انتهاكاً للسيادة الوطنية وان الدولة معنية بتحرير ارضها المحتلة وبسط سيادتها على كامل التراب الوطني ، وهذا يدخل ضمن الثوابت الوطنية التي لا تخضع للمساومة ولا للتفريط بها . وهذا يقود الى اعادة الاعتبار الى الموقف القومي الذي كانت سوريا سبّاقة في تبني حيثياته بالنظر الى طبيعة المشروع الصهيوني الذي لم يستهدف فلسطين لذاتها وحسب وانما الامة العربية وسوريا في قلب هذا الاستهداف وسياقات الاحداث تثبت ذلك .
اما ثاني التحديات ، فهو الذي تمثله مصالح قوى الاقليم والتي تجد في الفضاء العربي مدىً حيوياً لتحقيق هذه المصالح. وعلى قيادة حركة التغيير في سوريا ان تتنبه الى مسألتين اساسيتين :
الاولى ، ان استعادة سوريا للعب دورها بالاستناد الى استقلالية قرارها الوطني ، يفرض ان لايستبدل دور ايراني مغادر ومطرود ، بدور تركي قادم ومرحب به ، بل يجب ان تحكم العلاقة مع دول الاقليم ، علاقات حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
الثانية ، ان النظام الايراني الذي كان يعتبر الموقع السوري اساساً في تنفيذ مشروعه ،لن يسلم بسهولة بالهزيمة التي مني منها وادت الى اقتلاعه من سوريا ، بل سيعمد الى كل اشكال التخريب السياسي والامني مستفيداً من الخلايا النائمة التي زرعها ، ومن تركة النظام التي شكلت عصباً للدولة الامنية العميقة.
اما ثالث التحديات ، فهو افهام القاصي والداني بان سوريا لن تكون مقراً للقواعد الاجنبية ولا ممراً للقوى التي تناصب الامة العداء وتسعى للاستفادة من الجغرافيا السورية لخدمة اجندة اهدافها الخاصة.
ان مواجهة هذه التحديات ، بقدر ماهو على درجة من الاهمية لاعادة الاعتبار لموقع سوريا ودورها العربي ، فإن التحديات التي تواجه عملية الانتقال السياسي ليست قليلة وهي على درجة كبيرة من الاهمية ايضاً وهي تتمحور حول ثلاثة عناوين اساسية .
العنوان الاول ، وهو سياسي ، ويتعلق باعادة تكوين السلطة بمؤسساتها السياسية والعسكرية والقضائية والادارية . وهذا يتطلب وضع دستور جديد ينطوي على تأكيدٍ وتشديدٍ على وحدة الدولة ارضاً وشعباً ومؤسسات وتحدّد من خلال احكامه طبيعة النظام السياسي الذي يفترض ان يكون نظاماً ديموقراطياً ، تمارس في ظله ديموقرطية الحياة السياسية ، وتحترم فيه حقوق المواطنة على قواعد المساواة في الحقوق والواجبات دون تمييز على اساس ديني او عرقي او جهوي .
اما العنوان الثاني، فهو اعادة البناء الاقتصادي ، فسوريا لم يكتفُ النظام المتهاوي بتدميرها سياسياً وحسب ، بل دمرها اقتصادياً عبر تمكين زبانيته ومافياته من التحكم بالمفاصل الاقتصادية ، ومعه سادت تجارة الممنوعات والمخدرات وهو ماادى الى انهيار العملة الوطنية ، وتدني مستوى المعيشة ، فضلاً عن التدمير شبه الشامل الذي طال مدناً وقرى بكاملها بحجة مواجهة الارهاب علماً ان النظام وراعية الاقليمي الذي مثله النظام الا يراني ، هما من ادارا شبكات الارهاب والقتل والتدمير والتهجير والتغيير الديموغرافي. ولهذا فان تحدي اعادة البناء والتاهيل الافتصاديين يؤديان وظيفة وطنية في اعادة الحياة للعجلة الاقتصادية ، وسوريا غنية بمواردها وتكاد تكون من الدول العربية القليلة القادرة على تأمين توازن اقتصادي بين انتاجها وانفاقها.
اما العنوان الثالث ، فيتمثل في مدى القدرة على تطبيق مبدأ العدالة الانتقالية، التي تقر الاعتراف بحقوق ضحايا التعذيب والتعسف الذي مارسه النظام السابق والتعويض عليهم ومحاسبة المسؤولين عن ارتكاب الجرائم التي ارتكبت بحق الافراد والجماعات الذين حرموا من ابسط حقوقهم الانسانية التي كفلتها المواثيق الدولية. وباختصار العبارة انه تحدي الانتقال من الدولة الامنية الى دولة المواطنة التي تحترم فيها الحريات العامة وتتم ممارستها تحت سقف القانون مرهون بتطبيق العدالة الانتقالية التي هي واحدة من السبل الواجبة الاخذ باحكامها لانجاز عملية التأهيل المجتمعي .
ان مواجهة هذه التحديات المتعلق منها بدور سوريا الوطني وموقعها القومي كما المتعلق منها بالبناء الداخلي واقامة الدولة الوطنية الديموقراطية والاسراع بتطبيق مبدأ العدالة الانتقالية ، يتطلب تضافر جهود كل القوى الحريصة على وحدة سوريا وحماية هويتها القومية وبناء نظامها السياسي الديموقراطي . وهذا لاتستطيعه قوة بمفردها ، بل يجب ان تساهم فيه كل القوى التي واجهت نظام الا ستبداد والقمع وقدمت التضحيات الجسام منذ اكثر من خمسة عقود الى اللحظة التي سقط فيها وتهاوى باسرع من لمح البصر.
وعليه فان المشروع السياسي لبناء سوريا الجديدة ، بحاجة الى رافعة سياسية والى حاضنة شعبية. واذا كانت الحاضنة الشعبية للتغيير قائمة وعبرت عن نفسها بتعبيراتها الا حتفالية التي اعقبت السقوط المدوي ، الا ان الرافعة السياسية لم تتوفر معطيات تشكيلها حتى الان . وهذا يتطلب اولاً ، ترفعاً من القوى الميدانية عن حساباتها الفئوية ، والانخراط في ورشة بناء الدولة دون اقصاء لاحد . كما يتطلب ثانياً ، حضوراً فاعلاً للقوى الوطنية بكل عناوينها القومية والديموقراطية عبر وحدة صفوفها ورؤيتها للبناء السياسي ، وهي بحضورها الفاعل تشكل الضمانة لاعطاء التغيير مضمونه الوطني ، وتحول دون الا نزلاق بسوريا نحو نظام سياسي لاتتحقق فيه وحدة المواطنة على قاعدة الدين لله والوطن للجميع.
اما عن عروبة سوريا ، فهي لن تكون الا عربية الهوى والموقع رغم ماتعرضت له من تشويه لدورها ، ودمشق ستعود قلب العروبة النابض ، شاء من شاء وابى من ابى. “ان الطبع اقوى من التطبّع”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب