البيئة في مرمى النيران: كيف تؤثر الحرب على الموارد الطبيعية والحياة البرية في غزة؟
البيئة في مرمى النيران: كيف تؤثر الحرب على الموارد الطبيعية والحياة البرية في غزة؟
بهاء طباسي
غزة ـ : تُعاني غزة منذ سنوات من آثار حربٍ مستمرة وحصارٍ خانق، حيث لم يقتصر هذا الصراع على الأضرار البشرية والمادية فقط، بل امتد ليشمل الموارد الطبيعية والحياة البرية. بات القطاع المحاصر مثالًا حيًا على التداخل بين النزاعات المسلحة والأزمات البيئية، الأرض، الماء، والهواء، كلها أصبحت في مرمى النيران، ما أضاف بُعدًا جديدًا ومُقلقًا للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
لا يتوقف الدمار عند فقدان المحاصيل أو تلوث المياه، بل يمتد ليؤثر على الكائنات الحية بأكملها، بما في ذلك الحيوانات والنباتات التي كانت تزدهر في المنطقة. ومع كل جولة من جولات التصعيد العسكري، يظهر وجه آخر من الكارثة البيئية، إذ يُستخدم التدمير البيئي كأداة لتضييق الخناق على السكان وتجريدهم من مقومات الحياة الأساسية. هذه الانتهاكات، التي تجري في غياب أي رقابة دولية فعالة، تُعد بمثابة جريمة بحق البيئة والإنسانية.
وهنا نلقي الضوء على الأثر المدمر للحرب والحصار على الموارد الطبيعية والحياة البرية في غزة، بالاعتماد على شهادات ميدانية، وتقارير وزارية، ودراسات صادرة عن منظمات بيئية محلية ودولية.
كما نسعى إلى تقديم صورة متكاملة للأضرار البيئية، وكيف تُستخدم كجزء من استراتيجية الاحتلال لإضعاف السكان، من خلال عرض قصص المزارعين والصيادين، وتحليل البيانات المقدمة من الخبراء، تحاول «القدس العربي» الكشف عن حجم الكارثة البيئية وأبعادها المختلفة.
القصف والحصار:
دمار شامل للمياه والتربة
أولاً: المياه
تمثل المياه أحد أكبر التحديات البيئية في غزة. بسبب القصف المتكرر للبنية التحتية، تُدمر خطوط إمداد المياه وشبكات الصرف الصحي بشكل دوري. ووفقًا لتقرير صادر عن وزارة الزراعة الفلسطينية، فإن حوالي 97 في المئة من المياه الجوفية في غزة غير صالحة للاستهلاك البشري نتيجة تلوثها بالنترات والملوحة العالية. الحرب الأخيرة دمرت العديد من محطات تحلية المياه، ما فاقم الأزمة.
أحد المزارعين المحليين، عبدالحميد البشيتي (56 عامًا)، أوضح لـ«القدس العربي» خلال حديثه: «تدمير الآبار ومنع استيراد المعدات اللازمة لإصلاحها جعلنا نعتمد على مياه ملوثة لري محاصيلنا، ما أثر سلبًا على جودة الإنتاج الزراعي».
كما أضافت أم سعيد، من سكان المناطق الريفية، قائلة: «نحن نعاني من شح المياه النظيفة، وأطفالنا يمرضون باستمرار بسبب استخدام المياه الملوثة حتى في الغسيل والتنظيف».
ثانيًا: الأراضي الزراعية
تُعتبر الأراضي الزراعية في غزة هدفًا مباشرًا للقصف. أظهرت تقارير وزارية أن حوالي 35 في المئة من الأراضي الزراعية تعرضت للتجريف أو القصف منذ بداية الحصار.
وتُشير التقارير إلى أن الاحتلال يلجأ إلى رش المبيدات السامة على الحدود، ما يؤدي إلى تدمير المحاصيل.
الناشط البيئي خليل الهوبي يُعلق قائلاً: «الاحتلال يستخدم أساليب ممنهجة لتدمير القطاع الزراعي، سواء عبر القصف أو منع إدخال البذور والأسمدة».
وأشار المزارع الذي يعمل في منطقة بيت حانون خلال حديثه لـ«القدس العربي»: «أصبحنا نخشى الزراعة في الأراضي القريبة من الحدود، لأن القصف العشوائي يجعل حياتنا ومحاصيلنا عرضة للخطر».
إحصائيات مرعبة
مدير مكتب الإعلام الحكومي في غزة، إسماعيل الثوابتة، كشف عن إحصائيات وأرقام مرعبة فيما يتعلق بالآثار المدمرة لحرب السابع من أكتوبر على القطاع البيئي.
وقال إن الحرب والحصار المستمرين على قطاع غزة تسببا في دمار هائل للبيئة والموارد الطبيعية، إذ تشير الإحصائيات إلى أن ما يزيد عن 35 في المئة من الأراضي الزراعية قد تعرضت للتجريف أو التدمير بالقصف، ما أفقد القطاع الزراعي حوالي 50 مليون دولار سنويًا نتيجة فقدان المحاصيل وإتلاف التربة.
الثوابتة أضاف لـ«القدس العربي» أن 97 في المئة من المياه الجوفية في غزة غير صالحة للاستهلاك البشري؛ بسبب التلوث بالملوحة والنترات، وهي أزمة تفاقمت بفعل تدمير أكثر من 70 بئرًا ومحطات معالجة مياه خلال العقد الأخير.
وفيما يتعلق بالثروة السمكية، أشار الثوابتة إلى أن الحصار البحري قلّص مساحة الصيد من 15 ميلًا إلى صفر ميل بحري، مما أدى إلى انعدام الصيد تمامًا وتوقف قطاع الإنتاج السمكي بالكامل.
ولفت إلى أن القصف وتدمير البنية التحتية (الموانئ) أدى إلى تلوث الشواطئ وموت أعداد كبيرة من الكائنات البحرية بسبب تسرب الوقود والنفايات.
وأوضح مدير مكتب الإعلام الحكومي في غزة أن استهداف البيئة يعد جزءًا من استراتيجية الاحتلال لإضعاف السكان وتجويعهم، داعيًا المجتمع الدولي إلى التدخل الفوري لوقف هذه الجرائم البيئية وتقديم الدعم اللازم لإعادة تأهيل الموارد الطبيعية في القطاع: «إن إعادة بناء غزة لن تكتمل من دون معالجة الأضرار البيئية الكارثية التي طالت كل جوانب الحياة فيها».
الحياة البرية: كائنات مهددة بالانقراض
الحصار والحرب لم يُدمرا بيئة الإنسان فقط، بل طالا أيضًا الحياة البرية. يُلاحظ أن العديد من الأنواع الحيوانية في غزة باتت مهددة بالانقراض بسبب تدمير المواطن الطبيعية والتلوث البيئي.
الدكتورة آية أكرم، خبيرة بيئية في جامعة الأزهر بغزة، تقول لـ«القدس العربي»: «التلوث الناجم عن الأسلحة يُحدث خللاً كبيرًا في التوازن البيئي. على سبيل المثال، الطيور المهاجرة باتت تتجنب غزة بسبب القصف المستمر، ما يؤثر على التنوع البيولوجي».
كما أكد الأستاذ فادي المصري، مختص في البيئة البحرية، أن الشواطئ أصبحت مليئة بالملوثات الناتجة عن الحصار والتفريغ العشوائي لمياه الصرف الصحي، ما أدى إلى نفوق أعداد كبيرة من الكائنات البحرية.
مزارعون:
فقدنا 70 في المئة من إنتاجنا السنوي
محمد النجار، مزارع في المنطقة الشرقية قال لـ«القدس العربي» عن تجربته: «بعد القصف الأخير، فقدنا 70 في المئة من المحصول السنوي. حتى التربة أصبحت ملوثة بسبب المواد الكيميائية الناتجة عن القنابل».
وأضاف: «العمل في الزراعة أصبح مغامرة خطيرة؛ نحن نعمل تحت تهديد مستمر بالقصف أو التدمير، في أحيان كثيرة لا نستطيع الوصول إلى أراضينا».
النجار أشار إلى أن المزارع أصبحت ملجأً للنازحين من كافة مناطق قطاع غزة: «لم يبق هناك مزارع أو تربية حيوانية، المزارع أصبحت مليئة بالخيام، والناس الفارين من ويلات الحرب، وحتى هناك يلاحقهم جيش الاحتلال ويقتلهم».
عائشة أبو خوصة، مزارعة تعمل في زراعة الزيتون، قالت: «شجرة الزيتون بالنسبة لنا ليست مجرد مصدر دخل، بل رمز للصمود. لكن الاحتلال يقتلعها بشكل ممنهج لتدمير اقتصادنا ورمزنا الوطني».
صيادون: الصيد أصبح مخاطر يومية
أما أحمد الكحلوت، وهو صياد من مدينة غزة، فيوضح: «الحصار البحري قلص مساحة الصيد المسموح بها بشكل مبالغ فيه، ما أدى إلى انخفاض حاد في كميات الأسماك المتاحة».
وأضاف لـ«القدس العربي»: «حتى داخل المساحة المسموحة، تُطلق الزوارق الإسرائيلية النار علينا بشكل متكرر، ما يجعل الصيد مخاطرة يومية».
حسن أبو سعدة، صياد آخر، تحدث عن تأثير التلوث على الحياة البحرية قائلاً: «تسرب الوقود والنفايات في البحر أدى إلى انخفاض كبير في عدد الأسماك. شبكاتنا تُخرج أكثر نفايات أو أسماكا ملوثة».
منظمات: الاحتلال يعمل
على تدمير ممنهج للبيئة
المنظمات البيئية المحلية والدولية تلعب دورًا محوريًا في توثيق هذه الجرائم. جمعية «أصدقاء البيئة» في فلسطين أكدت أن الاحتلال يستخدم القصف لتدمير البنية البيئية كجزء من استراتيجية مُمنهجة. بينما أشار تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة «UNEP» إلى أن غزة قد تحتاج إلى عقود لإصلاح الأضرار البيئية الناتجة عن الصراع.
كما أوضح المهندس البيئي سامر أبو شمالة أن «الجهود الدولية رغم أهميتها ما زالت غير كافية. نحن بحاجة إلى تحرك أكبر لفرض ضغوط على الاحتلال لوقف استهداف البيئة بشكل ممنهج».
ابتكارات وحلول محلية
رغم الصعوبات، بدأت بعض المبادرات المحلية باستخدام الزراعة المائية وتقنيات إعادة تدوير المياه لمواجهة ندرة الموارد. المهندس الزراعي سليمان ظهير أوضح أن هذه التقنيات أثبتت فعاليتها في تحسين الإنتاج وتقليل الاعتماد على المياه الجوفية.
ظهير يقول لـ«القدس العربي»: «الزراعة المائية، التي تعتمد على أنظمة مغلقة يتم فيها إعادة استخدام المياه بشكل مستدام، ساهمت في تقليل تأثير نقص المياه الجوفية على الزراعة. كما تُعد هذه التقنية مناسبة للبيئة في غزة حيث المساحات الزراعية محدودة».
إضافة إلى ذلك، تمكنت بعض المزارع من إنشاء أنظمة حديثة لتحلية المياه باستخدام الطاقة الشمسية، ما ساهم في تحسين كفاءة الري وتقليل الكلفة على المزارعين.
مثال على ذلك، مشروع في منطقة خان يونس يديره فريق من المهندسين الشباب، حيث تم تطبيق نظام زراعة رأسي يعتمد على إعادة تدوير المياه بنسبة 90 في المئة، وهو ما يعتبر إنجازًا بارزًا في ظل الحصار والقيود المستمرة على المعدات الزراعية.
سليمان ظهير يوضح: «رغم محدودية الموارد وصعوبة استيراد المعدات، أظهرت هذه المبادرات أن الابتكار المحلي يمكن أن يكون حلاً عمليًا للتغلب على الأزمات».
وأكد أن استمرار هذه المشاريع يحتاج إلى دعم دولي لإدخال التقنيات المتقدمة وتوسيع نطاق التطبيق.
دعم دولي لإعادة إعمار البيئة
يتوجب على المجتمع الدولي الضغط لإنهاء الحصار والسماح بإدخال المعدات والتقنيات اللازمة لإعادة تأهيل البنية البيئية. تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي «UNDP» أشار إلى ضرورة تخصيص تمويل دولي لدعم مشاريع إعادة الإعمار البيئي.
التقرير أكد أن أكثر من 80 في المئة من البنية البيئية في غزة بحاجة إلى تدخل عاجل لإعادة التأهيل، خاصة في مجالات المياه ومعالجة النفايات.
كما دعا إلى تشكيل لجان دولية للإشراف على تنفيذ مشاريع البنية التحتية، وضمان عدم عرقلة الاحتلال لها. بالإضافة إلى ذلك، أشار التقرير إلى أن الاستثمار في التقنيات الخضراء مثل الطاقة الشمسية وإعادة التدوير يمكن أن يُحدث تحولًا كبيرًا في الوضع البيئي.
تعزيز الوعي البيئي
ينبغي تعزيز برامج التوعية البيئية لسكان غزة لمواجهة التحديات اليومية والحفاظ على ما تبقى من موارد طبيعية. برامج التوعية تشمل تعليم الأطفال على أهمية الحفاظ على البيئة رغم الظروف الصعبة.
والشاهد على ذلك ما رصدناه من قيام بعض الجمعيات المحلية بتنظيم ورش عمل للأطفال تُعلمهم كيفية زراعة الأشجار في المنازل الصغيرة، وكيفية الاستفادة من النفايات المنزلية لإنتاج السماد الطبيعي. هذه الأنشطة لا تهدف فقط إلى زيادة وعي الأطفال، بل تسعى أيضًا إلى خلق جيل مُدرك لقيمة الموارد الطبيعية وكيفية حمايتها.
بالإضافة إلى ذلك، يتم تنفيذ برامج إذاعية وتلفزيونية تستهدف الأسر في غزة، تقدم نصائح يومية حول ترشيد استهلاك المياه والطاقة، وتحفيز السكان على المشاركة في مبادرات تنظيف الشواطئ والمناطق الزراعية.
وخير دليل على ذلك مبادرة «أخضر رغم الحصار» التي نظمت حملات زراعة جماعية بالتعاون مع المدارس والمجتمعات المحلية لتعزيز ثقافة الاستدامة البيئية.
إضعاف قدرة الفلسطينيين على الصمود
الحرب والحصار في غزة ليسا مجرد نزاع سياسي أو عسكري، بل يشكلان كارثة بيئية مستمرة تمتد تداعياتها إلى كافة مظاهر الحياة. إن استهداف البيئة في غزة يعكس استراتيجية متعمدة تهدف إلى تفكيك أسس الحياة اليومية وإضعاف قدرة السكان على الصمود. والموارد الطبيعية التي كانت يومًا ما مصدر رزقٍ ورفاهية، تحولت إلى تحديات يومية تكافح الأسر الغزية للتعامل معها.
الحلول لهذه الأزمة تتطلب شراكة دولية فعالة تتجاوز حدود الإدانة اللفظية، نحو تحركات ملموسة تضمن حماية البيئة وإعادة تأهيلها. لا يمكن أن يُترك سكان غزة وحدهم في مواجهة أزمة مركبة بهذا الحجم، تتطلب تدخلات عاجلة على مستويات سياسية وبيئية واقتصادية.
إضافة إلى ذلك، فإن التركيز على إعادة بناء النظام البيئي يجب أن يترافق مع تطوير حلول مستدامة تقلل من اعتماد السكان على الموارد التي تتعرض للتدمير المتكرر. هذا يشمل تعزيز الابتكارات الزراعية، وتطوير تقنيات التحلية، وتعزيز برامج إعادة التدوير والتوعية البيئية.
والخلاصة: غزة ليست فقط قضية سياسية أو إنسانية، بل هي نموذج حي للصراع بين الإنسان والبيئة في ظل الحروب. إنقاذ بيئة غزة ليس مجرد مطلب للسكان المحليين، بل هو مسؤولية عالمية تُذكرنا بأن الحفاظ على البيئة يتجاوز الحدود الجغرافية. بتكاتف الجهود الدولية والمحلية، يمكن تحويل غزة من رمز للمعاناة إلى مثال للصمود والابتكار البيئي، ما يُعطي أملًا جديدًا لأجيالها القادمة وللعالم بأسره.
«القدس العربي»