الثقافة المصرية في عام 2024: محاولات فردية في مواجهة صخب الدولة الغائبة

الثقافة المصرية في عام 2024: محاولات فردية في مواجهة صخب الدولة الغائبة
محمد عبد الرحيم
القاهرة ـ لا تنفصل الحالة الثقافية والمناخ الثقافي عن المناخ السياسي العام، فهي جزء من كل، خاصة في حالة القمع السياسي والوضع الاقتصادي المتفاقم الذي تعيشه مصر منذ سنوات. فكيف يمكن لثقافة أن تنهض أو تتنفس؟
لا نجد سوى زخم الكَم الذي تنتهجه الدولة مُمَثلة في وزارة الثقافة المصرية، من مهرجانات واحتفالات وشعارات فارغة لا تعبّر عن واقع، مستخدمة في ذلك وسائلها المعهودة ووجوهها المُستَهلَكة التي لا تجيد إلا الدعاية والتهليل لأي نظام حاكم. وفي مقابل ذلك ـ كالعادة ـ تأتي بعض المحاولات، سواء تمثلت في مجهودات فردية، أو أنشطة ثقافية تقوم بها دور النشر الخاصة على استحياء، وفي أضيق الحدود، حتى الندوات التي تصاحب إصدار جديد هنا، أو هناك، أصبحت شكلا من أشكال المهام الانتحارية، فمن الممكن وبكل سهولة أن تتم مداهمة الندوة والقبض على حاضريها، الذين في الغالب لا يُحادثون إلا أنفسهم، فلا يسمعهم أحد ولا يدري بهم أحد! وقد تم ذلك بالفعل في ندوة أقيمت في إحدى دور النشر، وتتابعت الأخبار منذ أيام بمنع هذه الدار من الاشتراك في معرض الكتاب هذا العام 2025! هذه لمحة بسيطة عن المناخ العام الذي تعيشه مصر.
معارك آمنة
بما أننا في بلد يمتلك إرثاً ثقافياً لا ينكره أحد، ولا بد من التباهي ببعض الأسماء المؤثرة، التي يتم استخدامها فقط لحفظ ماء الوجه، والتي لا يتم تبني أفكارها أو تفعيلها، فقط التشدق بالكلمات والعبارات، من قبيل (حرية الفكر) و(الثقافة للجميع) وهذه العبارات الدعائية التي وصلت حد الابتذال. شهد هذا العام بعضا من المشكلات المفتعلة، التي وجدتها الصحف ومواقع التواصل فرصة لإثبات أن أصحابها لا يزالون على قيد الحياة.
ففي الدورة الـ55 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، حضرت شخصية طه حسين (1889 ــ 1973) في مؤتمر عنوانه «استعادة طه حسين»، وانهالت الأبحاث والمقالات والجلسات، وقامت القيامة عندما تعرّض الناقد والأكاديمي العراقي عبد الله إبراهيم لكتاب طه حسين «مستقبل الثقافة في مصر» قائلاً، إن الكتاب هو «نتاج التقرير الذي كتبه حسين إلى المندوب السامي البريطاني وقتها، وهذا لا ينتقص من طه حسين لأنه ابن زمانه، من دون أن ننسى أنه ابن التجربة الاستشراقية. وأتمنى أن لا ندفع طه حسين للقداسة، وعلينا تحليل كتاباته وألا نتعبد في محرابه».
طه حسين مرّة أخرى
كانت المعركة السابقة في شهر يناير/كانون الثاني، ثم قامت (عَرْكة) أخرى في شهر مايو/أيار، بمناسبة تدشين مركز (تكوين) ـ كيان تم تدشينه بمباركة النظام المصري بالأساس ـ الذي ضم شخصيات شهيرة بإثارة الجدل ـ فقط ــ في القضايا الدينية، دون المساس بمناقشة قضايا مُلحّة كالاعتقالات والحريات والديمقراطية والسلطة العسكرية والوضع الاقتصادي المتردي. ولم يجدوا سوى طه حسين أيضاً، خاصة بعدما وجّه يوسف زيدان، دون مقدمات سؤاله لفراس السواح، إن كان هو الأهم أم طه حسين؟ ورد الأخير «أنا أهم وأنت أهم»، بعدها تباهى زيدان بتوزيع كتبه التي تفوق توزيع كتب طه حسين! ولكن بعد أن قامت القيامة، خاصة من حزب المثقفين الغيورين أصحاب المعارك الآمنة، اعتذر فراس السواح موضحا أنه فهم تساؤل زيدان له على أنه (مُزحة)، وأن ردّه بالتالي (مزاح).
بعيداً عن وزارة الثقافة
وبخلاف وزارة الثقافة ومهرجاناتها وروادها المعهودين، نجد فعاليات ثقافية أخرى نظمتها مؤسسات مستقلة مثل (مهرجان التحرير الثقافي) في دورته الأولى، الذي نظمته الجامعة الأمريكية في القاهرة، حيث كانت مدينة القاهرة هي ثيمة مهرجان هذا العام، من حيث ذاكرة المكان من شوارع وعمارة وشخصيات وأحداث. كذلك جاءت فعاليات (ملتقى القاهرة الأدبي) السادس بإشرف الناشر محمد البعلي، الذي جاء تحت عنوان «الكتابة والذاكرة»، وضم العديد من الندوات المهمة، كندوة ضمت إبراهيم عبد المجيد وإبراهيم نصر الله، إضافة إلى ندوة صنع الله إبراهيم والكاتب البرازيلي أنريكي شنايدر، التي اختتمها إبراهيم قائلاً بمناسبة أحداث غزة.. «أطالب النظام المصري وحكومته بسحب السفير الإسرائيلي من القاهرة».
إصدارات لافتة
بالطبع لا يمكن الإحاطة بإصدارات العام كافة، ولكنها انتقائية حسب الاستطاعة، ذلك بخلاف أسعار الكتب التي أصبحت لمن استطاع إليها سبيلا في ظل تدني العُملة المصرية. نذكر من هذه المؤلفات.. كتاب ريشار جاكمون «بين كتبة وكُتاب» الصادر في طبعته الثانية عن دار صفصافة للنشر، وهو في الأصل رسالة دكتوراه للمؤلف، ويدور حول تحليل علاقة الأديب بالمؤسسة، متمثلة في الدولة وأجهزتها، وكيفية صياغة الكاتب نفسه، وأعمال مهمة وأخرى مُهمشة يقيّمها سدنة السلطة. كذلك كتاب «فرقة العمال المصرية.. العرق والفضاء والمكان في الحرب العالمية الأولى» للباحث الأمريكي كايل أندرسون ـ في الأصل رسالته للدكتوراه التي حصل عليها في 2017 ـ ترجمة كل من شكري مجاهد ومحمد صلاح، وصدر عن المركز القومي للترجمة في القاهرة. يستعرض الكتاب قصة (فرقة العمال المصرية)، وهم مجموعة كبيرة من المصريين ـ حوالي نصف مليون ـ تم تجنيدهم بالإكراه في الحرب العالمية الأولى من جانب سلطة الاحتلال البريطاني، أغلبهم من الريف المصري شماله وجنوبه، قاموا بأعمال المساعدة العسكرية في الحرب، سواء في الشرق الأوسط أو أوروبا.
الثورة المصرية
كتابان صدرا في 2024 تناولا ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، أولهما بعنوان «أشباح يناير» لمؤلفه محمود فطين، والصادر عن دار (المرايا) للنشر. والآخر بعنوان «شاهد من أهلها.. سيرة من الضفة الأخرى» للكاتب العميد خالد سلامة، والصادر عن مركز (إنسان) للدراسات والنشر. كل من الكتابين يعبّر عن رؤية مختلفة ومتناقضة تماماً للثورة المصرية وأحداثها، فالأول ثوري والآخر ضابط شرطة، ولك أن تتخيل المفارقة بين وجهتي النظر، لتصدق مقولة إن «الثورة تحكم بنتائجها».
جوائز الرواية
ضمت القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، التي فازت بها رواية «قناع بلون السماء» للفلسطيني باسم خندقجي، رواية مصرية واحدة بعنوان «مقامرة على شرف الليدي ميتسي» للكاتب أحمد المرسي، بينما ضمت القائمة القصيرة لجائزة نجيب محفوظ للرواية (3) روايات مصرية.. «السيدة الزجاجية» عمرو العادلي، «الوراق أبو حيان التوحيدي» هشام عيد، و»بيت القاضي» محمود عادل طه. وفاز بها الكاتب اللبناني محمد طرزي عن روايته «ميكروفون كاتم صوت». أما جائزة كتارا، ففي فئة الروايات المنشورة فازت رواية «بيادق ونيشان» للكاتب يوسف حسين. وفي فئة رواية الفتيان فازت الكاتبة شيماء جمال الدين عن روايتها «بيت ريما».
طوفان الأقصى والثورة السورية
وربما يصبح أفضل ختام لهذا التقرير السريع عن العام الفائت هو انقسام مَن يمتهنون الثقافة بمفهومها الواسع، مؤكداً حال مثقفي حظيرة الدولة وحال المثقفين المغضوب عليهم، بداية باستشهاد يحيى السنوار، وصولاً إلى الثورة السورية التي فتحت أفقاً جديداً في المنطقة، وكأنها قبلة الحياة لثورات الربيع العربي التي تم التواطؤ على وأدها في المهد.
كاتب مصري
«القدس العربي»: